في أقل من خمس سنوات، سقط من أبناء العالم العربي بسلاح الإرهاب نحو نصف مليون قتيل، وتشرد عدد من الملايين الذين باتوا في حكم المهجرين، وابتلع البحر مئات العائلات خلال هروبها من العالم العربي إلى شط الأمان الأوروبي.. فكيف الخروج من هذا الواقع المرير؟! لابد أولا من الفصل بين العمل الثقافي لمحاربة الإرهاب، وهو أمر يمتد لفترات طويلة، وبين المواجهة العسكرية التي يرى كثيرون أهميتها وأنها أمر لا مناص منه.
إن الخطاب السياسي والديني الموجه ضد الإرهاب، ينبغي أن يكون أكثر وضوحاً كي لا يتغلغل الفكر المتطرف أكثر مما هو في المنطقة. ولقد أطلق أمين عام الأمم المتحدة «بان كي مون» تصريحاً مفاده أن «الإرهاب لن ينتهي بالضربات الجوية، ولكنه ينتهي عندما نقتل رأس الإرهاب». وبغض النظر عما قصده بعبارة «رأس الإرهاب»، فالمطلوب، عربيا وإسلاميا، هو تجفيف منابع الإرهاب الذي يبدأ من داخل خلايا الرأس. فالحرب على الإرهاب، خاصة ببعديها الديني والفكري، من مسؤولية العرب والمسلمين أولا. فالإرهاب لم ولن يتوقف الا بجهود مجتمعة تنشئ جيلا يتم تأهيله للتصدي لأي فكر متشدد يحاول التغلغل في المجتمعات. فاستئصال الإرهابيين لا يكون إلا من خلال التأثير على العقول، فالغلو أبرز سماتهم، والأمة العربية، ومنذ عهد الاستقلال، فشلت في تحصين مجتمعاتها من تلوث العقول.
دوماً يحتاج الناس إلى إعطاء معنى جديد للحياة. صحيح أن هناك صعوبات أمام تجديد الخطاب الديني، خاصة في ظل مواقف رسمية (لدى القلة) متخوفة من أي طرح جديد، فضلا عن ضعف راهن في مكانة المؤسسات الدينية التي لا تملك إلا هامش حركة محدودا. واليوم، بات الأمر يحتاج لعملية جراحية طارئة تبدأ بتفعيل دور المؤسسات الدينية المعنية بالفتوى، والتي فقدت الكثير من مقوماتها، عبر الدعوة إلى مبادرات ترسخ معنى الوسطية باعتباره نقيضاً للتطرف الديني، تركز على تصحيح المفاهيم، خاصة في ظل تحوير الكثير منها وإخراجها من سياقها وعلى رأسها مسألتا «الجهاد» و«التكفير».
ومن الأمور التي اتفق عليها المشاركون في ورشة العمل الخاصة بمعالجة ظاهرة الإرهاب، والتي أقامتها صحيفة «الاتحاد» في أكتوبر الماضي، وكذلك المؤتمر الجامع الذي عقده «مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي» في العاصمة النمساوية، في يومي 18 و19 نوفمبر الماضي، مسألة الإصلاح الديني الشامل، أي تجديد الخطاب الديني، وتجديد مناهج التعليم الديني، وتصويب المفاهيم الكبرى التي تؤكد ثوابت الدين وتمنع استغلالها من جانب المتطرفين. وعليه، بات من الملح النظر في إعادة بناء المؤسسات الدينية بما يؤدي إلى قيامها بواجبها في التعليم والفتوى والإرشاد.. وفق المنهج الإسلامي الوسطي الصحيح. هذا الأمر يستتبعه إصلاح النظام التعليمي وتطوير منظومة التعليم بوحدة متكاملة واستبدال أسلوب التعليم التلقيني بأسلوب التعليم الابتكاري والإبداعي، والتركيز في المناهج التعليمية على النهضة العلمية المعاصرة.
كذلك، يأتي دور السلاح الأخطر في عالم اليوم، ألا وهو سلاح الإعلام. ففي ظل ظاهرة إرهابية تملك مقومات إعلامية مذهلة تُبرز أيديولوجيتهم وأفكارهم التي يبررون بها أعمالهم الإجرامية، يصبح للإعلام البديل دور كبير في تدعيم مفاهيم المواطنة والوحدة والتماسك الاجتماعي، مع النأي عن بث ونشر أشكال الخطاب المتطرف الطائفي والإثني في التغطيات الإخبارية والتحليلات، وهو الأمر المنتشر في العديد من الفضائيات العربية. فما المانع من تدشين إعلام مضاد لإعلام الارهاب؟ بل ما المانع من تدشين حوار مع الشباب والنزول إلى مستواهم «العمري»؟ فالمعركة ضد الإرهاب هي فكرية بالأساس. إذن، لا مناص من خطة فكرية شاملة تتخذ شكل حملة توعية هادفة إلى عزل الإرهاب عن الجماهير وجعل النضال ضده صراعاً بين الشعب وبين الجماعات الإرهابية، تشارك فيه مختلف القنوات الإعلامية، من فضائيات وتليفزيونات وإذاعات وصحف وندوات واجتماعات جماهيرية، بل وفي المدارس أيضاً.
يشكل الإرهاب اليوم المشكلة الأولى في العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي فإن الأولوية يجب أن تعطى لحل هذه المشكلة كمفتاح لحل سائر المشكلات المستعصية الأخرى. ولأن مصدر الإلهام الروحي للإرهاب «الإسلاموي» لطالما نبع من الأفكار المتخلفة، سواء أكانت دينية أم قومية، فلا حل اليوم للقضاء عليه إلا عبر خطاب إسلامي حداثي معتدل، مع إعادة طرح موضوع التراث لتخليصه من كل ما علق به من أكاذيب وأباطيل. وحقاً، لابد من مواجهة ظاهرة الإرهاب على مستوى الجذور قبل الفروع، منعاً لتفاقمها.
*كاتب/ “الاتحاد”