لاشك أن التغيير الذي أعقب الانتخابات البرلمانية في العراق يعد تغييرا مهما، ومهما جدا ولكنه ليس جوهريا. مهما لأنه أقصى السيد المالكي من منصبه رئيسا للوزراء رغم محاولته التشبث بالبقاء وإمساك الكرسي بأسنانه، لكن السياسة جرت بغير ما يشتهي، ولم تنفعه كل أساليب الالتفاف والحيل، فاستسلم مرغما وليس زهدا بالرئاسة أو وإيثارا منه، فهو لم يكن من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وقد ثبت بالدليل القاطع أن السيد المالكي لم يكن عراقيا في سياسته، ولا ديمقراطيا في حكمه، ولا أمينا على شعبه، وخالف كل القوانين والأعراف الرئاسية، وقادت رئاسته العراق إلى الانقسام الطائفي والعرقي والأسري، بدد الأموال وفرط بها، وانتهك حرمة المبادئ واستفرد بالسلطة، فجلب للعراقيين الكوارث والمآسي التي لم تقتصر على الدهم والسجن والقتل والإعدام والاغتيالات والاغتصاب وسرقة الأموال فحسب، بل أثارة الفتنة بين الطوائف والملل، وأدخل مكونات البلد وأعراقه بصراع لا مخرج منه. وأخيرا سلم نصف العراق لداعش، وسلط سيوف الحشد الشعبي على رقاب العراقيين.
تغير المالكي كان لابد منه بأية وسيلة لإيقاف مسلسل الهزائم وتقسيم الوطن والشعب، ولو بقي لتجبر أكثر وتمكن من الإمساك بالسلطة وتصفية الخصوم والمنافسين، ولأصبح الدكتاتور الذي لا يمكن تغييره إلا بالموت. كان التغيير مهما وواجبا وجاء في وقته ومحله، ولكنه لم يكن جوهريا، فغاية ما نجم عنه تخفيف حدة الاحتقان، وتهدئة الشحن لفترة وجيزة ليس أكثر، فابتسامة السيد حيدر العبادي وتقاسيم وجهه أسهل في الهضم على النفس من تجهم ووجوم السيد المالكي وسحنته العكرة، ومهما قلنا غلت يده نسبيا وغاب عن الواجهة وقيدت صلاحياته بالصرف، ما زال يتمتع بسلطة ومكانة وحصانة ويمارس عمله من خلف الجدران. بل ما زال يحتل القصر المخصص لرئيس الجمهورية ولم يخله، ولا مبرر لذلك غير الاستقواء بالحزب والعصيان.
ولكن التغيير الذي حصل لم يكن جوهريا فالوجوه التي جاء بها التغيير ليست جديدة لنتوقع ما هو جوهري، ماذا يعني أن يترجل المالكي من صهوة رئاسة الوزراء ليمتطي كرسي نائب رئيس الجمهورية ويحل العبادي محله وهو من كتلته وحزبه، لم يكن التغيير أكثر من لعبة تبادل الكراسي، فالسيد معصوم حل محل رئيس الجمهورية جلال الطالباني وهو كردي مثله ومن المقربين إليه، وترك رئيس البرلمان منصبه ليغدو نائبا ثانيا لرئيس الجمهورية، ويخلفه الجبوري وهو برلماني سابق رئيس اللجنة الأمنية، ويبقى أحد نواب رئيس الوزراء السابقين في منصبه نائبا للرئيس اللاحق، في الحقيقة والواقع لم يكن التغيير جوهريا، وإنما جاء تكريسا للمحاصة الطائفية والعنصرية، رئيس الجمهورية كردي، ورئيس الوزراء شيعي، ورئيس البرلمان سني، ولكل منهم ثلاثة نواب كردي وشيعي وسني، “وكأنك يا أبو زيد ما غزيت”، وكل ما حصل هو تبادل المواقع على رقعة الشطرنج، أما شخصية العبادي الرجل الأول “رئيس الوزراء الجديد” فلا تؤهله لتغيير حاسم، ولن يكون مستقلا وحرا باتخاذ قراراته، ولن يحقق لنا ما كنا نأمل منه وادعى.
إن التغيير الذي تم في العراق مهما وليس جوهريا، فالوجوه التي جاءت على دبابات المحتل تحت مظلة المعارضة الخارجية الموصوفة بالنضال السلبي ممن قضوا عشرات السنين ينعمون بعيش هادئ خارج الوطن يتلقون دعما أجنبيا وإعانات، واكتسبوا جنسيات أجنبية وتخلوا عن جنسياتهم الأصيلة، وقد أبقى فريق منهم أسرته في الخارج لأنها لا تطيق العيش في الوطن الأم، وأبناؤه لا يعرفون العراق ولا حتى العربية هم من يشغل اليوم المواقع المهمة في الدولة، المسيطرون على مقاليد الأمور، ولم يتركوا لمن عاش داخل الوطن وتفاعل مع محنه إلا الفتات والكراسي المهتزة، ووجد هؤلاء أنفسهم مهمشين على الرغم من كونهم يرون أنهم أولى وأحق بتولي المناصب المهمة، وينظرون إلى الوافدين مع الحملة الأمريكية نصف وطنيين أو شبه عملاء، بينما يرى المعارضون الوافدون أنفسهم أكثر ثقافة ويجيدون لغات أجنبية ويحيطون بتجارب الديمقراطية، يضاف إلى ذلك أنهم عاشوا في بيئات مختلفة ومتعددة كانوا موزعين بين أمريكا وكندا، وبريطانيا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإيران وسوريا وتشكل بمخيلة كل منهم أنموذجا معينا للحكم وفلسفة سياسية خاصة نابعة من تجربته، ومن الصعب أن تجد بين الخليط انسجاما وتكاملا، وكتب على العراقيين أن يحتملوا وزر اختلافهم، وإلى الله ترجع الأمور.
ليس المشكلة والإشكال في العراق بالسنة والشيعة، ولا بالعرب والكرد والتركمان، ولا بالمسلمين والمسيحيين والصابئة والأزيديين، لقد عاشوا مجتمعين في العراق أخوة متحابين متآلفين بلا مشاكل ولا إشكالات قرونا عديدة، لكن المشكلة اليوم كل المسئولين في الدولة يولولون ويتناجون ويصرخون ويتألمون ويستعيذون ويستجيرون من فساد نخر البلاد، وفي الحقيقة، ليس من مفسد للزمان والبلاد سواهم.
“البلاد” البحرينية