عندما يأتي الربيع تتهيأ الكائنات لتجديد الحياة وإعادة صنع الوجود، ولقد سمينا ثوراتنا الأخيرة أو سماها غيرنا مقترنة بـ «الربيع» وانتظرنا جميعاً تجدد الحياة والاتجاه نحو الأفضل ولكن ذلك لم يحدث بعد، فالمريض قد أجرى الجراحة العاجلة ولم يكتمل له علاج «النقاهة» بكل ما يرتبط بها من أهمية في استرداد الصحة واستعادة العافية، ولا شك أننا نمر بفترة شديدة الحساسية بالغة التعقيد لا على المستوى العربي فحسب، إذ إن الواقع الإقليمي والدولي يؤكدان أن المسألة أشمل وأعم وأخطر وأكبر. إن آذار (مارس) يثير لدينا موجة تفاؤلٍ ولو وقتية أو مفتعلة نرى فيها المستقبل بصورة أكثر إشراقاً وأشد تفاؤلاً. دعنا نتجول في الواقع الإقليمي لندرك ماذا يحمل آذار لنا هذا العام:
أولاً: يحمل آذار هذا العام شعوراً عاماً بالقلق، فالجزيرة العربية مهددة في جنوبها من قوى طرحت وجودها في اليمن بشكل شبه مفاجئ وأعني بذلك المد الحوثي الذي يسحب الاعتراف الشرعي من رئيس البلاد، الذي اتجه إلى مسقط رأسه في عدن وأعلن وسط أنصاره أنه الرئيس الشرعي لليمن وبدا المشهد عبثياً وغابت إرادة الشعب اليمني في زحام تلك الأحداث وكاد الأمر أن يصل إلى طريقٍ مسدود والمنطقة كلها مستهدفة لكي تدفع الثمن وليس اليمن وحده، فهل يحمل آذار معه بعض الخطوط العريضة للحل المقبول من كل الأطراف للخروج من المأزق قبل فوات الأوان؟ ذلك سؤال مشروع نطرحه على أنفسنا في هذه الظروف لنتعرف إلى إمكانات الخروج من تلك المعاناة التي تعيشها بعض الأطراف العربية.
ثانياً: يعتبر المشرق العربي الوعاء التاريخي للحركة القومية ومنه انطلقت التيارات القومية المعاصرة، بل إن ميلاد القومية العربية ارتبط في بدايته بمنطقة «الشام الكبير» منذ برزت كتابات المؤرخين في سورية ولبنان والمهجر، وكانت تدور حول «تاريخ العرب» و»يقظة العرب» في محاولة من المسيحيين من أبناء منطقة الشام للخروج من دائرة مفهوم الأقلية ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الضمير العربي، خصوصاً أن مسيحيي المشرق العربي هم من أصول عربية مؤكدة، فهم امتداد للعرب الغساسنة على الحدود بين الشام والجزيرة العربية والعرب المناذرة على امتداد الحدود بين الفرس والعرب، فالوجود العربي سابق لظهور الإسلام لذلك كانت أحلام آذار الوردية مرتبطة بانتفاضات الشام القومية.
ثالثاً: إن بلاد الرافدين وشعب ما بين النهرين يملكان إسهاماً قوياً في التاريخ العربي المعاصر، فحضارة العباسيين هي قمة الازدهار العربي في عصور تألقه، لذلك فإن غياب الدور العراقي أدى إلى خلخلة ملموسة في العلاقة بين العرب وإسرائيل منذ خروج الجيش العراقي من معادلة توزيع القوى في المنطقة، وبذلك أدى الغزو الأميركي للعراق إلى نتائج كارثية على الشعب العراقي بل على الأمة العربية كلها، ثم جاءت أحداث «الربيع العربي» لتضيف إلى ما جرى للعراق أحزاناً أخرى، وهو ما يدعونا إلى أن نأمل بأن يكون وصول الأوضاع العربية إلى مستوى متدهور دافعاً للعرب لكي يدركوا حجم المخاطر التي تحيط بهم، فالعنف يقذف بنا من كل اتجاه، والإرهاب يترصدنا على نحو غير مسبوق، حتى كان ظهور تنظيم «داعش» بمثابة مفاجأة غريبة على العقل العربي الذي أصبح لا يفرق بين ماضيه ومستقبله، ولعل شمس آذار الساطعة تشده نحو الاتجاه الصحيح.
رابعاً: إن ما يجري في ليبيا يفوق كل تصور ويتجاوز كل التوقعات، إذ إن الدول العربية التي كانت مغطاة بأنظمة ديكتاتورية كانت تخفي تحتها في الواقع فراغاً سياسياً وخواءً فكرياً وتدهوراً أخلاقياً، وعندما ارتفعت الأغطية صعدت الأبخرة وظهرت الأوبئة وأصبحنا نحتاج إلى صحوة قومية عصرية ترفع عنا البلاء وتواجه قسوة الداء، لذلك ضربت الفوضى الدولة الليبية الكبيرة وظلت تمزقها جغرافياً وسياسياً ودينياً وأصبح ذلك البلد العربي الكبير مأوى لجماعاتٍ تكفيرية شاردة في مقدمها جماعة «أنصار الشريعة» و»تنظيم داعش» وغيرهما من التوجهات الظلامية الدخيلة على حياتنا العربية، فكان طبيعياً، والأمر كذلك، أن نستنكر وأن نقلق حتى أصبحت دول الجوار الليبي مهددة في أمنها الوطني ومستقبلها السياسي لأن الهدف الحقيقي من وراء كل ما جرى كان ـ بمنطق الفوضى الخلاقة ـ هو تمزيق أوصال الأمة وخلق كيانات فرعية تضيف إلى ما نحن فيه مشكلات جديدة قد تستعصي على الحل، فضلاً عن أنها تخلق واقعاً جديداً قد لا نستطيع التعامل معه لسنوات مقبلة.
خامساً: إن الذين رسموا خريطة المنطقة وتصوروا مستقبلها كانوا يدركون جيداً عناصر الضعف لدينا وسطوة الدين في حياتنا ليكون المدخل إلى تمزيق العروبة والإسلام معاً من خلال استخدامهما للتفرقة بين القوميات الفرعية والديانات المختلفة بل والطوائف داخل العقيدة الواحدة. إننا نقبل بمنطق الثورة الوطنية ولكننا نرفضها بشدة إذا أخذت غطاءً دينياً أو تغطت برداء طائفي ولذلك فإنني أضم صوتي إلى صوت كثيرين من المفكرين القوميين الذين يقولون بوضوح إن المخرج مما نحن فيه هو الاعتصام بالروح القومية العربية ونبذ ما عداها من أسباب الخلاف ومظاهر الاختلاف. إن الغرب يعيد رسم خريطة المنطقة ويدفع كل العناصر الشاردة إليها ويقوم بتصدير الإرهاب إلى بعض دولها بدعوى مكافحة «الإرهاب»! حيث يتم ذلك في ظل سياسة «ازدواج المعايير» و»الكيل بمكيالين» والدفع بنا نحو منحدر لا يعلم أحد منتهاه. إننا أمام خطر داهم يهدد مستقبل الأجيال القادمة ووحدة أراضينا واستقلال إرادتنا ولا بد لنا من المضي بشدة على الطريق الصحيح لكي نعدل المسار ونصحح الأخطاء وندرأ المخاطر. إن «داعش» نموذج لـ»عفريت» جديد أطلقه الغرب من «القمقم» بدءاً من سورية والعراق، مثلما أطلق من قبل تنظيم «القاعدة» من أفغانستان لأنه يسعى إلى تشويه صورتنا حتى أمام أنفسنا لكي يصيبنا اليأس ويحتوينا العجز ونصبح غير قادرين على الحراك بل في حالة شلل تام نتلقى الضربات بلا قدرة على رد الفعل الحاسم في الوقت المناسب. فلنتأمل حولنا كيف أنجبت الثورة السورية والمأساة العراقية وليداً خطيراً اسمه «داعش» مثلما أفرز النضال الأفغاني الإسلامي ضد الاحتلال السوفياتي تنظيم «القاعدة». إن ما يجري على أرضنا ليس جديداً بل هو شيء جرى التخطيط له والإعداد لوجوده منذ عقود ونحن لا نقوم بأكثر من رد فعلٍ لا نملك زمام المبادرة ولا إرادة التغيير!
سادساً: يجب أن نعترف بشجاعة بأن التنظيمات التكفيرية تضم بالدرجة الأولى جماعات المأزومين في حياتهم داخل العالم العربي وخارجه، ولقد استمعت إلى سفير أوروبي يقول في زهو إن ستمئة من مواطني دولته الأوروبية عناصر فاعلة في قيادات «داعش» بالمنطقة في العام الأخير وحده! ولا شك أن تلك الدول لا تجد غضاضة في رحيل تلك العناصر منها وتصديرها إلى حقل التجارب الإنساني في العالمين العربي والإسلامي، وعندما تحاول بعض الدول العربية اتخاذ إجراءات شبه استثنائية لمواجهة الموجات التكفيرية فإنها تواجه بحملاتٍ من الانتقاد الشديد لأنها لا تحترم حقوق الإنسان بينما يسمح الغرب ذاته لنفسه بأن يواجه حقوق الإنسان باختراق كامل أحياناً على أرضه إذا كان في ذلك مصلحة له، إنه الغرب الذي يتبنى دائماً سياسة «المعايير المزدوجة» ويكيل بمكيالين فالإرهاب لديه يستحق المقاومة بينما هو لدى غيره مشروع للتعايش مهما كانت الظروف والجرائم التي تحدث! إن أحلام آذار التي تحولت في نظرنا إلى أوهام آذار تجعلنا نفكر في شكل واضح في ما يمكن أن نمضي عليه نحو المستقبل لأننا نفكر بطريقة مختلفة عن أولئك الذين يصنعون لنا الطريق. ليتنا ندرك أن العالم حولنا حافل بالرؤى الجديدة والأفكار الحديثة والقدرة على اختلاق المواقف واصطناع الأزمات. لقد تغيرت الدنيا ولم يعد آذار هو شهر الأحلام بعدما طغت عليها الأوهام!
سابعاً: إن رؤيتنا للمستقبل يجب أن تقوم على دراسة متأنية ووعي كامل وفهم عميق لمعطيات الحياة ومسيرة الوجود، إذ ليس من العدل أبداً أن نتحول إلى مفعول به لا نملك إرادتنا ونترك للفاعل الأجنبي أن يرسم الطريق وأن يحدد الملامح وأن يقسم الدول وفي قلب المنطقة كيان دخيل هو امتداد للغرب بجميع المقاييس. أما آن لنا أن نستيقظ وأن نتحرك نحو المستقبل الحقيقي بإرادة وخبرة ورؤية.
إن شهر آذار الذي يصنع الحياة ويجدد مظاهر الوجود يأتينا الآن ونحن نترقب كل يوم أخبار التفجيرات والاغتيالات والجرائم الإرهابية. إننا نريد الحياة وهم يصنعون الموت! إنهم يدفعون بنا إلى القتال ونحن ما زلنا نقول «طوبى لصانعي السلام»!
*كاتب مصري/”الحياة”