عالم اليوم «تعولمت» فيه مظاهر التطرّف ومشاعر الخوف والكراهية. وربّما يتحمّل مسؤوليّة هذه «العولمة السلبيّة» التطوّر العلمي في وسائل الإعلام وفي التقنيّة المعلوماتيّة، إذْ يبدو أنَّه كلّما اقترب العالم من بعضه البعض إعلاميّاً وخبريّاً، تباعد ثقافيّاً واجتماعيّاً.
عالم العالم لا يعيش الخوف من «الآخر» كإنسان أو مجتمع مختلف في ثقافته أو لونه أو معتقده فقط، بل يعيش أيضاً الخوف من الطبيعة وكوارثها، ومن فساد استهلاك بشرها لخيراتها وثرواتها.
اليوم، يعيش العالم هواجس الخوف من «التغييرات المناخية»، ممّا يهدّد بحالاتٍ عديدة من البرد القارس أو الجفاف أو الطوفان، وممّا سيترك أثراً كبيراً على فصول الاعتدال بالطبيعة (الربيع والخريف)، ويجعل الكرة الأرضية أسيرة تطرف الصيف الحار الحارق أو الشتاء البارد القاسي.
وهذا الاختلال في التوازن الطبيعي للمناخ ساهم بصنعه الإنسان الذي استخلفه الله على الأرض لبنائها وإعمارها والحفاظ عليها، فهي أمانةٌ مستخلفة من الخالق لم يُحسن الإنسان رعايتها.
وما يحدث في الطبيعة والمناخ من تطرّفٍ نراه أيضاً في الأفكار والمعتقدات، حيث يتّجه الناس أكثر فأكثر لتبعية «جماعات نارية» تشعل اللهب هنا وهناك، تحرق الأخضر واليابس معاً، فتذهب ضحية لقيادات هذه الجماعات وأفكارها، نفوسٌ بريئة وأوطانٌ عريقة!
هو عصر التطرّف في المناخ وفي الأفكار، هو عصر العودة إلى «البدائية» بما فيها تقديس «النار» ومُشعليها، بينما الناس هم حطبها ووقودها، والمسؤولية هنا هي على التابع والمتبوع معاً، وعلى المتقاعسين عن دورهم في مواجهة التطرف، وعلى المخالفين لطبيعة الحكمة الالهية في هدف الاختلاف بين البشر، وعلى المستغّلين لأمانة الاستخلاف في الأرض وفي الحفاظ على توازن الطبيعة واعتدالها.
عالم اليوم يخشى من الغد بدلاً من أن يكون كلّ يومٍ جديد مبعثاً لأملٍ جديد في حياة أفضل. شعوبٌ تعيش الخوف من إرهاب ما قد يحدث في أوطانها، وأخرى تعايش الإرهاب يوميّاً حصيلة احتلال خارجي أو تسلّط داخلي أو عبث عنف متطرف إرهابي. مجتمعاتٌ تخاف من «أشباح»، وأخرى تعيش الناس فيها كالأشباح! لكن الجميع يشتركون في الخوف من المستقبل المجهول القادم. وكلّما ازداد الشعور بالخوف ازدادت مشاعر الكراهية لهذا «الآخر» المخيف!
إنَّ العالم يعيش هذه الحالة السلبيّة تحديداً منذ 11 سبتمبر2001، حيث كان هذا اليوم رمزاً لعمل إجرامي مدفوع بغضب أعمى لا يفرّق بين مذنب وبريء، كما كان هذا اليوم تبريراً لبدء سياسة حمقاء قادها «محافظون جدد» في واشنطن اعتماداً على تغذية الشعور بالخوف من ناحية، ومشاعر الغضب الموصوفة بالكراهية من الناحية الأخرى.
في عقد التسعينات من القرن الماضي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كتب الكثيرون من العرب والمسلمين عن خطط إسرائيليّة لجعل «الإسلام» هو «العدو الجديد» للغرب، والبعض الآخر كتب في أميركا والغرب مبشّراً بنظريّة «صراع الحضارات». لكن كانت كلّها كتابات ومجرّد حبر على ورق إلى حين وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001.
إذاً، أليس من الحماقة في الأفعال أو الردود عليها، أن تسير الأمور في العالم بهذا الاتجاه الذي جرى التحذير منه خلال عقد التسعينات؟! وما هي المصالح العربية والإسلاميّة من تأجيج مشاعر الكراهية أو الخوف لدى هذا الطرف أو ذاك على مستوى شعوب العالم في الشرق والغرب؟!
إنّ التمييز مطلوب بين حالاتٍ ثلاث: التطرّف، العنف المسلّح، والإرهاب. فالتطرّف الفكري والسياسي قد يكون حقّاً مشروعاً لمن يشاء السير فيه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. أمّا العنف المسلّح، فهو محكوم بضوابط دينية وأخلاقية وقانونية على مستوى الدول والجماعات والأفراد، ولا يعني مخالفة طرفٍ لهذه الضوابط أنّ استخدامها بات مشروعاً لدى أيِّ طرفٍ آخر.
وهناك بلا شك مسؤولية «غربية» وأميركية وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء «إسلامية»، لكنّ ذلك هو عنصر واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.
ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العقَدي حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، ومع خلاصة التجربة الإسلامية الأولى منذ فترة الهجرة النبوية إلى المدينة وصولاً إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين.
ولقد ساهمت الحقبة العثمانية، ثمّ فترة الاستعمار الأوروبي من بعدها، في محاصرة الاجتهاد الإسلامي وفي الابتعاد عن المضمون الحضاري الإسلامي، والاتجاه نحو «حكم العسكريتاريا» الذي بدأه العثمانيون أصلاً بانقلاب الجيش الإنكشاري على الدولة العباسية.
أيضاً، كان للصراعات الدولية الكبرى إسهامٌ واسع في تأجيج ظاهرة التطرّف المسلّح والإرهاب باسم الإسلام. حدث ذلك في كلّ حقبة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، وكانت حرب «المجاهدين الأفغان» هي الخميرة التي صنعت لاحقاً جماعات «القاعدة» وأساليبها الإرهابية في أكثر من مكان وزمان.
هي كذلك أزمة «هُوية» في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، حينما تضعف الانتماءات الوطنية وتسود بدلاً منها هويّات فئوية بمضامين طائفية ومذهبية ضيقة. ولعلّ بروز ظاهرة «التيّار الإسلامي» بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم يكن هناك في المنطقة العربية حالة من «الانحدار القومي» ومن ضعف للهويّة العروبية، كحصيلة لطروحات وممارسات خاطئة جرت باسم القومية وباسم العروبة، فشوّهت المضمون ودفعت ببعض النّاس إلى بدائل أخرى بحثاً عن الهويّة وعن قوى الدفع اللازمة في معاركها السياسة والاجتماعية والوطنية.
أيضاً، حينما تسقط الدولة في أيِّ وطن، يهوى الانتماء الوطني الواحد أيضاً لترتفع مكانه انتماءات أخرى هي أقلّ من نسيج الوطنية وأشدّ ارتباطاً بالخصوصيات التي يتكوّن منها أيّ مجتمع.
إنّ مواجهة نهج التطرّف تتطلّب من العرب الارتكاز إلى فكر معتدل ينهض بهم، ويُحصّن وحدة أوطانهم، ويُحقّق التكامل بين بلادهم، ويُحسّن استخدام ثرواتهم، ويصون مجتمعاتهم المعرّضة الآن لكلّ الأخطار.
لكن الفكر المعتدل المطلوب ليس هو بالفكر الواحد في كلّ مكان، ولا يجب أن يكون. فالاعتدال هو منهج وليس مضموناً عقائدياً.
وقد يكون المضمون دينياً أو علمانياً، وطنياً أو قومياً أو أممياً، لا همّ بذلك، فالمهم هو ضرورة اعتماد نهج الاعتدال ورفض التطرّف كمنهاج في التفكير وفي العمل وفي السلوك الفردي أيضاً.
فالاختلاف والتنوع في البشر والطبيعة هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب وأمكنة مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و«من ليس معهم فهو ضدّهم»، ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتّى لو كان من أتباع دينهم أو من وطنهم وقومهم.
هو فكرٌ كابوسي جاهلي يستفيد حتماً من أيّ شرارة نار يُشعلها متطرّف آخر في مكان آخر، فالحرائق تغذّي بعضها البعض، لكن النار مهما احتدّت وتأجّجت، فإنّها ستأكل في يومٍ ما – عساه قريباً- ذاتها، حتى لو تأخّرت أو تقاعست قوى الإطفاء عن دورها هنا أو هناك.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن