عندما تضيع مائة يوم في تشكيل الحكومة الجديدة في تونس، فلن ننتظر مائة يوم أخرى لمحاسبتها على حصيلةٍ لا تفاؤل بشأنها. فالحكومات التي تولد بصعوبة، مصيرها أن تسقط برمّتها، أو يسقط جزء من بنيانها الهش. وهكذا ستضيع أشهر أخرى، لإعادة التشكيل، أو مراجعة تعيينات فرضتها ضرورات مؤقّتة، مثل ترضية أطراف ناصرت الباجي قايد السبسي في السباق الانتخابي إلى رئاسة الجمهورية، وطمأنة أحلاف ساهمت في تغيير المشهد السياسيّ، وتشريك أحزاب على مضض، من أجل الحصول على مبايعة نوّابها في “يوم الزينة”، تحت قبّة المجلس النيابيّ.
وفي انتظار تلك المواعيد، وما ستحمله من البشائر أو الشرور، يحقّ لنا أن نلتفت، الآن، إلى حكومة التكنوقراط التي حزمت حقائبها، وقد حظيت، قبل سنة، بمباركة المجلس التأسيسيّ، بعد أن اصطفاها الرباعيّ الراعي للحوار الوطنيّ المشهود، فتسلّمت دفّة الحكم بأريحيّة كبيرة. وبدا للجميع أنّ وزراءها “الأكفّاء” من غير السياسيّين سينقذون البلاد من مهاترات الأحزاب، وجرائم الإرهاب. وسينعشون الاقتصاد، ويصفون العلاج الشافي لجميع الأزمات… فهل نجحت حكومة المهدي جمعة في “رفع تلك التحدّيات”، بلغة المخلوع بن علي الذي طالما لوّح بذلك الشعار؟
تجيبنا مؤسّسات سبر الآراء بمعطيات مدهشة، فتزعم “سيغما كونساي” أنّ رئيس الحكومة، مهدي جمعة، احتلّ المرتبة الأولى في نسبة الرضا على الأداء بـ 82 %، يليه الرئيس الباجي قايد السبسي بنسبة 74%. ومبعث دهشتنا أنّ تلك المعطيات متناقضة بطريقة تبعث على السخريّة. فكيف يحوز المذكوران تلك النسب العالية من رضا المواطنين التونسيين الذين شاركوا في العيّنة المستجوبة، والحال أنّ نصفهم تقريبا (48%) يعتقد أنّ الوضع العام في البلاد غير مرض. وكيف يُساءل التونسيّون عن أداء قايد السبسي، بعد أيّام قليلة من مباشرته المهام التي أنيطت بعهدته؟ وهل يستحقّ الرئيس ذلك الانطباع الإيجابيّ مع غياب إنجازات ثوريّة ملموسة، لن تأتي أبدا بحكم صلاحيّاته المحدودة؟
ما تروّجه شركات سبر الآراء في تونس يدخل ضمن مغالطات مضحكة لا هدف لها إلاّ تضليل المواطنين، وإقناعهم بالدخول في عهد جديد/ قديم، يُزكّى فيه الحاكم بكلّ الوسائل الممكنة. ولذلك، تسكت وسائلُ الإعلام، اليوم، عن التجاوزات والإخلالات التي كانت تترصّدها بالأمس في عهد الترويكا، وظلّت تخصّص لها المنابرَ وتستنفر المجتمع المدنيّ، وتؤلّب الرأي العام بحراكٍ عاصفٍ مستوحًى من أغنيةٍ شعبيّةٍ قديمةٍ تقول كلماتها: “شعلِلْها شعللها، ولّعْها ولّعْها”..، واستمرّ ذلك النهج، إلى أن نجح في إسقاط سياسات وهيئات وحكومات.
انتهى ذلك كله، وتغيّر الخطّ التحريريّ، على الرغم من كثرة الخروق التي ظننّا أنّ الثورة ستجبّها. وهدأت الأصوات الإعلاميّة الغاضبة، مع صعود المهدي جمعة وفريقه من التكنوقراط المدلّلين الذين لم يفلحوا إلاّ في تنظيم الانتخابات، كما يُقال، باطلاً. فالانتخابات ليست من مشمولات الحكومة، وإنّما تديرها هيئة عليا مستقلّة… لم يفلحوا، إذن، في شيءٍ يُذكرُ فيُشكر: فلا تشغيل، ولا تنمية، ولا أمن، ولا عدل…، وقد سُجن في عهدهم مدوّنون، من بينهم ياسين العياري المُدان بحكم جائر، استعجلته محكمة عسكريّة متشنّجة. والسجينُ ابن عسكريّ شهيد، قضى في أثناء القيام بواجبه في صفوف الجيش التونسيّ. إنّها عيّنة من الحقائق التي نكتشف قبحها وفظاعتها، حين نتمعّن في بعض التفاصيل، ومنها ما يتعلّق بجرائم الفساد الماليّ. فبعد عام من حكم التكنوقراط، يتّضح أنّهم تهاونوا في مقاومة ذلك النزيف، وسكتوا عن تجاوزات كثيرة. وقد نشرت، هذه الأيّام، تقاريرُ مفزعة عن اختلاسات ضخمة، تورّط فيها موظّفون ورؤساء مصالح ومسؤولون كبار في مؤسّسات الدولة وبنوكها، بعد أن تمتّعت، وياللعجب، بسيولة ضخّتها الحكومة، لتغطية عجزها وحمايتها من الإفلاس. وتتحدّث المعلومات عن مبالغ طائلة، اختلسها المؤتمنون عليها، وفرّوا بها إلى بلدان الجوار، مستفيدين من حالة التراخي في مراقبة أجهزة الإدارة والمصارف، وملاحقة المفسدين بحزم.
ومع ذلك، ليس منتظراً أن تُحاسب حكومة التكنوقراط على إخلالاتها، كما لم ولن يحاسب غيرها، لتبقى خزينة الدولة وماليّة الأسرة التونسيّة الأكثر تضرّراً، خلال فترة وجيزة، أدارتها خمس حكومات. والسادسة بقيادة الحبيب الصيد جرى ترميمها وحظيت بتزكية النواب، وباشرت بعُد مهامها. ولكنْ، تلاحقها انتقادات كثيرة بشأن تركيبتها وبرنامجها الفضفاض الذي صيغ “بلغة خشبيّة”، غلبت عليها الشعارات المستهلكة. ويساهم ذلك كله في تأثيث سهرات التونسيّين وحواراتهم في المقاهي، وفي مواقع التواصل الاجتماعيّ، حيث يتسلّون بالمقارنة بين تشكيلات وزاريّة فاشلة، لم تجلب رخاءً ولا إصلاحاً. لكنّها صنعت صنماً جديداً اسمه الثورة، واتخذت من أهدافها ودماء شهدائها قرابين للوصول إلى الحكم. إنّها الصرعة الجديدة في تونس.
وفي بلادنا، تعاقبت ثلاث صرعات عمّرت عهوداً طويلة. فكانت البداية بعهد بورقيبة و”جهاده الأكبر” لبناء دولة الحداثة. ثمّ جاء بن علي ببيان يبشّر بالديمقراطيّة، ويَعِدُ بتكريسها.. وبعد فسحة الثورة وحكوماتها الكثيرة، جاءنا الحبيب الصيد، ليحقّق بدوره “أهداف الثورة” في عهد قايد السبسي المُعجب بعبد الفتاح السيسي، صاحب “النظرة المستقبليّة الثاقبة”، كما قال عنه بعد لقائه في القمّة الأفريقيّة الأخيرة… وهكذا عاد الدرّ إلى معدنه في تونس، كما في مصر، فقد خدم السبسي والصيد مع بن علي. ولهما نظرة ثاقبة، جعلت بعض الإعلاميّين على استعداد لتكرار الأهازيج القديمة، فتشابهت عناوين صحفهم، في الأيّام القليلة الماضية، وقالوا بصوت واحد، بلساننا التونسيّ العاميّ: “كون صِيدْ وكولني”، وترجمة ذلك بالفصحى: “كُنْ أسداً والتهمني”. فالصيد، في لهجتنا التونسيّة، يرادف الأسد. والأسد ملك على الوحوش في كليلة ودمنة، وملك متوحّش في سوريّة، وبعض الصحافيّين في تونس يطالبون بأسد مثله، حتّى يلتهمنا لا قدّر اللهُ، ولا سمحت بذلك الثورةُ، ولا فرح بذلك الصيد، ولا الأسد، ولا السيسي، ولا السبسي.
* كاتب تونسى/”العربي الجديد”