في ليبيا حكومتان، ومجلسان تشريعيان، وجيشان كلاهما يقول إنه الجيش الرسمي في البلاد.
حكومة في الشرق وأخرى في الغرب، ولكن لا حكم ولا حكمة.
جيش في الشرق وآخر في الغرب كما يتردد في وسائل الإعلام، لكن على الأرض الليبية جيوش لا عدد لها ولا عداد.
جسمان تشريعيان، والبلاد بلا شريعة، المسلحون كتبوا شرائع، حبرها الدم وصفحاتها أجساد البشر.
القتال يبيض قتالا، يفقس دما ودمارا وجوعا ونزوحا وهجرات لجوء في كل اتجاه.
إفلاس صاعق للبلاد بعد انهيار أسعار النفط وتدني الإنتاج إلى مستوى لا يغطي احتياجات البلاد، ونهب احتياطيات البلاد من العملة المحلية والأجنبية. لن يستطيع دخل النفط تغطية المرتبات، ناهيك بتأمين الواردات من الغذاء والأدوية والمحروقات.
الأفراد استهلكوا مدخراتهم، ومن لجأ منهم إلى دول الجوار وغيرها، يعاني تعقيدات تضيق حلقاتها يوما بعد يوم، أولها نفاد ما حملوه معهم من مدخرات مالية، وما يترتب على انتهاء صلاحية وثائقهم من جوازات سفر وغيرها، إضافة إلى قضايا أخرى مثل التعليم والعلاج.
التجريف الشامل والخطير للخبرات والقدرات العلمية التي تكونت عبر سنوات طويلة من التعليم والممارسة العملية في قطاعات اقتصادية وطبية وأكاديمية، منها من غادر البلاد بحثا عن السلامة وفرص حياة أفضل، ومنها من أرغم على المغادرة بسبب قانون العزل السياسي الذي حرم شريحة كبيرة من العمل في أي موقع داخل الوطن. المأساة بل الكارثة أن هذه الثروة البشرية التي تكونت عبر عقود من التعليم والعمل الميداني، لا تُشترى ولا تستورد وهي المحرك الأساسي للتطوير والتقدم. هذه القدرة البشرية النوعية عندما تستقر في بلدان أجنبية وتستوطن بها ويندمج أبناؤها في نسيجها الاجتماعي والتعليمي والقيمي ويتجنس الكثير منهم بجنسياتها، لن يعودوا إلى أرض الوطن. تلك خسارة مرعبة لن يعوضها المال ولا النفط.
الصاعقة التي تحرق الوطن في صمت قاتل هي منظومات التجارة الإجرامية، أقصد شبكات تهريب البشر من كل بقاع الأرض إلى أوروبا عبر ليبيا، تلك المنظومات تؤسس شبكات عنكبوتية لها امتدادات متشعبة في كل أنحاء البلاد وفي كل مفاصل المؤسسات التي تسمى رسمية. تجارة المخدرات هي النشاط الصنو لتجارة تهريب البشر، للأذرع الخارجية، عصابات لها خلايا وراء الصحراء الكبرى وأمام البحر الأبيض المتوسط، تمتلك خلايا من المسلحين، تراكمت خبراتها وقدراتها الإجرامية العابرة للحدود.
الأثافي الثلاث تنتصب على رأسها، تغوص في قلب الجرح، تنهش اللحم وتنخر العظم، تفتل النار حبالا تلتف حول الجسد الليبي الواهن.
جيل ليبي عقيدته القتل، تلوى العنف في كيانه، أدمن الدم. عشرات الآلاف من الشباب دون سن العشرين حملوا السلاح، قاتلوا وجرح عدد منهم، تسربوا من المدارس والجامعات، امتهنوا قتل الناس، بالنسبة لهم صار ذلك جزءا من الحياة. إخراج هذا الجيل من المستنقع النفسي الدموي، ليس بالسهل، يحتاج سنوات وقدرات طبية نفسية نادرة الوجود، أصبح هؤلاء جزءا من القيمة الإنسانية الوطنية المخصومة من ثروة الوطن التي هاجرت إلى الخارج. لن يكون تعويضها ممكنا خلال السنوات العشر القادمة بل أكثر.
هذا الفيروس المرعب سيعيث في جسد المجتمع أمراضا علاجها عصي على وطن يفقد كل يوم مكونات المناعة، ويزداد هزالا.
عصاب الحرب، يضرب كل شرائح المجتمع الأخرى وليس تلك التي حملت السلاح فحسب. القاعدون عن القتال هم الضحية الأكبر له. من فقد ابنا أو أكثر، الأسر التي تصبح وتمسي على رؤية واحد من أبنائها أو أكثر وهو يعاني من فقد طرف أو أطراف من جسده. معاناة النزوح والهجرة وفقد البيت سقف الحياة.
الحروب الأهلية التي تدور رحاها بين الأخوة فوق أرض الوطن، لا تقاس تداعياتها النفسية بتلك النظامية التي تدور خارج الحدود. ما زالت أميركا تعاني من آثار حرب فيتنام وأفغانستان والعراق.
الحديث يطول وقد نعود لتقليب صفحاته، لكن لنقرع الباب الآخر، باب الخروج من مستنقع الدم والعصاب.
القول الذي لا ينفك العقلاء يستضيئون به هو – دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة – اليوم الجميع خاسر في هذه المعركة العبثية. الباحثون عن المال أو السلطة بقوة القتل هم خاسرون..الحياة أولا.
كيف؟
* الانتقال من الآيديولوجيا إلى السياسة.
* من المغالبة إلى المشاركة.
* من الماضي إلى المستقبل.
«داعش» سيضع سكينه فوق رقاب كل من لا يبايع البغدادي، وأولهم الجماعات المتطرفة، أما الذين يصفون أنفسهم بالمدنيين فلن يكون مصيرهم أفضل من الإيزيديين. السكين الأكبر سيكون فوق رقبة الوطن.
* وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة/”الشرق الأوسط”