أحرق داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة. هذا هو الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام في كل الدنيا. قناة فوكس التلفزيونية الأميركية، هي القناة المرئية الوحيدة في العالم التي بثت الشريط الكامل للواقعة الوحشية الجنونية. مشهد المأساة الذي استمر قرابة الربع ساعة هو في الحقيقة (حبة) مركزة، مثل قرص الدواء، لكنه في حالة تلك المحرقة، هو قرص الداء.
اسمان في جوف تلك (الحبة) وهما داعش والكساسبة. لن تكون هناك حاجة للكتابة أو التحليل الكثير والطويل عما حدث، وماذا يعني. عرض ثوانٍ من تلك المأساة على أي قناة أو موقع من مواقع التواصل الاجتماعي سيغرس في النفوس وفي العقول صورة مكثفة تختزل الدين والناس والتاريخ والثقافة. البشر ليسوا مباني متحركة، يضعون المكتبات والمتاحف فوق رؤوسهم. العقل البشري عظمته في الاختزال والترميز، يتم ذلك عبر تخزين صور لكل شيء – النمط – stereotype. أخطر الأحداث، وأكبر الشعوب، وسنوات من الفعل البشري يضعها الإنسان في (حبة) النمط، أي الصورة الثابتة الرمزية عن الشعوب والبلدان وحتى الأشخاص.
التنميط، عملية مركبة، يدخل فيها التاريخي والمقدس والسياسي والثقافي والاقتصادي. عندما تذكر سويسرا تتداعى صورة الرخاء والسلام، وعندما تذكر اليابان، يبرز النمط، المخترع، الصناعي… إلخ. وكذلك الألماني والهندي، والعربي، والمسلم، كل في حبة الترميز يسكنون. يكفي أن تقول عن نظام ما إنه نازي لترسم صورة كبيرة لحالة سياسية في كلمة واحدة دون أن تحتاج إلى التفاصيل.
استدعاء التاريخ والموروث الديني يزيد شحنة النمط قوة، يرسخها في الذاكرة ويسهل استحضارها، استخدم الكتّاب والمؤرخون كلمة الهولوكوست للمحرقة النازية ضد اليهود، فالكلمة مشتقة من تعبير يوناني قديم يعني تقديم القرابين لخالق الكون، في حين استخدم اليهود كلمة «شواه» وهي كلمة وردت في التوراة وتعني الكارثة.
(المحرقة) التي أشعل فيها داعش جسد الإنسان الأعزل الأسير معاذ الكساسبة لن تنطفئ نارها بموته، ستحرق الكثير من التاريخ وأشياء أخرى، ستبقى تشتعل لعقود وربما لقرون من الزمن.
لقد صنع داعش – في شهور قليلة، نمطا بشعا ومرعبا للإسلام، لقد سمى نفسه الدولة (الإسلامية)!! رسم صورتها بلون الدم، وقدم نمطها عبر دفن البشر من أطفال وشيوخ ونساء، دفنهم أحياء. ثم رفع درجة التوحش إلى ذبح العزل من الصحافيين والمتطوعين الذين تنادوا من أصقاع الأرض لتقديم المساعدة الإنسانية للمنكوبين من ويلات الحرب.
لقد صدم الضمير الإنساني من جنون السبي الذي قام به «داعش» ضد النساء واسترقاقهن وبيعهن. لقد خاضت البشرية حروبا فكرية وعسكرية للانعتاق من حقب احتقار الإنسان لأخيه الإنسان، توجت تلك المعارك بالقضاء على الميز العنصري في جنوب أفريقيا وتمَّ ترميز مانديلا عنوانا لحقبة جديدة من رقي البشر.
لو أنفق أعداء الإسلام والعرب مليارات الدولارات على إنتاج كتب وأفلام لتشويه صورة العرب والمسلمين لما استطاعوا أن يحققوا هذه الجرعة المركزة من التنميط البشع الذي فعلته تلك الدقائق من المشهد الناري الذي احترق فيه الكساسبة، واحترق معه تاريخ وموروث حضاري عربي تحقق عبر سنوات من الإبداع والمساهمة الإنسانية والفكرية والإبداعية التي أضافها العرب والمسلمون للحضارة. كم من الناس في العالم يعرفون ابن رشد ومحيي الدين بن عربي والمتنبي ونجيب محفوظ وغيرهم من الفلاسفة والمبدعين العرب والمسلمين؟ ربما آلاف أو حتى مئات الآلاف، ولكن كم عدد الذين شاهدوا تلك الدقائق المأساوية المرعبة التي يحترق فيها إنسان في قفص من النار؟ منظر غير مسبوق على الإطلاق لكل من شاهده من بني البشر.
التلفزيون، هو أيقونة العصر الحديث، الصورة لها قوة الإعجاز في صناعة النمط، الصورة ليست قطعة من الحجر في متحف جامد، لكنها كبسولة كيمياء حية، تستقر في الرؤوس وتفعل وتتفاعل في النفوس.
بهذه الفعلة وكلما تذكر كلمة مسلم، ستطفو على صفحة ذاكرة الملايين صورة القفص إلى أمد بعيد. الذي يقف فيه إنسان يرتدي لباسا برتقاليا، إلى جانبه غول، وحش، يرتدي بزَّة الرعب، في يده شعلة ثبتت في عصاة طويلة، يوقد الموت في الحياة. الكساسبة، سيكون عنوان مرحلة طويلة من الزمن، ستكتب عنه الكتب، وستنتج أفلام، ستحرق صفحات لا حصر لها من التاريخ، ترسم الصورة (النمط). (داعش) يحاول حرق الإسلام والمسلمين.
*وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة