من أبجديات علم العلاقات الدولية، لاسيما المدرسة الواقعية، أنّ السياسة بين الدول تعيش حالة لا منتهية من الفوضى؛ بمعنى أنّه لا يوجد نظام دولي قانوني حقيقي، ولا توجد سلطة مركزية تشبه سلطة الحكومات الداخلية لتفرض تطبيق قوانين.
هذا الأمر كان واضحاً هذا الأسبوع في حالتين: حالة الشهيد معاذ الكساسبة، وإعدام تنظيم “داعش” له بطريقة وحشية همجية؛ فيما الحالة الثانية استقالة القاضي الكندي وليام شاباس من رئاسة لجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، بشأن جرائم حرب محتملة ارتكبت خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الصيف الماضي. ففي الحالتين، يتضح أننا أمام وضعيّة تفرض على رجل السياسة، أو توضّح حالة من سلوك رجل السياسة، تفرض أنماط تفكير وأداء مختلفة.
هناك قوى، مثل تنظيم “داعش” ودولة الاحتلال (إسرائيل)، لا تؤمن بالقانون الدولي وترفضه. وعمليّاً، كلاهما يرفضان أيضاً فكرة راسخة في العلاقات الدولة، هي مبدأ السيادة.
قبل الحديث عن “داعش”، فإنّه بالنسبة للحالة الإسرائيلية هناك رفض مزمن لموضوع حقوق الإنسان وهيئاته وتحقيقاته. وتريد إسرائيل أن يتم التعامل معها على أنّها دولة ديمقراطية، من دون تحقيق وتحقق. فإذا كانت قد أثارت هذه المرة أنّ شاباس سبق وقدّم توصية مدفوعة الأجر لمنظمة التحرير الفلسطينية العام 2012، وهذا يطعن بحياديته، فإنّ الرفض الإسرائيلي هو لعمل اللجنة ككل. وسبق ورفضت لجنة تحقيق برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، بعد عملية “الرصاص المصبوب” ضد قطاع غزة في 2008-2009. كما ترفض (إسرائيل) المشاركة في المراجعة الدورية لأوضاع حقوق الإنسان فيها، وهو إجراء مفروض على أعضاء الأمم المتحدة كافة. وحتى لو دانت لجان دولية الفلسطينيين بجرائم حرب، فإنّ هذا لا يهم الحكومة الإسرائيلية، لأنّها لا تؤمن بالقانون الدولي إلا إذا برّأها. بالمثل، لم تنضم (إسرائيل) للمعاهدات الدولية لحظر الأسلحة النووية، بينما انضمت إيران، ومع ذلك ترى إسرائيل أنّ العالم مطالب بالتحقيق في ملفات إيران وليس ملفاتها هي.
أما بالنسبة لتنظيم “داعش”، فهو لا يؤمن لا بالأنظمة القائمة في الدول ولا بقانون دولي، فيما يؤمن بحقه في القتل والحرق.
السؤال: ماذا يعني هذا في الحالتين، من وجهة نظر قانونية وسياسية وفلسفية؟
لدينا ما يسمى “فاعل غير دولة”، هو تنظيم “داعش”، ودولة مارقة لا تحترم القوانين الدولية أو حقوق الإنسان. وتطرف أحد الطرفين يغذي تطرف الآخر، ويستخدمه في “البروباغاندا” الخاصة به.
من ناحية أولى، فلسفية، يجب أن يكون هناك خطاب لكل العالم، بأنّه لا يمكن الحديث عن الأصولية والقتل باسم الدين، مع غض النظر عن “أمّ الأصوليّات” (إسرائيل)، التي تشكّل أنقى أشكال توظيف الدين في السياسة، وتحظى بغطاء دولي وأميركي أحياناً يدعو إلى الاعتراف بها دولة يهودية، بكل ما يعنيه هذا من أصولية، ويعنيه من تمييز على أساس الدين والطائفة والعرق (لما يجري به مزج العرق بالدين في الحالة الصهيونية). وهذا متمم لرفض كل قتل باسم الدين.
ومن ناحية قانونية، فربما تحتاج الدول للتفكير بمستويين: الأول، أن تفرض تشريعات محليّة واضحة في رفض فكر الإرهاب بين مواطنيها، ولكن من دون أن يكون هذا مدخلا لتقييد الحريّات. وبالتالي، لا بد من تعريف فكر الإرهاب، وأين يقع موقع من يدعو إلى تميز مواطن ضد مواطن على أساس المذهب والعرق من ذلك. أما المستوى الثاني، ففرض تشريعات محليّة ضد الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان وشرائعه ولجانه.
من ناحية ثالثة، سياسية، وهي الأهم، فإنّه يجب على السياسيين الاعتراف بأنّ القانون الدولي والأعراف التقليدية للسياسة، ما يزالان قاصرين عن علاج كل حالات السياسة الخارجية. وهي تعني في الحالة الإسرائيلية، تحديداً، أن القانون الدولي والمنظمات الدولية، من محاكم جنائية وأمم متحدة، ليست سوى أداة فقيرة متممة لجهد آخر سياسي وميداني، هو القادر على إحداث التغيير الحقيقي ضد من يرفض القانون وحقوق الإنسان ويستند لتفسيرات دينية وعرقية.
* محاضر ورئيس برنامج الدراسات العربية والفلسطينية