الحرب الأهلية متاهة سحرية دامية. تصيب تروس آلتها من البشر بمسٍّ من الوهم الصاعق، يصبحون في غيبوبة هائجة، تصور لهم الآخرين كائنات من كون بعيد عجيب لا تستحق سوى القتل. لا تهمهم تفاصيل هذا الآخر الفكرية والسياسية والاجتماعية، طالما وقف في الصف المعادي المقابل. هي لعبة عنف بلا قواعد.
الدخول في حلبة هذه اللعبة لا يحتاج إلى أبواب، ولا طريق، ولا مرشد. شحنة انفعال من تعبئة خادعة واعدة، وجرعة تخويف مركزة من الآخر، وطلقة من سلاح ناري في جسده، ثم يتحرك الإنسان الترس القاتل ولا يتوقف.
ليبيا اليوم هي الحلبة لتلك اللعبة العبثية التي تطحن أبناءها المغرر بهم. لو سألت أي شاب من المتدافعين فيها عن السبب، لن يقدم لك جوابا يصلح لأن يُسمع.
كيف الخروج من هذه المتاهة – الغيبوبة الدموية؟ ليبيا ليست أول بلاد تهوي في حفرة الحرب الأهلية، ولن تكون الأخيرة، فتلك ظاهرة بشرية عاشتها وتعيشها شعوب عدة. لكن لكل حرب أهلية كيمياء تنفرد بها.
في ليبيا لا وجود لتكوينات طائفية دينية، ولا أعراق متناقضة، لا ثقافات متصادمة، لا فقر يؤجج العداوات.
سقط النظام بالقوة المسلحة، فسقط السلاح في يد الجميع، وأراد الجميع أن يستولي على كل شيء عنوة. رغم ذلك، تمكن الوطن من أن يبدأ مسيرة بناء الدولة، أُجريت انتخابات سلسة نزيهة. لكن ولعوامل عدة دخل السلاح إلى دائرة الفعل، وتراجعت قوة الشرعية والتشريع.
أكرر السؤال: كيف الخروج من هذه المتاهة الدموية؟
السيد برناردينو ليون مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة أعلن عن اجتماع لأطراف النزاع الليبي في جنيف، وصرح بأن هناك موافقة من هذه الأطراف على المشاركة في الاجتماع.
كان مبعوث الأمين العام قد أعلن، منذ شهور، عن خطة من نقاط سبع لحل الأزمة، تبدأ بوقف إطلاق النار في كل البلاد، عاد الآن وجعلها النقطة الأولى. وبعيدا عن منطق التفاؤل والتشاؤم، فإن عقد الاجتماع في حد ذاته خطوة إلى الأمام. لماذا؟ لأنه اعتراف من الجميع بأن الحل ليس عبر السلاح، وأن الجلوس على المائدة هو البديل عن القتال. لقد أدرك الجميع أن خسائر ليبيا تتزايد كل يوم بشكل مرعب وعلى كل الأصعدة؛ الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحتى البيئية.
لقد استنزفت أرصدة الدولة في السنوات الثلاث الأخيرة، وبعد هبوط مستوى إنتاج النفط وتدني الأسعار، أصبحت البلاد على حافة الإفلاس. الليبيون الذين لجأوا إلى الخارج وأخذوا معهم كل مدخراتهم هم الآن أيضا في حالة تدعو إلى الشفقة. القدرات والخبرات البشرية التي غادرت البلاد هي الخسارة الأكبر، هؤلاء لن يعودوا بسهولة إذا طالت غيبتهم في الخارج. لقد أصبح الجميع يدرك، أو من المفترض أن يدرك، هذه الحقائق.
لقاء جنيف كسر لحائط وهمي صنعته تلك الغيبوبة الدموية العبثية، وكسر ذلك الحائط نتيجة إيجابية في حد ذاتها. وعلى المشاركين في لقاء جنيف أن يدركوا أن الأمم المتحدة لا تمنح الشرعية لطرف أو تسحبها من آخر، الأمم المتحدة تتعامل مع كل الفرقاء على أنهم أطراف نزاع، وطالما قبل الجميع بترتيباتها وأن يجتمعوا تحت مظلتها، فعليهم أن تكون قضيتهم «إنهاء النزاع». هذه خطوة أولى في رحلة طويلة، ليست سهلة، تحتاج إلى رجال يحملون في ضمائرهم وعقولهم وقلوبهم آهات الوطن، وآلام معاناته. الأمم المتحدة، والعالم يساعدنا، يسهل، لكن لن يحل مشكلتنا.
أتمنى أن تكون الجلسة الأولى في اجتماع جنيف من باب العصف الذهني Brainstorming، بمعنى أن يكون الحديث عاما ومفتوحا، على أن يصار الدخول إلى جدول الأعمال المعد سلفا في الجلسة التي تليها، وأن لا تحدد مدة للاجتماع ويبقى مفتوحا.. لماذا؟
الليبيون يعرفون بعضهم بعضا، فهم شعب صغير، ومن لا تعرفه تعرف قريبه أو جاره أو زميله في الدراسة… إلخ، وكلما طال بقاء الأطراف معا تخلّقت حالة من الألفة والتقارب.
الأحاديث الجانبية هي التي تصنع الشروط الإنسانية للخروج من حالة الغيبوبة والصدام العبثي.. عندما يجلس الخصوم معا في سلام في بلاد كان الليبيون يذهبون إليها للعلاج والإجازات والتبضع، فسيدرك بعضهم على الأقل حجم العبث والضرر الذي ألحقوه بأنفسهم وأهلهم، وربما ينظرون إلى بعضهم بعيون خالية من غبار معارك العبث، ويتحدثون بأصوات غير مصحوبة بزخات الرصاص وأصوات التشنج العدائي.
هل سيحمل هؤلاء المتحاورون ليبيا معهم من جنيف؟ ننتظر.
*وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم “الشرق الأوسط”