وقعت الثورة في تونس قبل أربع سنوات، ويعرف المهتمون والمتابعون لمآلاتها نوعية الصراع السياسي والتاريخي الذي واكبها وصنع تداعياتها، ويعرفون المأزق السياسي الذي أصبح عنواناً لها بعد انتخابات 2011.
لن تستعيد هذه المقالة مظاهر المأزق وتجلياته، بل ما تريد إبرازه نجاح الفاعل السياسي التونسي في تجاوز الأبواب الموصدة والمواقف القطعية المغلقة. فقد تابعنا في تونس، بعد الثورة، أحداثاً وصراعات، كما عاينَّا تحالفات وتوافقات لم تكن دائماً سهلة، بل حصلت بفعل سياق محدّد، كان وما زال يشرطها، ويساهم في تعيين ملامحها العامة، يتعلق الأمر بجملة معطيات تاريخية وثقافية متبلورة في سياق تطور المجتمع التونسي، طوال النصف الثاني من القرن العشرين. كما يتعلق، قبل ذلك، بإرادة سياسية مقتنعة بحتمية الخيار الديمقراطي في تونس، وهو الخيار الذي كان فيه الفاعل السياسي مقتنعاً أيضاً بأن الشباب التونسي انتفض من أجله.
لا نريد أن يُفهم ممّا نحن بصدده أن ما وقع في تونس يعد أمراً خارقاً، أو استثنائياً، إنه، أولاً وقبل كل شيء، فعل تاريخي واعٍ ينجزه فاعلون بأسماء وألوان سياسية، بعضها قديم وكثير منها ناشئ في قلب الصراع الذي تداعى بعد انفجار 2011.
نستطيع القول إن الحسم في موضوع الشرعية الديمقراطية بعد الثورة لم يكن سهلاً ولا بسيطاً، وخصوصاً عندما تداعت بعد الثورة أحداث صانعة لمسارات متعدِّدة، وخيارات لا تقوم على الحدود الدنيا من الحوار والتوافق، الأمر الذي أضاف إلى تركة الثورة وأفعالها، آثاراً جديدة استدعت، بدورها، تركيب خيارات مناسبة لما حصل، حتى لا نصبح أمام تحولاتٍ لا نعرف مصدرها، تحولات تبدو وكأنها قادمة من أزمنة أخرى.
نشير، هنا، إلى مسألة أَقَرَّ بها الجميع، بعد انفجار الحدث التونسي، نقصد بذلك انخراط الفاعل السياسي التونسي في حدث الثورة. حيث لم يَعد فعلها وتوابعه خاصاً بالذين أطلقوا شرارتها من شباب الميادين المعطَّلين، وخصوصاً في الجهات المهمشة، بل إن انتقال الحدث إلى تونس العاصمة، وتعميم صور التعبئة السياسية المنتفضة باستماتة ضد الفساد والطغيان، في مناطق عديدة في تونس، منح الانتفاض الثوري صفات ومظاهر الفعل السياسي الجامع لمختلف النخب السياسية والمدنية المعنيَّة بحاضر تونس ومستقبلها.
تتابعت الأحداث بصورة غريبة بعد انتخابات 2011، وكانت واقعة الثورة لا تزال في عنفوانها، وعنفوان طورها الانتقالي، حيث بدأت حكومة الترويكا تدبّر الزمن الانتقالي بصحبة المجلس التأسيسي، وكان المجتمع السياسي قد أوكل إليها مهمة إنجاز دستور مطابق لشعارات الثورة وتطلعاتها، وتهييء الشروط الملائمة لانتخابات تشريعية ورئاسية، تنقل المجتمع التونسي إلى مرحلة الإعداد لعبور دروب الطور الانتقالي، إلا أن التاريخ في جريانه أكثر تعقيداً ممّا نتصور.
لم يخلُ الطور الانتقالي من اختلاطات ساهمت في دخول المجتمع التونسي في نفق الاستقطابات الثنائية الحادة، في موضوع الهوية والتاريخ والمستقبل، الأمر الذي أدى إلى أحداث مفجعة، تَتَمَثَّل، أساساً، في مقتل المناضلين، شكري بلعيد ومحمد لبراهمي، إضافة إلى سقوط شهداء من رجال الأمن والجيش برصاص جماعات إرهابية متطرفة.
أدت المستجدات السياسية، التي أشرنا إلى بعضها، إلى تحويل الطور الانتقالي إلى لحظة توقف تاريخي مخيف، فأصبحنا أمام اصطفاف ثنائي، مبني، أولاً وقبل كل شيء، على مواقف قبلية وأحكام عامة، اصطفاف أغفل الانتباه إلى السياقات الكبرى التي سمحت بحصول الحدث الثوري. وقد ازداد التناقض والتباعد عمقاً، بحكم صعوبات عديدة واجهت الحكومتين المتعاقبتين في الفترة نفسها، حيث ساهمت الاستقطابات الحادة، في وقف مسلسل تدارك نتائج التحول الثوري، فأصبحنا أمام وضع يهدد المجتمع التونسي بمخاطر عديدة.
استطاع الفاعل السياسي التونسي أن يجد في قلب المأزق الذي سطّرنا في الفقرة السابقة الباب المناسب لتخطيه، يتعلق الأمر بالخطوة التاريخية للرباعي، المُكَوَّن من مؤسسات المجتمع المدني الوطنية، كما يتعلق بمفردة مركزية في حقل العمل السياسي، ونقصد بذلك فعل الحوار. فبفعل التحرك الذي أطلقه الرباعي، وبفعل حنكته في تدبير الحوار، وهي الحنكة التي تعادلها قابلية الفاعلين السياسيين (الأطراف المتحاورة) للحوار، الأمر الذي مكَّن الجميع من إنجاز تدبير مشترك لمتطلبات المرحلة. وفي الأحداث التي تلاحقت في الربع الأخير من سنة 2014، ما يبرز نجاح الفاعل السياسي التونسي في ترتيب مساره السياسي والتحكم فيه. ولم يكن الأمر سهلاً، لكنه يعد، في نظرنا، محصِّلة تاريخ مشترك من العمل السياسي والعمل المدني، الأمر الذي يستدعي التفكير الجماعي في مأسسته وتطويره.
قد يكون من السابق لأوانه تحويل التحولات التي حصلت في تونس بعد الثورة إلى نموذج بملامح محددة في الانتقال الديمقراطي، فالتحديات القديمة والجديدة التي تملأ جبهات العمل في المجتمع، تتطلب مزيداً من التوافق والاستقرار. وفي انتظار تحقق ذلك، لا مناص من الحديث عن النجاح التاريخي للفاعل التونسي في مسألة عبوره إلى الطور الانتقالي، شريطة الانتباه إلى صعوبة المرحلة المقبلة، والانتباه، خصوصاً، إلى المواقف الاستقطابية الجديدة التي يتحدث أصحابها عن عودة العهد القديم.
لا وجود، في نظرنا، لمؤشرات على ذلك، على الرغم ممّا يوحي به ظاهر الأمور، ذلك أن المنخرطين اليوم في المشهد السياسي كانوا أنفسهم العناصر الشاهدة والفاعلة والمنفعلة بما كان في الماضي القريب. وهم اليوم يتصارعون مجدداً في ضوء تداعيات ما بعد الثورة، بكل ما حملته من مكاسب، لا أحد يستطيع التقليل من شأنها. ومن هنا، نرى أن التلويح بمثل هذه المواقف يتضمن نوعاً من الاستهانة بذكاء النخب السياسية التي اختارت قواعد اللعبة الديمقراطية، وترتب عن ذلك أن تكون نتائج الانتخابات بالصورة التي صنعت ملامح ما يجري اليوم في المشهد السياسي التونسي.
* محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه /”العربي الجديد”