قبل الرسوم الساخرة لمجلة «شارلي إيبدو» كان الإرهاب. ولن يعوز دعاته ومنفذيه البحث في مبررات لفرض سطو الظاهرة المقلقة، كونها لا تنتقي ديناً أو جنساً أو عرفاً أو حضارة، بل تضرب بوحشية وقسوة، حين يغيب العقل ويسيطر الغلو ونزعة تدمير كل ما هو إنساني وحضاري.
من أبرز سمات التاريخ الحديث أنه يكتب بالدم المسفوح، الذي يحاول أن ينشر الرعب والهلع. وإنها لمفارقة أن تكون الاكتشافات العلمية والاقتراحات التكنولوجية قربت المسافات بين الشعوب والأمم والحضارات، فيما الإرهاب يطل من وراء الأكمة لزرع بذور الانقسام والتناحر والفتن. ينشغل العقل الإنساني المتحرر بالبحث في إيجاد علاجات الأمراض الفتاكة، واستيعاب التغيرات المناخية ومحاولات دحر الآفات الاجتماعية المتمثلة في الفقر وانتشار الأمية وزحف الكوارث الطبيعية، فيما يتسلل عقل آخر متدثر بالأحقاد والكراهية واستباحة الأرواح والممتلكات للإجهاز على أغلى قيمة لدى الإنسان محورها الحرية والحياة.
الذين تصوروا أن نهاية الحرب الباردة ستجلب الرخاء والطمأنينة وسلاسة التعايش والتسامح، فاتهم أن أيدلويوجية النزعة الإرهابية أكثر نفوذاً وعدوانية من كل مبررات الصراعات السياسية والاقتصادية والفكرية، وأنها ليست من النوع الذي يدرس في الجامعات أو يتم التدريب عليه في الثكنات، أو تنشغل به الأوساط الدبلوماسية، بل هي خليط هواجس القتل والتدمير وإلغاء كينونة الإنسان. إنها تتفاعل حيث ينعدم الاستقرار وتسود الفوضى وتفقد الدول سيطرتها على حدودها ومجالاتها، عدا أن آلياتها ليست حكراً على جماعة أو جنس أو عقيدة، بل شتات الخارجين عن القانون الذين يحاولون فرض «قوانينهم» على الآخر، أكان غرباً أو شرقاً أو جزءاً من مكونات هوية ما.
إذا كان العالم قد اهتز أمام هول الإعصار الإرهابي الذي ضرب الولايات المتحدة في عمق رمزيتها الاقتصادية والعسكرية في 11 أيلول (سبتمبر) الأسود، فإن ضربات أخرى أكثر فظاعة طاولت أجزاء من العالمين العربي والإسلامي، من الرياض إلى الدار البيضاء، ومن الجزائر إلى الصومال، مرورا بمحطات كاراتشي وإسلام أباد وصنعاء وتضاريس أفغانستان والشيشان والساحل، ليستقر أخيراً في صورة ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية»، من دون إغفال تداعياته القريبة والبعيدة.
ولئن كانت فكرة إقامة دولة بمرجعية إرهابية شدت أنفاس العالم الذي استيقظ على فواجع نحر الأبرياء وقطع الرؤوس وفرض الجزية والأتاوات على غير المسلمين، فإن هناك كياناً آخر يمارس إرهاب الدولة بكل معاييره، يبدو أكثر اطمئناناً إلى ما يفعله، في غياب رادع دولي وأخلاقي حقيقي. والمشكل أن مجرد التلفظ بأسماء وقوائم الممارسات الإرهابية الإسرائيلية يصنف في خانة معاداة السامية.
لعله صراع من نوع آخر قوامه البحث عن العدل والإنصاف الذي لا يكتمل من دون جلاء الاحتلال عن أراضي الغير. لكنه يبقي على الجانب الفلسطيني والعربي منضبطاً لأوفاق الصراع الذي يستخدم الوسائل الشرعية، قانونياً وسياسياً، وهو أقرب إلى الاستيعاب، على رغم أمده الطويل، لأنه يطاول الحقوق التي لا جدال في شرعيتها.
تنبه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في غمرة مشاعر الحزن إلى أن خيار الوحدة الفرنسية هو وحده الملاذ الآمن الذي يجنب بلاده أي هزات ارتدادية. وأظهرت نخب الأحزاب والمثقفين وفاعليات المجتمع درجة عالية من الوعي بتقدير المخاطر المحدقة. وحين أضاف إلى وصفة علاج الصدمة التحذير من الخلط بين الإرهاب والإسلام، إنما كان يشير إلى وحدة متلازمة مطلوبة، محورها وحدة العقيدة التي تنبذ العنف وتحرم هدر الأرواح وتنشد الاعتدال وقيم التعايش والتسامح.
يعني ذلك إزالة أي غشاوة حول الربط بين ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية» الافتراضية، القائمة على التطرف والمغالاة ومعاداة الأديان والحضارات والقيم الكونية، وبين المبادئ والمثل الراسخة في العقيدة الإسلامية السمحاء. وإذا كانت المساحة الميدانية للمعركة تكمن في استئصال جذور التطرف والإرهاب واجتثات منابعه في التمويل واستقطاب المتطوعين، فإن امتداداتها الطبيعية تلتقي والجهود الرامية إلى حماية صورة الإسلام الحقيقية، وصون مبادئها ومثلها، بعيداً من التأويلات الخاطئة التي تتخذ من التدثر بعباءة الإسلام مبررات الحرب على العالم برمته.
معركة متعددة الأطراف والمجالات، أقربها أن الصورة التي ظهرت بها الجالية المسلمة في فرنسا، لجهة رفض الاستسلام للعنف والإرهاب وإدانته وشجبه والانغماس في استئصال معالمه، أظهرت درجة عالية من النضج والالتزام بمبادئ التعايش والحوار وتفاعل الحضارات. ولن يكرر الفرنسيون على اختلاف مشاربهم، ومن بينهم المتحدرون من أصول عربية وإسلامية، أخطاء يتخذها المتربصون بوجودهم ذريعة للتلويح بما بدأ يتناسل من أفكار، أخطرها «أسلمة أوروبا»، إذ يكفي أن العالم العربي والإسلامي يخوض معاركه المصيرية لتثبيت وجوده في حدوده الجغرافية التي تعرضت لاختراق إرهابي خطير.
*كاتب صحفي/”الحياة” اللندنية