ينفّذ “الجانب” الأميركي-الإسرائيلي استراتيجيتين هجوميتين-دفاعيتين ضد قرار الفلسطينيين الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية. الأولى، عقاب الفلسطينيين بالتضييق عليهم وتجميد أموالهم ومستحقاتهم الضريبية التي يحتجزها كيان الاحتلال الإسرائيلي. والثانية، شن حرب نفسية ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقراره، بترويج أنّه “إصرار على الفشل”، كما قالت صحيفة “واشنطن بوست”. ولعل الرد على هاتين الاستراتيجيتين يكون بمزيد من التصعيد، والذي يمكن أن يكون بالطريقة عينها، خصوصاً أنّ الخطوة الأميركية-الإسرائيلية المقبلة قد تكون محاولة تفريغ القرارات من محتواها.
إذا ما أثبتت ردة الفعل الراهنة شيئاً، فهي أنّ الولايات المتحدة، مع (ورغم) وجود باراك أوباما في البيت الأبيض، والحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو، هما طرف واحد لا انفصال بينهما. وردة الفعل هذه يجدر أنّ تزيد الطرف الفلسطيني قناعة بصوابيّة رفض النهج التفاوضي السابق، وأن تقطع الطريق على كل من يتحدث عن تباين في المواقف الأميركية-الإسرائيلية؛ فرد الفعل الأميركي لم يذكر كل الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب على الأرض، خصوصا الاستيطان، وألف شهيد بعد ألف شهيد بعد ألف شهيد يسقطون (بحسب الإحصاءات المتوافرة، فإنّ معدل عدد الشهداء منذ العام 2008 هو قرابة 670 شهيداً سنويّاً).
الحديث الأميركي عن أنّ خطوة الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية غير منتجة وأحادية الجانب ولا تحقق الطموح الفلسطيني، هو لعب على وتر قناعات محمود عباس بأنّه لا حل سوى بالتفاوض، وقناعاته شبه المتفق عليها أنّه يرى أن الفلسطينيين أخطأوا في محطات مثل انتفاضة الأقصى، وأنّه كان يجب أن يُبدوا مزيداً من ضبط النفس والإصرار على الوسائل التفاوضية والقانونية، وهي محاولة لإقناعه أنّه لا يجب أن يخرج عن خطه السابق. في الوقت ذاته، لا يوجد أي وعود لعباس بأن خَطّه هذا سيؤدي إلى أي نتائج إيجابية للفلسطينيين. وهنا، يحق للفلسطينيين الخوف من أن يكون هناك تباطؤ ومساومات في الخطوة المقبلة بعد الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، ما يفرغ العضوية من معناها، تماماً كالتباطؤ الذي حدث عقب الحصول على العضوية المراقِبة في الأمم المتحدة، وفي ترجمة العضوية إلى خطوات عملية، كان منها عضوية المحكمة الجنائية.
لن تحقق عضوية المحكمة الجنائية الدولية أي نتائج فورية للشعب الفلسطيني. وفي أحسن الأحوال، سنرى مسؤولين وهيئات، وربما سياسات إسرائيلية تحاسب في هذه المحكمة، مع إمكانية محاكمة فلسطينيين أيضاً، وكل ذهاب إليها سيكون معركة بحد ذاتها أكبر من معركة العضوية الراهنة. ومن غير المتوقع أن يتوقف الاستيطان سريعاً، أو أن ينحسر الاحتلال، أو حتى أن يأتي الإسرائيليون للتفاوض الجدي. إذن، فالسؤال يجب أن يكون: ما الذي يتوجب فعله بجانب هذه الخطوة التي لا تشكل سوى جزء من تحرك مطلوب متأخر، ولا تشكل تغييرا حقيقياً في الاستراتيجية؟ ولا يجب أن يؤدي “الهلع” الأميركي-الإسرائيلي -الذي هو أيضاً عملية إرهاب ضد الفلسطينيين وضد لجوئهم للشرعية الدولية بأسلوب “البلطجي” الذي يرى الشكوى ضده جريمة تستحق العقاب- إلى أن نرى عضوية المحكمة كما لو كانت كل القضية وكل الحرب.
معركة الطرف الأميركي-الإسرائيلي الواحد الموحد ضد اللجوء للقانون الدولي من قبل الفلسطينيين، تستحق أن تخاض إعلاميا وقانونيا ودبلوماسيا. وللأسف، فإن الظهير العربي القادر على المساعدة في هذه المعركة غير مكترث. ولكن أيضاً لا يجدر أن تتحول هذه المعركة إلى مجمل الحرب، بل يجدر وضع “بنك أهداف وخطط فلسطينية” في المرحلة المقبلة، لتحقيقها وخوضها؛ بدءا من تصعيد المقاومة الشعبية في مواجهة الإجراءات الإسرائيلية، والعمل على تفعيل الوحدة الوطنية والوصول إلى اتفاقيات واضحة مع حركة “حماس” على تطبيع الوضع في قطاع غزة، بعيداً عن حالات الشد والجذب المدمرة وغير الناضجة الراهنة. ثم تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، ثم تصعيد حملة المقاطعة الدولية والمحلية، وتحويل عمليّة حجز الأموال الفلسطينية إلى مناسبة للاحتجاج الشعبي وتسويغ المقاطعة بكل أشكالها. هذا فضلا عن المضي في خطوات الانضمام للمنظمات الدولية، وتفعيل هذا الانضمام بتقديم شكاوى ضد الإسرائيليين، وأيضاً إعادة طرح قرار إنهاء الاحتلال في مجلس الأمن بعد توافق مع باقي الفصائل والقوى الوطنية الفلسطينية.
* رئيس برنامج الدراسات العربية والفلسطينية في جامعة بير زيت