الجواب على هذا السؤال اليوم لا ينبع من مجمل تقييم الحق الديمقراطي للشعوب العربية وخاصة تونس، ولا في إطار الأماني التي عاشتها الشعوب لحصد نتاج ربيعها، ولكنه يضع هذا التساؤل في إطار موضوعي ملح لتقييم التجربة وقرارات حركة النهضة الإسلامية في تونس في زمن اغتيال الربيع العربي، وهذا الاغتيال -الذي نحتاج لشرحه في مقال مستقل قادم- لا يعني انتفاء فرص الصعود الوطني لدول الربيع العربي وعودتها إلى مسارات نهضة وحرية كانت تحلم بها عبر وسائط أخرى.
وهذه الموضوعية لا تُلغي اعتبارات الكفاح السياسي التي خاضتها حركات التحرر أو التقدم النهضوي لنيل مطالبها، لكنها تتساءل عن مساحة ومسارات هذا الكفاح، وهل التقدم نحو مصيدة دموية قاهرة هو عمل كفاحي واجب بالمطلق، حتى مع وجود مساحة للانحناء للعاصفة وتجنب وجبات التضحية الإنسانية والاجتماعية.
هذه المقدمة كانت ضرورية للعودة إلى ملف النهضة التونسية في ظل أسئلة ثائرة يطرح بعضها للتدليل على هزيمة التجربة المدنية لحركة النهضة التونسية، على أنها حجة مطلقة ضدها وضد كل من يؤمن بسلمية الكفاح والتراجع خطوة -أو ربما خطوات- لأجل منع الاجتياح الدموي للمجتمع والحروب الأهلية، التي خُطط لها ويُخطط لها خصوم الربيع العربي الشرس والمتمكن.
غير أن هذا السؤال له مشروعية مهمة من زاوية أخرى، ولكن قبل هذه الزاوية نحتاج إلى قراءة معطيين اثنين مهمين، في سياق قراءة حصاد تجربة النهضة في الانتقال من شراكة الحكم إلى المعارضة المجردة.
الأول أن حركة النهضة الإسلامية في تونس أثبتت نموذجا رائعا وراشدا وحجة تاريخية على ميراث التيارات العربية التي حكمت وعارضت، حين جسّدت القبول بالتعدد وتقديم المصلحة القومية والتنازل عن الحكم وفقا لصناديق الاقتراع، وبالتالي أسقطت مصداقية تراث من الكراهية والحقد والتتبع الدموي والسياسي للحركات الإسلامية المعتدلة عبر تُهم حاشدة بأنها مشروع سلطوي لا يقبل بنظرية الشراكة والتعدد الديمقراطي، في حين تُمثل التجربة العلمانية العربية -المتحالفة مع السلطة العسكرية أو الحاكمة بانقلابات متعددة- نموذج الكارثة في مفهوم التجربة السياسية.
أمّا المعطى الثاني فهو دلالة التصويت لصالح نداء تونس في الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية، فمهما قيل عن المال السياسي ودعم محور خصوم الربيع العربي للرئيس السبسي، فإن مؤشر الموقف الشعبي مهم جدا، ليس للنهضة فقط، بل لكل الحركات الإسلامية. إن ما جرى كان ضمن عملية تصويت ديمقراطي رغم كل الشوائب، وقرار غالبية القاعدة الشعبية برفض تولي الإسلاميين في هذه الدورة يجب أن يُقرأ بتمعن في دلالته العميقة.
وأولها أن مواسم النصر الانتخابي في ظل ما تعيشه بلدان الشرق الإسلامي والوطن العربي من أجواء متقلبة ليس نصراً إلهيا، ولا قراراً مركزيا حاسماً من النّاس لتفويضهم أزلياً بإدارة شؤونهم، وأن الناخب والمواطن العربي يتعامل عبر معطيات زمانية وتوقيت موضعي للنموذج الذي يراه. نعم هناك حالة تعلق معنوي عميق بالبعد الإسلامي والهوية الروحية، لكن أيضاً هناك قلق ومساحات تصور مختلفة عن ماهية هذا المشروع الإسلامي أو ذاك، كما أن هناك توترا شعبيا من صعود حركات العنف في مناطق عديدة، فيخشى الناخب المؤمن ببراءة المدنيين الإسلاميين المعتدلين من جولات صراع تُكره عليها دولته حين تنتخب الإسلاميين.
وهذا مؤشر قَلق واحد، وإلا فالملف حافل بقضايا عدة يتساءل فيها المواطن العربي عن قدرات الحركة الإسلامية للحكم المطلق في بلده، وهي هنا في تونس قضية إيجابية للنهضة بأن تدخل المعترك السياسي بتدرج وعقلانية، وأهم عنصر التفكير في بناء شامل للفكر السياسي الوطني الذي تقدمه النهضة من صندوق التعاطي السياسي والمشروع التنموي، كقاعدة تفكير أولى تباشر فصل حركة الوعظ والجهد التربوي الإسلامي عن قاعدة التأسيس للعمل السياسي القومي.
وهي مشروع فكر وتطبيقات فرعية تبدأ من قواعد المجتمع المحلي وتحتاج للكثير من الجهد، كما أن دعم الحركة التربوية والإطار الإسلامي الشامل لهذا المشروع السياسي القومي للنهضة طبيعي ومهم أن يستمر، لكن دون أن تُخلط مسارات صناعة الفكر والعمل السياسي بأركان التفكير الوعظي والفقهي المحترم ووسائط التنظير والمباشرة لفرق التربويين المشتغلين بمهمة جليلة للمجتمع، لكن لا يصلح أن تُغمس في السياسة.
وعليه فإن مجمل النتيجة تُعد كسباً للنهضة لا انتكاسة لها، غير أن ذلك لا يلغي أهمية السؤال الذي طرحه المحافظون: ماذا سيصنع السبسي المدعوم من خصوم الربيع العربي بالديمقراطية التونسية؟ فهل سيقبل بمساراتها التأسيسية أم سيسعى لنقضها؟ حيث إن المطلوب من تحالف خصوم الربيع العربي، ليس الاستقرار السياسي بعيداً عن حكم الإسلاميين، إنما إبعادهم وإشعال حرب أمنية في مطاردتهم، ونقض أي فُرص تمنح أي أمل في الثقافة العربية تُعلقهم بالإيمان بمشروع التطوير السياسي أمام الحكم الشمولي المستبد.
إن من السطحية بمكان أن تعتقد النهضة أن مشروع نقض أي أصل قام عليه الربيع التونسي مستبعد، بل هو وارد وقرارات نقض مؤسساتها ممكن جدا أن تُنفّذ، ليس بالضرورة كقناعة لكل حلفاء نداء تونس ولكن للقوة المركزية فيه، وسيتعامل البقية في النداء وغيرهم -كارهين أو نابذين- مع هذا الحصاد، يُلاومون فريق الانقلاب ويذهب هو بالإبل. وهذا من المؤكد أنه محل تفكير جاد لدى النهضة، وكيف تؤسس مع المعارضة الوطنية وخاصة حركة المنصف المرزوقي الذي سجل له التاريخ أنصع الصفحات من رئيس لكل المواطنين، لم ينمِ خزانته بدينار فساد، ثم تحول فرداً مجرداً لم يتردد لحظة للعودة إلى القوى الشعبية التي أعطته ثقتها.
ولعل الموقف بين النهضة والرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي وضَح أن قاعدتها دعمته انتخابيا بقوة، وبين موقف القيادة الذي كان يقرأ الخسارة فخشي من إعلان موقف داعم له يعزز فرص الانقلابين في نداء تونس ومشروعهم الأمني؛ هذا الموقف ينبغي تجاوزه. وهو ما يخلق مساحة تنسيق قوية بين كل القوى الوطنية الحريصة على حماية البناء التأسيسي لربيع تونس. أما فكرة المراهنة على مشاركة هشة في حكومة مقبلة فهذا لن يمنح النهضة أي حماية.
وعليه، فإن معركة النهضة اليوم هي معركة كل وطني يسعى لحماية البناء الديمقراطي الذي سيكفل للنهضة وكل تونس آفاق العودة إلى مسار انتخابي حر، تفوز فيه أو تخسر، لكن تبقى قوة الشعب بأطيافه في التمثيل البرلماني الفعّال، الذي حين يتحد مع حراك شعبي ذكي وحيوي -ولكن منضبط- سيحمي تونس من آخر محاولات مؤثرة لنقض ربيعها.
وحين تضمن النهضة تأمين هذا المسار في مرحلتها الراهنة اليوم، فإن فرص الصناعة الذاتية واستنساخ ما يناسبها من الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، ستكون أبوابه مفتوحة أمام جيلها الجديد، فتَخلق له مساحة من التجربة السياسية الصعبة والشرسة تُخفق وتصيب، ولكنها تجنبت أن تُلقي بهم في حفر القبور ومغاليق الزنازين، ولم يَتعبد الله النّاس بطلب البلاء والتقدم له بل بالصبر عند نزوله، وهو صبر لا يعارضه حسن الحكمة في اتقاء بلاء أكبر منه، وإطلاق روح جديدة لصناعة الفجر لكل تونس، فتونس الخضراء بربيعها الديمقراطي هي مشروع النهضة للبقاء والنماء.
* كاتب وباحث إسلامي ومحلل سياسي /”الجزيرة”