ليبيا الواقع والأسطورة

يطرح ما يمر به العالم العربي من أزمات طاحنة، ذات أبعاد سياسية وثقافية وحضارية، المزيد من التحدي على العقول العربية، ونقصد بهذه العقول، الطلائع المستنيرة من أهل الفكر والتدبير، بدرجة أولى، للنظر في تشخيص الحالة، ومعرفة هذه الدوافع والأسباب، التي تكمن وراء أزمات تجر بعضها بعضا، وتأخذ بأعناق بعضها بعضا، ولا ننتهي من أزمة إلا ونقع في أخرى أكثر هولا، لأنه السبيل الوحيد، لأن نعرف النبع الذي لا ينضب لهذه الأزمات، وما هي الأسباب التي نستطيع أن نعزوها إلى عوامل كامنة في التربة العربية، تاريخا وتربية وبنية عقلية، وما يمكن أن نعزوه لعوامل عارضة وطارئة بسبب تأثيرات خارجية وأجندات لقوى ذات مصلحة، تحاول التدخل في سير الأحداث وتسخيرها لصالحها، فيما يدخل بحق وصدق في نظرية المؤامرة، ثم ما يمكن أن يكون قد جاء في سياق الصراع الطبيعي الدائر بين أطراف محلية وإقليمية وربما دولية، وملابسات وظروف أدت بالأحداث أن تأخذ هذا المجرى أو ذاك، خارج إطار المؤامرة والاستهداف المدبر والمقصود.
للمفكر علي حرب، الكاتب اللبناني المعروف، اجتهادات وآراء، أورد بعضها في كتابه الأخير “الهشاشة، المفارقة، الفضيحة، في المأزق والمخرج” تأتي في إطار انشغاله بالراهن العربي، ومحاولة تشخيصه والتعرف على جذور هذه المشاكل والأزمات، والمآزق التي تعاني منها المنطقة العربية، ويتساءل، هل تكمن العلة في الأفكار حقا، ولكن الناس كما يقول، لا ترى عادة سوى الأعراض والآفات، ولا تهتم بمعرفة ما ينتجها من العقليات والمفاهيم والعقائد والتقاليد، والعقد والحساسيات، كما يتجسد فيما يمكن تسميته العقول المفخخة، والمقدسات المغلوطة، والنماذج البائدة، والتصنيفات العنصرية، والهويات الموتورة، والدعوات المستحيلة، والإستراتيجيات القاتلة، وهي كلها محصلة لعوامل يصعب تحديد منبعها، أو حصره في بنية فكرية، أو في تراث، أو في تشوّهات حصلت بسبب الجذور التربوية.
نحن لا نتحدث هنا عن إجابات، أو مقترحات بديلة للواقع الراهن، ولكن عن تشخيص، مجرد تشخيص، لأنه دون التشخيص السليم، كما تقول القاعدة الطبية، لا يمكن الوصول إلى العلاج السليم، والتشخيص الخاطئ، قد يؤدي إلى نتائج كارثية في العلاج والدواء، وكان هذا المفكر المنشغل بالراهن، قد دعا، وما زال يدعو، إلى المساهمة في ابتكار صيغ حضارية جديدة، لإدارة مجتمعاتنا على قاعدة الديمقراطية، وينادي بالمشاركة في صنع الحضارة الحديثة، والتفاعل معها والدخول في العصر والإفادة مما تقدمه التكنولوجيا والفتوحات العلمية الحديثة.
ولكن مثل هذه الأفكار التي نسمعها منه ومن غيره من مفكرينا اليوم، أفكار مطروحة على العقل العربي منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، وهل يختلف ما قاله رفاعة الطهطاوي عما نقوله اليوم، أو ما قاله جيل من التنويريين الكبار وصولا إلى الجيل الذي عاصرناه، أمثال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، أم أن ثمة ما يسمى أمراض مزمنة في العقل هي التي تعوق الوصول بهذه الخرائط التي يقدمها أهل الفكر، إلى مرحلة التنفيذ.
وأقول وصولا إلى هذه المرحلة الجديدة التي أسميناها مرحلة الربيع العربي، ألم تكن هذه الثورات، وإزاحة الطغاة، والإطاحة بعناصر الاستبداد وأنظمته، طريقا باتجاه الوصول إلى هذه الصيغة الحضارية التي يدعو إليها علي حرب، وتمكين أنفسنا وشعوبنا من إدارة مجتمعاتنا على قاعدة الديمقراطية، والتفاعل مع مفاهيم العصر وحضارته وتوطينها في بلادنا ومجتمعاتنا؟
الحالة الليبية، لمن يريد دراستها، تصلح أن تكون الحالة التي تظهر من خلالها، كل العوائق والعراقيل التي منعت حصول تلك الوصلة الحضارية التي يطرحها أهل الفكر، فقد توفرت لهذا القطر العربي، كل المؤهلات التي يمكن أن تجعل منه دولة عصرية، تأخذ بأسباب الحضارة الحديثة، وتحقق ما اصطلح على تسميته “الإقلاع”، تقدما ونهوضا بكل مواصفات هذا التقدم والنهوض من ارتفاع لمستوى المعيشة، ووفرة في الإنتاج، ومعدل مرتفع لدخل الفرد، وخدمات راقية في التعليم والمواصلات والسياحة، أسوة ببلدان لم تكن تصل إلى عشر ما تتوفر عليه ليبيا من موارد، وما حققته من دخل، وما تملكه من بنية تحتية، وخلال العقود الأربعة من حكم الانقلاب، توفرت لها من الموارد النفطية، ومن المؤهلات السياحية، ومن المعادن والثروات الطبيعية، ما يصلح أن يجعلها أكثر تقدما من سنغافورة أو ماليزيا أو مالطا، لكي لا نقول فنلندا أو هولندا.
وفعلا كان النظام الانقلابي الاستبدادي العسكري، مناقضا لكل التوجهات الحضارية، ومعاديا لها، ويكفي أن له سوابق في حرق الكتب، وحرق الآلات الموسيقية، وحرق وثائق السجل العقاري وعقود الملكية، تجعله نكسة أو نكبة حضارية، بدل أن يكون إسهاما أو مشاركة في بناء المجتمع الحضاري المنشود، وكانت الثورة التي أطاحت بهذا النظام، ثورة دفع فيها الشعب الليبي بعدد كبير من الشهداء، وظهرت فيها صور الاستبسال والفداء، بما يؤكد أنها ثورة تتوفر لها مؤهلات الثورة القادرة على إنجاز التحول، وبناء الغد الأفضل الذي يطمح إليه الشعب، فماذا حصل بعد هذا الانتصار؟
حصل ما يمكن أن يكون أكثر من نكبة وأكثر من نكسة، مازال هذا الشعب يعاني ويلاتها، ويعيش أهوالها، احترابا ودمارا وهدرا لموارده، وتقويضا لكل مكتسبات الثورة، التي تجلت فيها وحدة الشعب الليبي، وتجمعت فيها كلمته، وقـد تبددت الآن تلك اللحمة، وظهر ما يهدد البلاد بالتشظي والانفصال والتفريط في وحدة التراب.
فماذا نسمي هذا الذي حدث في ليبيا، هل نسميه حماقة؟ ولكن أليس لهذه الحماقة التي تصنع مثل هذه الكوارث، ويصنعها شعب بنفسه، ومواطن ببلاده، جذور وأسباب ودوافع، وهل أكون مخطئا إذا ذهبت إلى فجر التاريخ، لاستحضر منه قولا لأبي التاريخ وصاحب الكتاب الرابع الذي خصصه عن ليبيا المؤرخ الإغريقي القديم هيرودوت عندما أشار في هذا الكتاب إلى هذه الحادثة، التي أوردها حسب تعبيره: “جففت الريح الآتية من الصحراء جميع الآبار في ليبيا، فتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون، ثم زحفوا كتلة واحدة يشنون الحرب على الرياح الجنوبية، التي دفنتهم جميعا في رمالها”.
وما نرجوه اليوم هو ألا تتكرر الحالة مع ليبيا الحديثة، ونرى هذا الاحتراب العبثي وهذه المعارك الجنونية تدفن البلاد وأهلها تحت رمالها. نعم إنه تاريخ قديم يصل إلى حد الميثولوجيا أو الأسطورة، ولكن متى كانت الأسطورة عاجزة عن إضاءة الواقع وتفسير الأحداث التي نعيشها في الزمن الحاضر؟

*كاتب ليبي/”العرب”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *