خلال الأسبوع الماضي، أصدرت الجبهة الشعبيّة في تونس بيانا سياسيا متصلا بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة التي ستجرى الأحد القادم 21 ديسمبر. وللتذكير فإنّ الجبهة الشعبيّة قد احتلت المرتبة الرابعة في الانتخابات التشريعية التي انعقدت في 26 أكتوبر الماضي بــ15 مقعدا في البرلمان. وجاء مرشحها للرئاسية حمة الهمامي ثالثا بعد الباجي قايد السبسي مرشح نداء تونس الفائز بالأغلبية النيابية، وبعد منصف المرزوقي الذي انهزم حزبه المؤتمر من أجل الجمهوريّة، وأنقذته حركة النهضة بتوفير الدعم الانتخابي له عبر الملاحظين والمراقبين في حملته الانتخابية من النهضويّين.
تحتلّ الجبهة الشعبيّة موقعا سياسيا وانتخابيا وازنا في تونس. وكانت جميع القوى السياسيّة لاسيما التي تدور حول المترشحين السبسي والمرزوقي تنتظر بيان الجبهة علّه يسعف أحدهما بالدعم والمساندة. ولكن لم تكن في البيان مساندة وإنّما كان بيانا سياسيّا ذكيّا يقطع ويحسم مع طرف، من جهة، ويمنح الفرصة، لطرف آخر من جهة ثانية. فالبيان يمنح الفرصة للمرشح الباجي قايد السبسي ليوضح برنامج حكمه ويجيب عن جملة من الهواجس التي تشغل الجبهويّين وعموم المواطنين التونسيّين.
أمّا الحسم القاطع فكان متصلا بالمرشّح منصف المرزوقي إذ دعا البيان إلى إسقاطه لسببين رئيسيين؛ الأوّل أنّ في عهد ترؤسه الجمهوريّة التونسيّة وقعت كوارث متعدّدة سياسيّة ودبلوماسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وأمنيّة، والثاني أنّه المرشح الفعلي لحركة النهضة التي نزلت بكلّ ثقلها لدعمه وتغليبه في الجولة الأولى من الرئاسيّة التي أجريت يوم 23 نوفمبر الماضي.
بيان الجبهة عَدّ المرزوقي مرشّح النهضة الفعلي ورهان المشروع الإخواني والإسلام السياسي عموما. ولهذه النقطة وجاهتها إذا وضعنا في الاعتبار عاملا مهما ألا وهو انهزام حركة النهضة في التشريعية، بمعنى كونها لم تكن الأولى من حيث عدد المقاعد في البرلمان، وهو ما يعني أنها لن تشكّل الحكومة وقد لا تكون طرفا فيها ولن ترأس البرلمان.
ولابد أن نذكر هنا بأنّ حركة النهضة لم تقدّم مرشحا للرئاسيّة بل وقفت ضدّ رغبة حمادي الجبالي الأمين العام للحركة ورئيس الحكومة الأسبق في الترشّح. وبرّر راشد الغنوشي رئيس الحركة عدم تقديم مرشّح للرئاسيّة بالحرص على تجنّب السيطرة على الحكم! وهذا يعني أنّ تقديرات الغنوشي كانت تقول إنّ النهضة ستفوز في التشريعيّة فوزا ساحقا. ولتمهيد الطريق للحكومة النهضويّة، حسب تقديراته، استغلّت كتلة النهضة في التأسيسي أغلبيّتها النيابيّة وعمدت إلى تكديس الصلاحيات لدى رئيس الحكومة وتقليصها من رئيس الجمهوريّة.
في الوقت نفسه، قدّمت الأغلبيّة النهضويّة، مدعومة بحليفها الرئيسي حزب المؤتمر الذي يرأسه منصف المرزوقي، ما يعرف بمشروع دستور يونيو 2013 المعادي للحقوق والحريّات، وكان حينها التسيد النهضوي على المجلس التأسيسي في أوجه. في الأثناء كان الانفلات المسجدي رهيبا بصمت وتواطؤ من حكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة. فتعالت نبرات التكفير والتحريض. وتواترت الاعتداءات العنفية على القوى التقدمية والمدنية في تونس.
وصارت الميليشيات ورابطات العنف والجماعات السلفيّة التكفيريّة تمرح في الشوارع والساحات بغطاء سياسي واضح من حركة النهضة التي عطّلت أعمال لجان التحقيق القضائيّة والبرلمانيّة للتستّر على المعتدين، وإخفاء حقيقة الاعتداءات التي طالت المناضلين والقادة السياسيّين والحقوقيّين والنقابيّين، وحتى العاطلين عن العمل والمطالبين بأبسط الحقوق.
وأمام قتامة الواقع حينها، عقدت الجبهة الشعبيّة ندوة وطنيّة في سوسة في شهر يونيو 2013، خرجت منها بمشروع جبهة الإنقاذ الوطني التي ستجمع الطيف المدني والديمقراطي التونسي لتتصدى لتغول النهضة ودستورها الرجعي وملامح استبدادها. وكانت حركة نداء تونس من أول الملتحقين بجبهة الإنقاذ. وأثناء هذا الحراك الوطني وقع اغتيال الشهيد محمد براهمي بسبب التحاقه بالجبهة الشعبيّة وانتقاده لحركة النهضة ومشروعها الإخواني التابع.
لقد كان مهما أن نذكّر القارئ بهذه الأحداث العصيبة التي عاشتها تونس والتي قادت خلالها الجبهة الشعبيّة بقيّة القوى المدنيّة والديمقراطيّة من أجل إنقاذ تونس من أخطبوط المشروع الإخواني الظلامي الذي كان معدا لها. وعقب اغتيال الشهيد محمد براهمي أقيم اعتصام الرحيل أمام قبّة البرلمان وقاده نوّاب المعارضة الذين علّقوا مشاركتهم في التأسيسي، ممّا أحرج الأغلبيّة “الترويكيّة” وعطل مخططها التابع.
نجحت جبهة الإنقاذ التي قادتها الجبهة الشعبيّة ونداء تونس في إسقاط دستور يونيو 2013 واستبداله بدستور 26 يناير 2014، أوّلا، ثمّ إسقاط حكومة الترويكا واستبدالها بحكومة كفاءات مستقلّة، ثانيا، بعد توافقات الحوار الوطني في موفّى يناير 2014. ولكنّ منصف المرزوقي ظلّ محافظا على منصبه رئيسا مؤقّتا للجمهوريّة التونسيّة. ورفض ترك موقعه حتى أثناء الحملة الانتخابيّة رغم أنه ليس رئيسا منتخبا، أوّلا، وأنّ الانتخابات التأسيسيّة كانت لسنة واحدة فقط، ثانيا.
في صياغتها لبيانها، لم تنس الجبهة الشعبيّة الدور السلبي للمرزوقي طيلة السنوات الثلاث الأخيرة التي قضّاها على رأس الدولة. كان دائما سندا للترويكا وحليفا معاضدا للنهضة، ولم يكن يوما نصيرا للتونسيّين حتى في أحلك أيّامهم. وتخلّى عن دوره الحقوقي الذي لم يتوقّف عن رفعه شعارا. والأمرّ من هذا كلّه أنّه لم يدّخر جهدا لإفشال الحوار الوطني، الذي دعا إليه الشهيد شكري بلعيد وقاده الاتحاد العام التونسي للشغل، بكلّ السبل حتى أن حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية قاطع الحوار الوطني.
في عهد المرزوقي، خسرت الجبهة الشعبيّة أربعة شهداء من قياديّيها، وخسرت تونس أكثر من ستّين شهيدا من أمنييها وعسكريّيها على أيدي إرهابيّين وتكفيريّين كان المرزوقي قد استقبل بعضهم في قصر الرئاسة بقرطاج. وبسبب هذا الإرهاب ترنّح اقتصاد تونس وتعرّضت وحدتها الاجتماعيّة للتهديد. هذه المخاطر إمّا أنّ المرزوقي لم يكن على وعي بها، وإمّا أنّه دفع بها إلى أقصاها واستثمرها في حملته الانتخابيّة فحفر عميقا في خطر تقسيم التونسيّين على الهويّة.
أسقط الصندوق الانتخابي تقديرات الغنوشي بالفوز بالتشريعيّة، وفشلت النهضة في أن تكون اللاعب الأوّل في المشروع الإخواني ولم تتولّ حكم تونس، فلم يبق لها إلاّ أن تتدارك خطر تقديرات رئيسها فتراهن على مترشّح من المترشّحين للرئاسيّة ترى أنّه الأقدر على حمل لواء الإسلام السياسي وإحياء المشروع الإخواني المتهاوي.
فلم تجد أفضل من حليفها في الترويكا منصف المرزوقي المدعوم من الجهات الأجنبيّة نفسها التي تدعم النهضة. طارت الطائرات بمن حملت وحطّت هنا وهناك، وحصل الاتّفاق على دعم النهضة للمرزوقي لإسعاف المشروع الإخواني المهدّد بإصرار الشعوب العربيّة على افتكاك مصيرها بأيديها.
من هنا يستمدّ بيان الجبهة الشعبيّة وجاهته في الدعوة الصريحة لإسقاط منصف المرزوقي لإسقاط الرهان الإخواني من ورائه، بل لإسقاط مخطّط الإسلام السياسي برمّته الذي يخطئ الطريق دائما عندما يستهين بالقوى المدنيّة والتقدميّة التونسيّة ويرى نفسه قادرا على اختراقها وتركيعها.
كاتب وباحث سياسي تونسي/”العرب”