كان من تقاليد المقاومة الشعبية الليبية ضد الغزاة الإيطاليين، تقليد تميز به أبطال تلك المقاومة، يقضي بأن يربط المقاتل الليبي أثناء المعركة عقالا حول ركبته، وهو متمترس خلف صخرة أو جذع شجرة أو محتم بكتاب من الرمل، أثناء الاشتباك مع العدو، لكي يحارب الضعف في نفسه فلا تراوده على الهروب أثناء تقدم جيش العدو نحوه، ويظل يواصل إطلاق رصاص بندقيته في اتجاه صفوف الأعداء، غير مبال بما يحدث لجيش العدو واكتساح الموقع، ويبقى بفضل ما لديه من عقيدة استشهادية يدافع عن موقعه حتى الموت.
ولا أقول إنه تقليد كان يقتصر على الجهاد الليبي، فلابد أنه كان معروفا لدى جهاديين آخرين وموجودا لديهم، وإذا كان هناك فرق فإن هذا التقليد كان يمارس في تلك البلدان على مستوى حالات فردية، بينما كان في الحالة الليبية عامّة يمارسه أهل المقاومة على نطاق واسع ويتنافسون فيه، ولا يمكن لمجاهد أن يترك موقعه منهزما راكضا أمام العدو بينما زميله ربط العقال حول ركبته يواصل القتال.
وكان المتقدمون في السن مـن أهلنا، عندما كنا في مراحل الصبا، يعيدون على مسامعنا حكايات هذا الاستبسال وهذا التقليد الاستشهادي، قائلين إنه هو الذي حمى جبهات كثيرة من الانهيار، وساهم في صمود مدن ومواقع، بل وإحراز النصر في عدد من المعارك، رغم الفارق المهول بين ضعف عتاد الجانب الليبي وعدد أفراده، وقوة الجانب الإيطالي وعتاده وعدد أفراد جيشه، مستعينا كما كان معروفا، بجنود أفارقة يجلبهم من مستعمراته الأفريقية، وبعض المرتـزقة من ضعاف النفوس الليبيين، إذ لم يُعرف أن الليبيين استخدموا أي سلاح غير بنادق بدائية الصنع من نوع الموزر، عدا معارك قليلة جدا شارك فيها الأتراك بمدافعهم، بينما استخدم الإيطاليون أحدث ما كان موجودا من أسلحة الدمار، من دبابات ومدفعية وسيارات مصفحة، وكان أول استخدام للطيران الحربي في العالم هو تلك المقاتلات التي استخدمها الإيطاليون ضد المناضلين الليبيين.
ومعلوم أن أغلب أهل الجهاد الليبي، كانوا أميين، إلا ما ندر، قد ينقصهم الوعي السياسي، وتنقصهم المعرفة بأيديولوجيات نضالية عرفتها شعوب أخرى وحاربت تحت مفاهيمها، مثل الحراك الاشتراكي الذي قاده في الحرب العالمية الثانية زعماء مثل جوزيف بروس تيتو، وقادة مثل الجنرال جياب، ولكن أهل المقاومة الليبية كانوا معبئين بهذه العقيدة الجهادية المستمدة من دينهم الإسلامي، والتي تجعل المحارب الليبي يقبل على الاستشهاد عن طيب خاطر، ودون خوف أو وجل، عارفا أن الله سيكافئه على استشهاده، متأسيا ومقتديا بأصحاب رسول الله في غزواتهم التي قادها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد والخندق وغيرها من المعارك المؤسسة للدين الإسلامي، ودروسها المترسبة في العقل الجمعي.
وبعد مرور عشرة أعوام على بداية الغزو الإيطالي الإجرامي لليبيا، مستخدمين كل وسائل القمع والإبادة ضد الليبيين، ظنوا أن الأمر سيستتب لهم، فإذا بهم يفاجؤون بأن مشعل الجهاد مازال مرفوعا في شرق البلاد، وفي الجبل الأخضر بالذات، حيث قاد شيخ المجاهدين عمر المختار، حرب تحرير ضدهم في تلك المناطق، مدركا كما قال أثناء التحقيق معه، أنه يخوض حربا غير متكافئة، وجاء ذلك في رده على سؤال يقول إن كان يظن أنه ببضعة جياد وبضعة بنادق سيهزم جيش الإمبراطورية الإيطالية، فأجاب بأنها حسابات لا تعنيه، ما يعنيه أن واجبه يحتم عليه أن يحارب مـن يأتي لاحتلال بلاده.
واستطاع بعصبة من المقاتلين المؤمنين بالوطن، وبتموين من السويق، وبسلاح هو الجواد والبندقية، أن ينزل الضربات الموجعة بالمستعمرين، ولم تهن عزيمته ولا عزيمة رفاقه، ولم يدخل القنوت قلوبهم، فخرجوا عن مبادئ الحرب النظيفة الشريفة، ضد هذا العدو الشرس المسلح بالعتاد الحديث، ولم يسجل التاريخ حادثا واحدا حاد فيه شيخ الشهداء عمر المختار عن هذا الخط، أو سمح لواحد من جنوده، على سبيل المثال، أن يعتدي على مزارع إيطالي ممن بدأت إيطاليا توطينهم في الجبل الأخضر، ولا تاجر ولا عامل إيطالي ممن كانوا يتواجدون بوفرة في المحيط الذي يعمل فيه جيش المختار، بل كان ينتشر في ذلك الـوقت باعة متجولون يطوفون بين البوادي من أبناء الجالية اليهودية وجاليات أخرى مثل الأرمنية والمالطية، وكانوا يتجولون آمنين، مدركين أن لأهل المقاومة أخلاقيات ومثلا تحميهم وتحمي أمثالهم من المدنيين، حتى وإن جاؤوا في ركاب المستعمرين.
هذا هو الدين الإسلامي الجهادي، في وجهه الصحيح النقي النبيل، الذي مارسه أهلنا عند انخراطهم ضد أشرس الغزاة والمحتلين الأجانب، ولم يكن أحد يعلم أن للجهاد والنضال هذا الوجه البشع الإجرامي المتوحش الذي يمارسه الآن أناس يسمون أنفسهم المجاهدين، ويمارسونه في عصر انتشرت فيه أنوار العلم والتعليم، وصار فيه أغلب الناس قد أكملوا شوطا من التعليم في المدارس التي لم تكن متوفرة لأجيال سابقة.
حتى العقيدة الاستشهادية التي اعتنقها أهل النضال من الجيل الماضي كانت مبعث شرف، يمارسونها في المعارك، وهم يواجهون جيش الاحتلال، ويعوضون بها فارقا في القوة والعتاد، فمن أين جاء هؤلاء الاستشهاديون الذين جعلوا العقيدة الانتحارية إجراما وحقدا وجنونا، بل وينفذون ذلك ضد أهلهم، وضد أبناء عقيدتهم، وأبناء جلدتهم، وضد مواطنين يشاركونهم حق البقاء في الوطن، لأنهم لا يملكون وطنا غيره، ويمارسون شيئا لا علاقة له بالجهاد، يسمونه جهادا، لا يلتزم بقيم ولا بمثل ولا بأخلاق، ولا يحمل قطرة من صفاء الدين الإسلامي، بل هو تشويه ومسخ لهذا الدين ومبادئه السمحة، فهو التوحش في أكثر درجاته قسوة وألما وسقوطا أخلاقيا وإنسانيا، إلى حد أنه صار خارج دائرة الفعل البشري، وانتقل لأن يكون تجسيدا لسلوك وحوش الغابة وكائناتها المفترسة وحشراتها الخسيسة الحقيرة السامة.
والمفارقة المؤسفة المرعبة، أن دواعش ليبيا ومجرمي التطرف والتوحش، الذين يمارسون إجرامهم ضد أهل البلاد، وليس ضد محتل أو جيش من جيوش الغزو، يحتلون اليوم نفس المناطق التي كانت مسرحا لجيش عمر المختار في الجبل الأخضر، ويستخدمون بقايا متاريس وكهوف تم إصلاحها واستخدامها من قبل جيش عمر المختار يحتمي فيها من غارات جيش الاحتلال، ويشن منها هجماته ضد جيش موسيليني وجرسياني، بينما يشنون هجماتهم ضد جيش بلادهم ونساء وشيوخ ورجال من أهلهم وعشائرهم.
هذا هو الفرق بين دواعش عصرنا الذين اختاروا الاصطفاف مع الشيطان، وبين عمر المختار ودروسه في الجهاد النقي الصافي من أجل الله والوطن.
*كاتب ليبي/”العرب”