محددات استراتيجية
اخلال التوازن الحربي
حروب المستقبل
فن الحرب لا يركز على تحقيق النصر فحسب بل ايضا يتجنب الهزيمة ويقلل ويتفادى الخسائر بأكبر قدر ممكن ويعلم كيفية تحقيق النصر بتجنب القتال ان كان ذلك ممكن.. الكاتب محددات استراتيجية
دأبت الاستراتيجية الاميركية على تطبيق المحددات الاستراتيجية والمنصوص عليها كأهداف استراتيجية خارجية ، تشكل القوة عنصر الردع فيها من جانب ، والذراع الضارب من جانب اخر ، ولعل مهنة الحرب وسوقها التجاري يستهوي المجمع الصناعي العسكري ، ويحقق فلسفة الديمومة وكذلك يجعل من الساسة لاهثون للحرب بغض النظر عن نتائجها، ومن الملفت للنظر ان القدرة العسكرية الامريكية العظمى لم تحسم أي حرب خاضتها خلال العقود الاربع الماضية ، والبعض منها انتهى بانسحاب قسري تحت التماس كما في فيتنام، والأخريات انتهت بفوضى مسلحة واحتضار الدولة والاستعاضة عنها بتنظيمات مسلحة حاكمة كما في الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا ، ويشكل هذا عامل فشل حربي يعود على صناع ومتخذ قرار الحرب الذي في الغالب يأتي دون حكمة وتقدير العواقب والدراسة المستفيضة لعوامل الارض والسكان والمحددات الاستراتيجية والكلفة والمردود ، ولعل من ابرز محددات الاستراتيجية العسكرية الاميركية هي:
1. الامن القومي الاميركي
2. منع الحيازة والانتشار النووي
3. التواجد الحر في اعالي البحار
4. الهيمنة والتفوق الفضائي
5. الحفاظ على تدفق النفط
6. محاربة الارهاب
7. الكوارث الطبيعية والأوبئة
هناك اهداف تكتيكية حربية اضافية تضطلع بها القوات الحربية الامريكية وهي الحروب المحدودة من 30-120 يوم والتحالفات العسكرية والحملات المجزئة والعمليات الخاصة ، وجميع تلك الاهداف ترتبط بالأهداف الاستراتيجية اعلاه ، وتعد محددات استراتيجية تلتزم بتنفيذها القوات الاميركية ، وهناك سؤال مهم بعد عقود خصخصة الحرب 1992 هل اصبحت هذه الاهداف متاحة للتطبيق ام اختلفت المعايير الحربية والعسكرية وأصبح التحديث للإستراتيجية العسكرية الاميركية ضروري في ظل خفض القدرة البشرية البرية الاميركية الذي اعلن عنه مؤخرا.
اخلال التوازن الحربي
شكلت خصخصة الحرب عام 1992 مدخلا حربيا مختلفا عن سياقات الحرب التقليدية ومخرجاتها التعبوية ، وبرزت ظاهرة الجيش الصغير او الجيش الذكي الذي يعتمد على مكننة الحرب ونقل المتفجرات جوا وتجزئة القدرة النووية الى السلاح التعبوي وإسناده بالقدرة الفضائية والمعلوماتية ، مع توظيف اعلامي متقن ودعاية منظمة ، وبحسب فلسفة ظاهرة الجيش الذكي تقلل الحاجة لجندي المشاة الذي يعوضه الزخم الجوي والناري والصاروخي ، وبالرغم من الرؤية التجارية لهذه الظاهرة ذات الامنيات الافتراضية ، فان هذه الظاهرة فشلت حربيا ولم تحقق نتائج توازي الأكلاف والإنفاق المالي الذي يوظف للقدرة العسكرية المجزئة وفقا لسياقات الحرب النظامية ، بلا شك ان الحرب تقوم بمهام السياسة وباستخدام القوة الخشنة ، وفي ظل الحروب الشبحية المركبة والنزاعات الطاحنة سيكون دور القوات المسلحة النظامية محدودا وغير مؤثرا كما شهدناه في قلب الشرق الاوسط العراق وسوريا ، وعجز القوات النظامية عن حسم المواقف الحربية هناك.
سلطت مجلة “ فورين بوليسي ” الأمريكية الضوء على تبعات خفض تعداد قوات الجيش الأميركي من 570 ألف جندياً إلى 490 ألفاً في الفترة المقبلة ، وسط نية للتخلي عن 70 ألف جندياً آخر في المستقبل القريب ، ليقتصر تعداد الجيش على 420 ألفاً خلال السنوات الأربع المقبلة ، وبرر خبراء عسكريون أن قرار خفض عدد القوات إلى انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي العراقية ونيتها مغادرة أفغانستان في الأشهر المقبلة ، محذرين في الوقت ذاته من احتمال تأثر القدرات العسكرية للجيش مع حركة التسريحات الواسعة.
طالب رئيس أركان الجيش “ راي اوديرنو ” أعضاء الكونغرس بالعمل على التخفيف من حجم التسريحات حيث قال : “إذ أن رغبتهم في تخفيض نفقات الجيش يجب ألا تؤثر على قدرات قواتنا المسلحة ، وأن مضيّهم قدماً في مخططهم سيكون له أثر كبير على قدراتنا القتالية في المعارك الحقيقية” ،وتسبب تخفيض النفقات في تقليص الدورات التدريبية للجنود والتقليل من جهوزيتهم لخوض المهام القتالية المسندة إليهم بحسب اوديرنو ، ناهيك عن اضطرار الجيش للموافقة على قرار حلّ 10 ألوية مقاتلة خلال السنوات الأربع المقبلة ، ويبدوا ان التغييرات التي طرأت على بنية الجيش الأميركي قد تضطر قادته للاستعانة بالحرس الوطني أو قوات الاحتياط ، ما سيمنح الطرفين الأخيرين المزيد من القوة والنفوذ السياسي والمالي على حساب مؤسسة الجيش المرشحة لفقدان بريقها
ان القرار بتخفيض القدرة البشرية وحل تشكيلات وألوية عسكرية اميركية يعكس حجم التخبط في ادارة الرئيس الاميركي اوباما،’ ويؤكد ان سياسة ثماني سنوات افقدت اميركا قدرتها على المناورة الحربية الاستراتيجية ، والجهوزية الحربية ، وكما يبدوا ان تخفيض مقدرة الجيش البرية تحمل دلالات صراع وتنافس سياسي، يدلل على الخلاف الكبير في اروقة السياسة الاميركية ، ومهما كان شكل الخلاف فان من الناحية العسكرية والمهنية ومعايير القوة والمحددات العسكرية فان هذا الخفض يعد اخلالاً واضحاً في موازين القوى الدولية ، خصوصا في ظل فشل ظاهرة الجيش الصغير الذكي الذي لم يحسم حرب واحدة شارك بها طيلة ثلاث عقود ، وتؤكد هذا النتائج على الارض ، وفي ظل التحديات المعقدة والنزاعات المنشطرة في العالم والشرق الاوسط ، فان هذا القرار يعد بمثابة القشة القاصمة للقدرة والتفوق العسكري الاميركي في العالم خصوصا بعد التفوق والصعود الحربي الصيني والروسي ، وبروز ظاهرة حرب القوميات والحروب المركبة.
حروب المستقبل
تؤكد كافة الوقائع الحربية والشواهد العسكرية اننا امام نوع متطور من الحروب لم تنظره المعاهد العسكرية بعد ، وهي الحروب الشبحية المركبة التي تخطت حاجز الحرب النظامية ، وأتسع مسرحها ليشمل دول عديدة اصبحت جيوشها النظامية في حالة انهاك ولا تقوي على الصمود، والبعض منها انهار وتفكك واستبدل بمليشيات مسلحة ومتطوعين ، ولعل وصف هذه الحرب الحديثة وهي سمة المستقبل بأنها “حرب مركبة” تستخدم فيها الموارد البشرية الغير عسكرية ( المليشيات والتنظيمات المسلحة والمتطوعين ) وتجزئة الموارد العسكرية النظامية كاستخدام القدرة الجوية والمروحيات والقدرة الصاروخية والمنظومات المعلوماتية ، والموارد الاستخباراتية والمخابراتية في حروب مجزئة ، لتحقق اهداف مرحلية وأضحت ترسي مفهوم “المليشيا سلطة” الزاحف من لبنان الى العراق والصومال والسودان واليمن وليبيا ، وبذلك تلغي الحدود السياسية للدول ، وتندثر السيادة الوطنية ، وتختفي خطوط التماس الحربي وساعات الصفر ومثابات القطعات وصفحات الحرب النظامية ، واستهلاك الجيوش النظامية وصولا للدولة الفاشلة ، وتبرز للعيان الادارة الوحشية لأمراء الحرب بألوانهم المختلفة القومية والطائفية والدينية ، وبات من المنظور العسكري ان حروب العصابات وتفوق القوة اللامتناظرة المدعومة من القوة النظامية يشكل مسجل خطر وهو سمة الحروب المستقبلية ، بل وأصبحت عقيدة حربية يعتنقها الكبار لسحق الصغار ، ومذهب عسكري شاذ يحقق الاضطراب والفوضى والفناء المجتمعي الذي اصبح الوقود الاول لهذه الحروب ، في ظل عمليات الترويع والقصف والقتل خارج القانون ، مما وسع نطاق التهجير لدواعي حربية وبلغ حتى اليوم 13 مليون مهجر في العالم حشب احصائيات الامم المتحدة ، ويبدوا ان فوضى الحرب تخطت معايير فن الحرب التي بني عليها واتخذ من عكس المعايير منهجا لان فن الحرب لا يركز على تحقيق النصر فحسب بل ايضا يتجنب الهزيمة ويقلل ويتفادى الخسائر بأكبر قدر ممكن ويعلم كيفية تحقيق النصر بتجنب القتال ان كان ذلك ممكن ، وهذا ما اصبح من المستحيلات لان شهوة الحرب تتعاظم لدى الشركات المتعددة الجنسيات المصنعة للسلاح وشركات الامن وأمراء الحرب الباحثين عن امارة لو على حجارة.
افرزت هذه الحروب ظواهر نازفة متعددة منها ظاهرة المليشيا سلطة ، وامراء الحرب والشيخ المسلح والمعمم المسلح وعسكره الاسلام وعسكره الطائفة ومليشة المذاهب وجميعها تصب في توصيف ((الحرب الديموغرافية )) وكنت قد كتبت عنها محذرا قبل ستة اعوام في عام 2008 وكانت بعنوان ((الحرب الديموغرافية السلاح السري لتفكيك العالم العربي)) وهاهو الواقع يؤكد ذلك ونشهد اليوم ظهور واضح لحرب القوميات وقد اعلنت اسرائيل عن نفسها دولة قومية دينية ( الدولة اليهودية) يقابلها مشروع تصدير الثورة الايرانية بوشاحها الطائفي المذهبي وبوقود عربي ، وكذلك يلاحظ التمدد الروسي في القرم اوكرانيا لأحياء الاتحاد السوفيتي والباحث عن الوصول للشرق الاوسط عبر منصة سوريا ، كما يبدوا ان ازمات العالم الاقتصادية قد غيرت من مفاهيم الامن والسلم الدولي واستغنت عن معايير البقاء وذهب الى مراجل الفناء البشري.
*خبير استراتيجي عراقي