ولد الربيع العربي في تونس، واغتيل في مصر، واشتعلت به النار في اليمن وليبيا، وتعرّض للإبادة في سورية، والآن جاءت اللحظة التونسية الأهم: إما أن يقوم الربيع من تحت الردم ويقف على قدميه، أو يوارى الثرى، ويشيّع إلى مثواه الأخير مع التصويت في الانتخابات الرئاسية غداً.
كانت تونس مهبط وحي الثورات، ومنها انبعثت شرارة الحلم بالتغيير، وانتقلت شرقاً إلى مصر، ثم استدارت ولمعت في ليبيا، لتعبر مجدداً إلى أقصى الشرق في سورية، وفيما انفردت تونس بمسار ثوري واضح ومستقيم، تعثّرت خطى الثورات في باقي دول الربيع، بعضها ضاع تحت سنابك خيول الانقلابات، وأخرى تعرّضت للوأد في المهد ولا تزال، كما هو الحال في سورية.
الهالات السوداء التي كست وجه ثورات الربيع، في كل الدول العربية، جعلت قلوب الجميع معلّقة وأبصارهم موجهة إلى تونس، في ظل ارتفاع أمواج تنظيم الثورات المضادة الذي يهاجم شواطئ الربيع في كل العواصم العربية، وكانت الانتخابات البرلمانية التي اكتملت، الشهر الماضي، الاختبار الأكبر لمدى جدارة العرب بالربيع، وملاءمة الربيع للعرب، وحين أسفرت النتائج عن تقدم معسكر الدولة العميقة، ظهرت علامات الإحباط واليأس على جمهور الربيع، غير أن الأهم في ما جرى أن تونس قدمت أنموذجاً في القابلية لممارسة الصراع السياسي بشكل متحضّر وآدمي، يبشّر بأن زمناً عربياً ديمقراطياً جديداً يطلّ من كوّة صغيرة تشرف على ساحة الاستبداد الممتدة باتساع الخارطة العربية.
تقدمت الدولة العميقة، غير أن القوة الممثلة للربيع لم تسلم الراية، وأبقت على حصة معقولة لها، أو بالأحرى حصة جيدة لأحلامنا في التغيير والديمقراطية والانعتاق من الماضي.
وتأتي الانتخابات الرئاسية غدا لتضع تونس أمام السؤال الوجودي الكبير: هل يمكن أن يتحول نبع الديمقراطية إلى قبر لها؟ هل من الوارد أن ينتحر الربيع، وتموت الثورة في الأرض التي نبتت بها في تونس، وتقود الانتخابات الرئاسية إلى إسدال الستار على أول محاولة عربية للهبوط على سطح الحضارة والإنارة والجدارة بأن نحيا في مجتمعات إنسانية؟
إن مقاولي الانتخابات، والوكلاء الحصريين لتجارة الثورات المضادة، وكارهي الربيع العربي نزلوا بكل ثقلهم لساحة الانتخابات الرئاسية التونسية، ينفقون ببذخ، ويدعمون بلا حدود ويقاتلون من أجل الحيلولة دون وصول وجه معبّر عن زمن الربيع العربي إلى قصر قرطاج، ووصل الأمر بهم إلى رفع البراقع عن الوجوه، وبعد أن كانوا يكتفون بالتحريك والتمويل عن بُعد، ذهبوا إلى أرض الملعب التونسي، لتتحوّل الانتخابات الرئاسية، مثلما كانت البرلمانية، إلى شأن يخص كل العرب، ولا ينحصر في الدائرة التونسية فقط.
أعلم أن الإغراءات شديدة، وتمويل مشروع إسقاط الثورة التونسية اخترق كل أسقف الخيال، بالطريقة ذاتها والسخاء ذاته الذي عرفته عملية تصنيع الانقلاب على الديمقراطية في مصر، لكني أعلم، أيضاً، أن الشعب التونسي لن يسمح للتاريخ بأن يكتب عنه أنه الشعب الذي ألهم الجميع بالتغيير والحرية والعدل والديمقراطية، ثم قرر أن يشعل النار في كل ما بشّر به وباهى به الأمم.
إن التونسيين لم يفجروا ربيع العرب، بحثاً عن أوضاع مادية أفضل، بل كان ذلك انتصاراً لكرامة الإنسان، وانتزاعاً لحريته، وكما قلت، من قبل، إن نظام زين العابدين بن علي، وهو الأكثر بطشاً بالمعارضين، وعصفاً بالحريات، وفساداً على مستوى العائلة الحاكمة، استطاع، فى الوقت ذاته، أن يحدث تنمية وضعت تونس فى مرتبة تالية للدول النفطية. ومن ثم، فإن البوعزيزي لم يحرق نفسه مدفوعاً بشح المال، بل دفعاً لإهانة إنسانيته. وعلى ذلك، أثق أن التونسيين لن يبيعوا ما تبقى من ربيعنا لقاء أموال تجار الانقلابات ومستثمري الثورات المضادة.
وكما علّمتنا تونس الدرس الأول في الثورة، ننتظر منها الدرس الأول في التصدي لجيوش الردّة على الثورة.
* كاتب صحفي مصري