أحد أهم أسباب اندلاع الأزمة الحالية في ليبيا، يكمن في اختفاء المبادرات السياسية، عقب سقوط نظام القذافي، فعندما أنهي حلف شمال الأطلنطي (ناتو) مهمته العسكرية، ترك البلاد تغرق في بحر من الميلشيات المسلحة، بعضها يتقاتل مع بعض، من أجل الاستحواذ والسيطرة وفرض الإرادة على المساحات الشاسعة من الأراضي، وغالبيتها يعمل لحساب جهات داخلية أو خارجية، أو الاثنين معا، لتبقى الأوضاع على حالها من السيولة، حتى ترسخ الإنفلات، وبدلا من أن يتحول إلى دافع للاستقرار، أصبح رادعا يحول دون الوصول إليه.
القوى الدولية التي تحركت بسرعة لمساندة الثورة الليبية، تقاعست عن التحرك بالدرجة نفسها لتحقق أهدافها، في المرات القليلة التي اقتربت فيها من الأزمة وتفاعلاتها، كان اقترابها يصب في مربع خلط الأوراق، أو إعادة ترتيبها بما يضاعف من صعوبة الحل، كأن تطرح أفكارا خيالية، غير قابلة للتطبيق، أو تعمل لصالح فصيل أو جماعة، مرفوضة من الغالبية العظمى في البلاد.
عندما بدأت الأوضاع تزداد تأزماً، وترخي بظلال قاتمة على بعض دول الجوار، أجمعوا على ضرورة التحرك، لتحجيم التداعيات السلبية للتطورات المتسارعة على الساحة الليبية، وطرحت مصر مبادرتها السياسية قبل نحو ثلاثة أشهر، ولقيت ترحيبا من دول الجوار، تونس والجزائر والسودان، فضلا عن مصر وليبيا، ساعتها أخذت الساعة السياسية تتحرك للأمام، وتفاءلت جهات كثيرة، وتصورت أن ساحة التسوية قد فتحت، خاصة أن دول الجوار تجاوبت مع هذه المبادرة، بالاجتماعات والمؤتمرات مع كثير من أطراف الأزمة، ولاحت في الأفق بوادر تسوية، كانت مفقودة لمدة طويلة.
في هذه اللحظة، كان من المتوقع أن تتحرك القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، وتلقط طرف الخيط المصري، وتبني عليه شبكة من الخطوات الجادة، لكن ما حدث كان عكس هذا الاتجاه، حيث رأينا تحركات عملية مناهضة للتصورات المصرية، ومعرقلة لها على الأرض، وبدا أن هناك رغبة عارمة من قبل دوائر بعينها لبقاء الحال على ما هي عليه، لتظل الحدود الليبية منغصاً أساسياً لجيرانها، في مصر وتونس تحديدا، بل وتتحول ليبيا إلى دولة فاشلة، بكل ما تنطوي عليه من مشكلات للدول القريبة منها.
كانت الخطوة الأولى، لافساد الطبخة المصرية، تحريض بعض القوى المحلية على القاهرة، تارة باتهامها بالتدخل في الشؤون الليبية المحلية، وأخرى بترويج شائعات حول قصف طائرات مصرية مواقع ليبية، وعندما فشلت الذرائع التي جرى ترويجها في هذا الفضاء، لجأت بعض القوى الدولية، المسنودة من أوساط إقليمية نافذة في ليبيا (تركيا وقطر)، إلى المثل الشعبي “داوها بالتي كانت هي الداء”، فأعلن عن مبادرة من جانب الأمم المتحدة، بالتوازي مع المبادرة المصرية، شملت بنودا غير مرضية للقاهرة، وعقد مؤتمر في مدينة “غدامس” الليبية، لم يتمخض عن أي نتائج حقيقية، سوى إثارة اللغط حول الجهود المصرية، والتحريض عليها لتعطيلها.
المسألة تطورت، إلى قيام فرنسا بالإيحاء، أو قل تشجيع، الجزائر على طرح مبادرة سياسية جديدة، لا تجب المبادرة المصرية، لكن تجهضها تدريجيا وتناكفها، ومع أن الجزائر لم تعلن رسميا عن خطوتها، غير أن مؤشرات كثيرة أكدت أن لديها رؤية موازية للأفكار المصرية، وبعد أن أدركت الجزائر مرامي هذا الفخ، تصرفت بقدر من الحذر والتريث، ولم تتورط في تحركات عملية، لاسيما أن علاقاتها مع القاهرة تحسنت ولا تريد التفريط في هذا التحسن.
بورصة المبادرات الخاصة بليبيا لم تتوقف عند هذا الحد، لكنها تصاعدت، وتم الزج بالاتحاد الأفريقي، وتحدث مبعوثه إلى ليبيا (دالتا محمد دالتا) عن مبادرة أفريقية، تسير في خط بعيد عن المبادرة المصرية، ويقترب من تحركات المنظمة الدولية (الأمم المتحدة)، تزامن معها أيضا دخول السودان على الخط، وقامت الخرطوم بطرح أفكار، وهي المتهمة أصلا، من جانب جهات رسمية ليبية، بدعم ميلشيات إسلامية مسلحة، فاختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يعرف، أول الخيط من نهايته، ومن الذي سيتولى حل الأزمة الليبية.
في ظل المهرجان المفاجئ للمبادرات السياسية، وجدت قوى رافضة للتسوية، وراغبة في استمرار الأزمة، ورفض حلحلتها، فرصة في تنحية مصر عن دورها فى ليبيا، بعد أن أوشكت مبادرتها أن تتوه وسط السخاء الواضح في الأفكار والمبادرات، فقد كان من البداية المقصود “تمييع” التسوية، أو بمعنى أدق تفريق دمها بين الدول، وبدلا من التنسيق والتعاون، تحولت إلى وسيلة للصدام.
فالجزائر التي اقتربت منها القاهرة، كادت تحدث بينهما فتنة بسبب ليبيا، والسودان الذي تحسنت علاقاته مع مصر، لم يعد من المستبعد أن يتراجع ما حدث من تطور إيجابي بينهما، والاتحاد الأفريقي الذي تعتزم القاهرة استعادة دورها في أوساطه، بدا كأنه يمشي في طريق عكس مسارها، وهكذا بدلاً من أن تتفرغ مصر لاستعادة عافيتها السياسية مع هذه الجهات وفي قضايا كثيرة، من الممكن أن تنشغل بمنع حدوث صدام معها، سواء على أرضية ليبيا أو غيرها.
من هنا، أصبح مزاد المبادرات، يهدف أصلاً إلى ابعاد مصر عن ليبيا، بعد أن قطعت شوطاً مهماً لوضعها على طريق التسوية، التي غابت لفترة طويلة، فهناك دول تريد عدم مبارحتها مستنقع الأزمات الذي دخلته منذ فترة، وتخطط لأن تكون مصدر تهديد، لبعض دول الجوار، مصر وتونس، وربما الجزائر، حتى تضطر هذه الدول للانكفاء على همومها، وتبتعد عن الشروع في التنسيق والاقتراب من جارتهم المنكوبة، التي يبدو مطلوباً أن تظل عنصراً للتوتر وليس الاستقرار.
*كاتب صحفي/ “ميدل ايست أونلاين”