الذين فكروا في بناء منظومة «الاتحاد من أجل المتوسط» راودتهم تطلعات لناحية التغلب على أزمات أوروبا المتوسطية، عبر الانفتاح أكثر على الفضاء المغاربي، كونه المتنفس الطبيعي جنوباً في اتجاه القارة الأفريقية الغنية بموارد لم تستغل بعد. صادف أن أوروبا التي توصف بـ «القارة العجوز» راكمت رصيداً في استثمار أجيال شباب متحدرين من أصول مغاربية، أسهموا في بنائها، يوم كانت الهجرة مطلوبة ولا تحفها أخطار النزوح غير الشرعي ومخاوف الإرهاب والتطرف.
واقع المنطقة المغاربية ليس بهذه الصورة المشرقة. وإذا كان صحيحاً أن الشباب يشكلون الهرم البارز في تركيبة مجتمعاتها، بما يحمل ذلك من طموحات وتطلعات، فالصحيح أيضاً أن مرحلة الشباب تكون أكثر زخماً وعطاء في العقول السياسية. ولم تطرح أزمة نظام سياسي كما في الحال الجزائرية، خصوصاً في ضوء الأدوار البارزة التي يضطلع بها الزعماء السياسيون. فكثيراً ما ترتبط التحولات – كما الأزمات – بشخصية الحاكم وقدرته على مواجهة التحديات، داخلياً وإقليمياً ودولياً.
قانون الطبيعة لا يعفي أحداً. فكل نفس تظل عرضة للضعف الذي يعتري الأجساد. لكن قانون السياسة أوجد الاستخلاف في المسؤوليات والتناوب في الحكم ودولة المؤسسات التي لا تتأثر بأعراض مرض الأشخاص. ولم يكن العقل الديموقراطي لاهياً حين اشترط في المترشحين للزعامة عافية الأفكار والبرامج والأجساد، كي لا تتعطل دواليب وآليات اتخاذ القرارات في توقيتها. وفي تقاليد الموروث الثقافي أن عقود البيع والشراء وأصناف المعاملات تتطلب حضوراً ذهنياً. غير أن الحالة الجزائرية ليست استثناء. فهناك مزيد من الأعراض التي استشرت في الجسد المغاربي إلى حد النفاذ إلى النخاع. ما أسهم إلى حد كبير في تعطيل مسار البناء المغاربي والانشغالات المحلية أيضاً.
سعت الجزائر إلى انتقال ديموقراطي أنهى سلطة الحاكم العسكري. وجاء الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة باعتباره أول حاكم مدني منتخب، رغم الانتقادات التي وجهت إلى التجربة من طرف فصائل المعارضة، يحمل مشروع المصالحة والوئام. غير أن نظريته التي حققت انفراجاً في العلاقة مع الفصائل المسلحة، تعثرت أمام حملة التغيير في العلاقة بين السلطة والمعارضة، وتحول وضعه الصحي إلى برنامج انتقادات واسعة النطاق، فيما ظل المشروع المغاربي يراوح مكانه، لأن ثمة استحقاقات داخلية تستقطب الحيز الأكبر من الاهتمام.
كان الرهان قائماً على أن ليبيا ما بعد نظام العقيد الراحل معمر القذافي، يمكن أن تقدم دفعة قوية لمسار البناء المغاربي، لولا أنها تعثرت وسقطت في أتون صراعات سياسية وقبلية ودينية، قيدت حركتها في كل الاتجاهات. وبعد أن كانت دول المنطقة تعوّل على دور ليبي يدعم منطق الثورة على الاستبداد وعقلية الاستئثار بالسلطة والثروة، استقر هاجس الشركاء المغاربيين عند البحث في وسائل وآليات جذب البلاد إلى ضفاف مصالحة وطنية تضع حداً للاقتتال الدائر بعشوائية دمرت آمال الليبيين في مجرد إقامة دولة آمنة لا يسمع فيها صوت الرصاص صباح مساء.
كما في تراجع البعد المغاربي جزائرياً، بات آخر شيء يمكن التفكير فيه بالنسبة إلى الليبيين هو استقراء الخطوات التي تؤدي إلى معاودة تفعيل الاتحاد المغاربي. وكان وارداً أن تنقشع السحب لو أن المنظومة المغاربية المتعثرة فعلت شيئاً ملموساً في احتواء الأزمة الليبية.
ولا تبدو أوضاع موريتانيا في طريق الاستئناس بالبعد المغاربي، خصوصاً أن انتسابها الأفريقي حقق لنظام الرئيس محمد ولد عبدالعزيز مكاسب إقليمية، وإن لم يتحقق البعد الديموقراطي في علاقاته بفصائل المعارضة. فالمدرسة التي قادت انقلاب نواكشوط قبل عشر سنوات ما زالت هي نفسها التي تستأثر بالحكم، وإن عبر الانتخابات ومنافسات صناديق الاقتراع التي لم تجذب كل المعارضة الموريتانية.
غير أن حالتين أقرب إلى تمثل الانتعاش تجسدهما التجرتان التونسية والمغربية. لكنهما غير قادرتين على تحويل التفاهم الثنائي، كما جسدته زيارة رئيس الحكومة التونسية مهدي جمعة إلى الرباط، إلى وئام مغاربي متعدد الأطراف، على رغم أن تونس الثورة كانت سباقة إلى تحريك مساعي البناء المغاربي منذ الوهلة الأولى لتثبيت أركان الحكم الجديد.
هل هو صراع أجيال ونخب يلقي بظلاله على الواقع المغاربي؟ في أي حال، فإن التربة الخصبة التي أوجدها «الربيع العربي» لم تبذر آمالاً كبيرة في توقع حصاد وفير. فالإقرار بأن كلفة اللامغرب عربي كانت من بين أسباب اندلاع موجة «الربيع العربي»، لا يوازيه توجه قوي للانتقال إلى درجة السرعة القصوى. تشيخ أوروبا المتوسطية ويتشبب الفضاء المغاربي، فمتى يتم ذلك على صعيد العقول؟
*كاتب من المغرب/”الحياة” اللندنية