هى ليست إلا واحدة من شائن مفارقات هذا الزمن العربي الأحلك والأشد مصيرية في تاريخ الأمة، والمرحلة الأردأ والأكثر خطورة في مسارات صراع الوجود العربي الصهيوني في فلسطين، ذلك عندما نجد انفسنا في لحظة لامعقولة نشهد فيها ما هو الأقرب إلى الصمت المتعمد، أو شبه التجاهل المُتقصَّد مع سبق الإصرار، وحتى الإشاحة المتواطئة، رسمياً، وستمرار الغيبوبة شعبياً، تجاه كل هذا الذي يجري الآن في القدس، هذه التي تقترب الآن أمام انظار وابصار الجميع من نقطة النهاية في تطبيق مخطط تصفية عروبتها، وباتت على بعد خطوات ليست بالكثيرة من وضع نهاية لما يرمز لإسلاميتها، أو بدء العد العكسي جهاراً نهاراً لتنفيذ مخطط هدم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وبناء الهيكل المزعوم مكانه.
من شواهد هذه المفارقة العجائبية المريرة أننا، في حين لانلمس صدى يذكر في الشارعالعربي المنشغل بأولوياته ودواهيه، نكاد لانسمع، لارسمياً ولانخبوياً، من يتحدث بالعربية، باستثناء السرديات الإخبارية الإعلامية الهامشية،حول ما يكثر الصهاينة انفسهم الآن من توصيفه ب”الإنتفاضة المصغَّرة” التي مسرحها الآن الراهن المقدسي، في اشارة منهم إلى جاري المواجهات المحتدمة بينهم والمقدسيين العزَّل المستفرد بهم والتي باتت مشهداً يومياًبالنسبةلأزقة وحواري المدينة المستهدفة بالتهويد وساحات الحرم المقدسي المستباح الآن داخله بعد أن كان الأمر سابقاً المقتصرً مرحلياً على خارجه!
هذه الإنتفاضة المقدسية “المصغَّرة”، أو المحاصرة، ليست وليدة فحسب لهذه الأيام المحتدمة قمعاً ومواجهةً، وانما زامنت بداياتها الحرب العدوانية على غزة، وزاد من اشتعال فتائلها الملتهبة جريمة اختطاف الشهيد محمد ابوخضير وقتله حرقاً، ورافقت تصاعد تجليات التهويد الزاحف على ماتبقى من امتار لم تهوَّد بعد في القدس، واشتدت باشتداد دوران آلة الفتك الباطشة بالمقدسيين عبر مايلاقونه اغتيالاً، وابعاداً، واعتقالاً، وهدماً لبيوتهم، ومصادرةً لأملاكهم، وحتى انفاسهم، وأخيراً مستمرهذه الاجتياحات والانتهاكات المدروسة والمبرمجة والمستفزة والتي باتت اليومية للحرم القدسي الشريف، وبلغت ذروتها في الاقتحام الموقوت من قبل نائب رئيس الكنيست والرجل الثاني في حزب نتنياهو ومنافسه على زعامته فيجلين، والذي جال مخفوراً بجنده في المسجد الأقصى في ذكرى وعد بلفور المشئوم بالذات، أو هذه المناسبة التي يقول فيها نتنياهو، إنني “اشكر السيد بلفور الذي وعد بمنح الحقوق التاريخية للشعب اليهودي على ارضه (…)، ووضع هذا الوعد حجر الأساس لإقامة الدولة”الصهيونية…وانتهائاً باجتياح الجند له حتى منبره واطلاق النار وقنابل الغاز على المصلين ثم اقفاله للمرة الثانية خلال أيام لم تزد على الثلاثة.
…وهذه الانتفاضة المقدسية المستفرد بها،أوالمغيَّبة، أوالمطلوب أن تظل الممنوعة صهيونياً واوسلوياً من الاتساع الى حيث اكنافها في باقي الضفة، دفعت نتنياهو إلى المخاتلة تهدوياً قولاً لاعملاً بقوله إننا “لن نغيِّر اجراءات العبادة والزيارات المترتبة في جبل الهيكل”، لكنه إذ يقرن ما دعاه اجراءات العبادة بالزيارات المترتبة، واطلاق مسمى جبل الهيكل على الحرم القدسي، فليس هذا سوى ما يعني مرحلياً اقتسامه زمنياً ومكانياً توطئةً لهدمه لاحقاً وبناء هيكله على جبله المزعوم…في سياق هذه التهدئة النتنياهوية تواصلت الاقتحامات والانتهاكات واستمر قمع المقدسيين وأُعلن عن المزيد من القرارات التهويدية الإضافية في مستعمرة “رامات شلومو” المقامة على ارض بيت حنينا، وتجري المناقشات لمشاريع مثلها في جبل ابوغنيم، وتم استصدار قانون صودق عليه للمرة الثانية في الكنيست يقضي بمعاقبة من يلقي من الفلسطينيين حجراً على محتليهم بالسجن لمدة قد تصل الى العشرين عاماً… وإذ استمرت الاقتحامات ومواجهاتها، وتعالت استجارات واستغاثات المقدسيين بأهلهم وأمتهم، لكنها كلها ضاعت سدى في زمن لقد اسمعت لو ناديت حياً، عربياً، واسلامياً، وكالعادة كونياً…فماذا فلسطينياً؟!
كل ما كان من رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الاحتلال في رام الله هو قوله، إن “ما جرى في القدس والمسجد الأقصى في الأسابيع الماضية من توتر واشتباكات وصدامات في داخل الأقصى نفسه يحزننا ويؤلمنا”…وإذ يحزنه ويؤلمه ما جرى فماذا هو فاعل؟! إنه ليس سوى ما ابلغه للجنته التنفيذية في اجتماعها الذي تداعت اليه ، والذي لم يزد على التالي، لقد “حصلت اشتباكات وصدامات، لكن جاء اليوم بيان من رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو يدعو إلى التهدئة ونحن مع التهدئة”… ولأنه معها، لم يمنعه الجاري في القدس من ارسال كبير مفاوضيه ورئيس استخباراته الى واشنطن تلبيةً لطلب من كيري لهدف جلي هو اقناع الأوسلويين بحل مرحلي تفاوضي من شأنه أن يثنيهم عن التوجه الى مجلس الأمن،ويوفر على واشنطن الاضطرار لاستخدام حق الفيتو…فماذا بعد؟!
لقد اقر الصهاينة بعجزهم قمعياً، ومنهم من يصرخ بإن “القدس تشتعل”، ومن لا يعوِّل إلا على “دور السلطة في تهدئة الوضع”! لكن واقع الحال الفلسطينية في القدس، والذي خير ماتنبئنا عنه هى العملية الفدائية الأخيرة التي نفَّذها ابن مخيم شعفاط الشهيد ابراهيم العكاري،إذا ما اضفنا اليه بادي الجمر الكامن إلى حين تحت رماد القبضة الدايتونية الأمنية الأوسلوية والتنسيق الأمني مع المحتلين في الضفة، أو ما تنبئنا عنه لاحقتها العملية الفدائية الثانية شمالي الخليل،التي تلتألأولى بساعات على بوابة مخيم العرقوب، ومعهما راهن غزة مابعد الحرب المحرقة ومنجزات صمودها الإعجازي الفريد، حيث لاحصار رفع ولا إعادة اعمار بدأت، وبدلاً من فتح معبر رفح توالي الجرافات محاولة ابعاد الرفحين،المصرية عن الفلسطينية،مكانياً وقومياً،بأقامة منطقة عازلة بين من كانتا قبلما كانت الحدود القطرية مدينة واحدة…هذا الواقع يقول: لابد مما ليس منه بد…إن الانتفاضة الشاملة، والضرورة، آتية، وآتية لاريب…
* كاتب فلسطيني