الرئيس الذي تحتاج إليه تونس

بعد أن طوى الشعب التونسي محطّة الانتخابات التشريعيّة يوم 26 أكتوبر 2014 الماضي واطمأنّ، نسبيّا، على مستقبله، تشرئبّ أعناق التونسيّين، جميعها، الآن إلى الانتخابات الرئاسيّة لتكتمل صورة الحكم التي ستتشكّل بعد 23 نوفمبر الجاري. ورغم أنّ الدستور التونسي الجديد قد قلّص من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، ومنح أغلب مفاتيح السلطة التنفيذيّة بيد رئيس الحكومة، فإنّ صورة الرئيس لم تخسر شيئا من إغرائها وغوايتها.
ولابدّ من التذكير بأنّ تقسيم السلطات هذا كان امتدادا للدستور الصغير أو النظام المؤقّت للسلط العموميّة الذي فرضته الترويكا في المجلس التأسيسي بقيادة حركة النهضة. ودفعت النهضة نحو نظام حكم مشترك تتقاسم فيه السلطات التنفيذيّة مؤسّستي رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة بشكل غير متوازن. ووضعت كلّ ثقلها النيابي في التأسيسي من أجل وضع أغلب السلطات بيد رئيس الحكومة.
وفي الوقت نفسه، أحجمت النهضة عن تقديم مرشّح منها للرئاسيّة. وكان تبرير ذلك غريبا، وقد ورد على لسان رئيس الحركة راشد الغنوشي ثمّ تداوله قادتها، ومفاده أنّ الحركة لا تريد أن تستأثر بكلّ السلطات. ومع ما في هذا التبرير من إظهار للتواضع والزهد في السلطة، فإنّه يخفي قناعتين:
الأولى هي السيطرة على المشهد السياسي التونسي، والثانية هي ضمان الفوز بالتشريعية بلا منازع، وهو ما سيمكنها من تشكيل حكومة دائمة. ولكنّ هذه الحسابات أسقطتها انتخابات 26 أكتوبر. وخسرت حركة النهضة الأغلبيّة النيابيّة والحكومة. والتفتت إلى الرئاسيّة تنظر في المترشحين لتنقذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن فشلت تقديرات قياداتها وخططها وقراءاتها.
إذن، الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة أفرزت واقعا سياسيا جديدا سيؤثر حتما في نتيجة الرئاسيّة. وقد كشفت البرلمانية عن موازين قوى نسفت الترويكا التي حكمت تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011. فالحزبان اللذان شاركا حركة النهضة في حكم الترويكا بفعل فوزهما النسبي في الانتخابات الماضية، قد منيا بهزيمة فادحة أخرجتهما من المشهد. ولكن بقي لكل منهما مرشّح للرئاسة هما؛ منصف المرزوقي رئيس الجمهوريّة المؤقّت والرئيس الشرفي لحزب المؤتمر، ومصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس حزب التكتّل.
الواقع الانتخابي الجديد أفرز قوّتين جديدتين؛ حركة نداء تونس الفائز الأكبر في التشريعية، والثانية هي الجبهة الشعبية القوّة الثالثة في تونس. وما أربك حسابات حركة النهضة أنّها وجدت نفسها مرتبة بين قوّتين خصمتين لها، بل بينها وبينهما عداء. هذا الإرباك جعلها تحاول تدارك خطئها التقديري في عدم تقديم مرشّح للرئاسيّة ولو أنّ بعض المترشّحين قريبون جدا منها. وقد برر رئيس حركة النهضة اهتمام حركته بالرئاسيّة بالبحث عن التوازن السياسي في ضوء ما أفرزته التشريعية من نتائج.
حديث راشد الغنوشي عن التوازن سببه أن حركة نداء تونس صاحبة الأغلبيّة في مجلس النوّاب والتي ستشكّل الحكومة، لها مرشّح للرئاسيّة هو الباجي قائد السبسي. وتخشى حركة النهضة أن يفوز قائد السبسي بالرئاسية ويستأثر حزبه بالحكم من خلال إمساكه بالسلطات جميعها. هذا السيناريو يخيف حركة النهضة بل يرعبها، لأنّها تعتقد أنّه سيؤدّي إلى عودة الاستبداد.
27 مترشّحا سيتنافسون في الطريق إلى قرطاج. ولكنّ المنافسة ستنحصر بين ثلاثة مترشّحين هم؛ حمّة الهمّامي الناطق باسم الجبهة الشعبيّة، والباجي قائد السبسي رئيس حركة نداء تونس، ومنصف المرزوقي الرئيس الشرفي لحزب المؤتمر. وهؤلاء هم أبرز المتنافسين لجملة من العوامل.
بالنسبة إلى الباجي قائد السبسي فإنه مدفوع بنشوة الانتصار الكاسح لحزبه في التشريعيّة بما يغري بوجود قوّة انتخابيّة ضاربة ستمكّنه من أصواتها. والكثير من الملاحظين يرون أنّ من صوّت لنداء تونس فقد صوّت له من أجل رئيسه بفعل الكاريزما التي يتمتّع بها لاسيّما بين الكهول والشيوخ. ولكنّ فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة سيخلق مشكلة حقيقيّة متّصلة بالتوازن بين السلطات، وسيعزّز خوف النهضة الذي أشرنا إليه أعلاه رغم التطمينات التي لم يتوقّف الرجل عن إطلاقها، والتي مفادها كونه ديمقراطيا ولن يسمح بعودة الاستبداد. نسي قائد السبسي والنهضة أنّ الضامن الحقيقي للديمقراطيّة وصمّام الأمان ضدّ عودة الاستبداد ليس الأشخاص ولا الأحزاب، وإنّما هو الشعب التونسي وقواه المدنيّة.
المتراهن الثاني على كرسي الرئاسة هو منصف المرزوقي،ّ وهو يحاول استغلال خوف النهضة بعد خيبتها الانتخابية حتى أنه يخاطب أنصارها ويخطب ودهم فيسميهم “شعب النهضة”. ويعوّل المرزوقي على نعرات جهوية خطيرة بدأت تحرّكها أياد خبيثة لغايات انتخابيّة، ولكنّها غير وطنيّة بما أنّها تستهدف وحدة الشعب التونسي وتهدّد استقراره. منصف المرزوقي ركب موجة الجهوية هذه دون وعي ولا تبصر.
هذا المترشح يحمل على ظهره سلبيات كثيرة منها مشاركته في الاستيلاء على الحكم دون شرعيّة، إذ أنّ الشعب التونسي انتخب الترويكا لسنة واحدة فبقيت في الحكومة سنتين، وبقي هو في الرئاسة ثلاث سنوات.
كما أنه كان طيلة فترة تواجده في قرطاج في علاقة متوترة مع أغلب مكوّنات المجتمع المدني ومع الإعلام. بل إنه استعدى مختلف مكونات النخب التونسية بالكتاب الأسود الذي أصدره ثمّ سحبه بحكم قضائي. ولم يلعب المرزوقي دورا إيجابيا أثناء الحوار الوطني الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل، بل عمل على عرقلته.
كما لم يوفّق المرزوقي، في أن يكون رئيسا لكل التونسيين إلى آخر خطاب ألقاه. ولم يعمل على جعل الرئاسة مؤسسة جمهورية، بل احتكرها لحزبه ومن والاه. أمّا علاقات تونس الخارجيّة فقد أساء التصرّف فيها. وأدخل تونس في مشاكل دبلوماسيّة جرّاء الانضمام إلى أحلاف خارجية عوض التركيز على خدمة الجالية التونسيّة، وجلب الاستثمارات لتونس.
المتراهن الثالث على الرئاسة هو حمّة الهمّامي الناطق باسم الجبهة الشعبيّة. وينطلق الهمامي في هذا السباق بجملة من المؤثرات التي يفتقر إليها منافسوه. منها كفاءته القيادية التي تجلت في قدرته على تجميع القوى التقدميّة تحت مظلة الجبهة الشعبيّة رغم ما بينها من تباعد، ومنها ما تتمتع به الجبهة الشعبية من تعاطف بسبب ما قدمته من شهداء أثناء حكم الترويكا في سبيل الدفاع عن تونس من المخطّطات الظلامية التي كانت تستهدفها. كما يتقدم الهمامي للرئاسية مدفوعا بحماس متأت من الفوز الانتخابي الذي حققته الجبهة الشعبيّة في التشريعيّة الأخيرة. الانتخابات الرئاسيّة على الأبواب، وستعرف البلاد رئيسها الذي تحتاج إليه ليضمن سلامة طريقها إلى الاستقرار والتنمية والسلم الاجتماعيّة.

*كاتب وباحث سياسي من تونس/”العرب”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *