طرحت ثورات «الربيع العربي» مستجدات لم تكن متوقعة، كما أفرزت حقائق لم تكن معروفة، على رغم أن الواقع كان يوحي باحتمالات كبرى للتغيير الشامل في ظل أنظمة غابت فيها العدالة وشاع فيها الفساد، واشتد معها الاستبداد، ولعلنا نطرح هنا الملاحظات الآتية:
أولاً: ما زلت ممن يظنون عن يقين، أن ثورات الربيع العربي اندلعت نتيجة الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي الصارخ وشيوع الفساد وغياب العدالة الاجتماعية وإحكام قبضة الاستبداد في الحكم، وهو ما أدى إلى خروج ملايين الشباب إلى الميادين مطالبين بالتغيير وإسقاط الأنظمة الحاكمة. ولا بأس من كل ذلك لأن الأمر يرتبط بحق الشعب في الثورة على الحاكم، وهو أمر تعلمناه في دروس التاريخ ودورات الحكم، واكتشفنا في النهاية أن تراكم السخط يؤدي إلى الانفجار في أي لحظة، ولكن يبقى التساؤل حول نقطتين: الأولى هل كانت ثورات الربيع العربي شعبية تلقائية، لم يجرَ التحضير لها والترتيب المسبق لاندلاعها؟ أما السؤال الثاني فيدور حول حقيقة تسرب عناصر ذات أجندات خاصة للاندماج في حشد القوى الثورية البريئة التي خرجت من أجل الوطن، والواقع أن هذين التساؤلين لا يخلوان من عوامل القلق وأسباب الاضطراب، إذ إن ثورة 25 يناير 2011 في مصر وسابقتها في تونس ولاحقتها في ليبيا، هي وغيرها تبدو بغير جدال ثورات شريفة ومبررة لأنها ثورات شعوب والشعوب لا تتآمر على نفسها، ولكن يمكن فقط أن تُسرق حقوقها أو تُزيّف أحلامها، وهل هناك من شك في إخلاص الملايين من الشباب الذين خرجوا إلى الميادين مطالبين بتغيير أنظمة طال العهد بها، واقترب عمرها الافتراضي من النهاية؟ ولكن النتيجة النهائية لربيعنا المزهر تحولت إلى خريف جاف، بل وسنوات عجاف، فما السبب وراء ذلك التحول؟ إن الإجابة في ظني تكمن في حقيقة يجب أن نعترف بها جميعاً، وهي أن الثورات الوطنية – عبر مسيرة التاريخ كله – يقوم بها الشرفاء وقد تحصد ثمارها جماعات انتهازية، بل وربما أجندات خارجية!
ثانيا: لقد أطل علينا الإرهاب بوجهه القبيح وسحنته الكئيبة، ذلك الإرهاب الذي يستهدف الأرواح البريئة والدماء الطاهرة بلا هدف واضح أو رؤية محددة! والإرهاب هو آفة العصر وأخطر ما يهدد المدنية والحضارة، إذ إن العملية الإرهابية كما تتصف بالخسّة والنذالة فإنها تتصف أيضاً بالعشوائية والانسحاق تحت أقدام شهوة القتل أياً كانت أداته ووسيلته، فالغاية غامضة والجريمة نكراء، ولقد بدأت أشعر بأن الجماعات الإرهابية بينها قاسم مشترك هو العداء للحياة ورفض الآداب والعلوم والفنون والعبث بالأديان وتشويه تعاليم السماء. وأثبت أحدث الدراسات أن تلك التنظيمات ليست دينية بالمعنى الروحي والأخلاقي ولكنها جماعات ضلت الطريق وهوت في مستنقع الإثم والعدوان، بل وتدخلت تلك الجماعات في الوظيفة الإلهية له سبحانه وتعالى مانح الروح وسالبها، فاقتنصت تلك الجماعات ذات القلب الأسود والنفس المريضة حق الله في أن يكون القابض على الروح التي جعلها وديعة لدى الإنسان لفترة يعلمها هو سبحانه ويقبضها حين يشاء. إن تنظيم «داعش» يستقطب الشباب والفتيات من أنحاء العالم من ذوي الأصول الإسلامية أو غير الإسلامية فالمطلوب فقط هو «الشاب المأزوم»، أو «الفتاة المحطمة ذاتياً» وليس أمامهما إلا الانسحاب من حياتهما الطبيعية والتسلل إلى قواعد ذلك التنظيم الدموي الذي يجمع كل الرافضين لحياتهم والساعين إلى تصفية حياة الآخرين والعودة بالمدنية والحضارة إلى عصور الظلم والظلام. لذلك، فإننا نقول بأعلى الصوت إن تلك التنظيمات المشبوهة لا تعرف الله ولا تلتزم بدين، ولكنها تجمعات للساخطين والرافضين والخوارج! وما حدث في سيناء المصرية منذ أيام قليلة هو امتداد لتلك الروح الشريرة التي عصفت بحياة عشرات الضباط والجنود من المدافعين عن أرض الوطن.
ثالثاً: ما كان يمكن ثورات «الربيع العربي» ولا لغيرها من الانتفاضات الجماهيرية والحشود البشرية، أن تتم من دون التقدم الكاسح في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، إضافة إلى التطور الهائل في الوسائل المرئية للأحداث. فالحروب أصبحت على الشاشة الصغيرة أمام الناس، فضلاً عن التواصل من خلال أجهزة الكومبيوتر والأحاديث المتبادلة والارتباطات المتزامنة. لذلك، كان طبيعياً أن نجد الحشود الثورية وقد اكتملت من دون قيادة محددة، فالتقنيات الجديدة تسمح بالتواصل بين ملايين الأطراف ولكنها لا تستطيع أن تصنع زعامة واحدة لأن ذلك أمر يتصل بالعلاقة بين الثوار وبروز قيادة من بينهم. وكانت تلك هي إلى حد كبير مشكلة ثورات «الربيع العربي» وهي أنها اندلعت بتجمعات بشرية هائلة من دون رأس يقود أو زعيم يملك «البوصلة» الثورية لتوجيه مسار الملايين وراءه، فلكل حركة جماهيرية لا بد من أن يكون هناك رأسٌ مدبِّر وعقل مفكِّر. أمّا أن يُترك الأمر لتلقائية الجماهير، فذلك هو الذي سمح بالقفز على الثورة وسرقتها والسطو على إنجازاتها من خلال الفصيل الأكثر تنظيماً حتى وإن لم يكن الأكثر وطنية ولا الأكثر وعياً بمطالب الثوار وفهماً للخريطة السياسية التي تمضي من خلالها الدولة بأعمدتها التقليدية نحو المستقبل الأفضل. لذلك، عانت تونس ومصر وليبيا وربما دول غيرها من فقر القيادات الثورية وغياب الرؤية الوطنية التي تكون بمثابة مصابيح تضيء الطريق. لقد ساهمت تكنولوجيا العصر في تشكيل طبيعة الثورة الشعبية المعاصرة وحددت شكلاً جديداً للديموقراطية يقوم على التواصل الإلكتروني الذي لم يكن معهوداً منذ عقود قليلة، فأصبحنا بحق أمام تطور هائل لمفهوم المشاركة السياسية، خصوصاً لدى أجيال الشباب التي ترتبط بشدة مع آليات العصر وتكنولوجيا الاتصال.
رابعاً: أسجل صراحة أن تفاؤلي مشوب بالحذر فالمنطقة العربية تدفع كل يوم بجديد والتطورات أسرع من أن نلاحقها، ولكنني أظن أن بينها قواسم مشتركة يمكن الإشارة إليها في الملاحظتين الآتيتين:
إن ثورات الربيع العربي وما تبعها لم تكن إلا نتيجة لتردي أوضاع الأنظمة السابقة وشيوع الظلم وغياب العدالة وافتقاد الثقة في أجهزة السلطة القائمة نتيجة انتشار الفساد واشتداد الاستبداد، وذلك ما أدى إلى وقوف الشعوب على أطراف أصابعها تبحث عن مخرج، ولقد استثمرت قوى كثيرة ذلك الأمر لإحداث تغييرات في المنطقة لم تحقق ثمارها حتى الآن، بل ربما جاء بعضها بنتائج غير متوقعة أطاحت استقرار الدول نتيجة غياب البرامج الإصلاحية المطلوبة.
إن التغيير – الثوري أو الإصلاحي – ليس هو الهدف في حد ذاته ولكن نتائجه المنتظرة هي التي تحدد أهميته وضرورته. ولا بد من أن أعترف هنا بأنني إصلاحي النزعة، فإذا أدت الثورة إلى إسقاط نظام قديم، فإن خطة الإصلاح التي تقوم على رؤية شاملة هي التي تحدد خريطة المستقبل ومسار الأحداث بعد ذلك. من هنا، فإن حالة التوتر التي تسود المنطقة إنما تصدر بالفعل عن غياب مسيرة الإصلاح وانشغال الشعوب بالوسائل دون الغايات، فلقد اختفت الأهداف وتقاطعت الخطوط وتداخلت المسارات على نحو أدى إلى تسلل جماعات شيطانية طرأ وجودها على المنطقة ونشر الإرهاب والتوتر والقلق وزرع المخاوف حول سلامة الدولة العربية، سواء في العراق أو سورية أو اليمن أو ليبيا، وربما في غيرها أيضاً، فأصبح علينا أن نبحث في المواقف السريعة وردود الفعل القوية لكل ما جرى وما يجري على الساحتين العربية والإسلامية. فنحن نواجه لحظة فارقة في تاريخ المنطقة بأسرها.
إن التقويم الصحيح لثورات «الربيع العربي» يجب أن يضعها في إطارها التاريخي، فقد كانت على ما يبدو من سياق الأحداث ضرورة حتمية توقعها كثيرون من أصحاب الرأي ومالكي الرؤية. إنها إنجاز شعبيٌ ضخم استحوذت عليه جماعة «الإخوان المسلمين» إلى أن بدأت أسهمها في التراجع على نحو ما رأينا في نتائج الانتخابات البرلمانية في تونس، حيث بدأت القوى المعتدلة في الظهور لتسترد الساحة السياسية التي كانت تحتلها من قبل.
* كاتب مصري/”الحياة”