وأخيراً نجحت تونس، وبشهادة المراقبين الأوروبيين المحايدين، في إجراء انتخابات تميزت بالصدقية والشفافية، فخطت بذلك خطوة جديدة في السبيل المؤدي إلى نظام ديمقراطي، ودولة عصرية من أجلهما قامت الثورة التي فجرها البوعزيزي. فرغم التهديدات الإرهابية نجح التونسيون في تنظيم انتخابات هادئة في 11800 مركز اقتراع وبمشاركة نحو 62% ممن يحق لهم الانتخاب، وهي النسبة الرائجة في الديمقراطيات الغربية. ولعبت المرأة دوراً فاعلاً في المشهد الانتخابي فقدمت دليلاً على فشل الأصوليين في القضاء على أحد أهم منجزات الحقبة البورقيبية. أكثر من ذلك كرست هذه الانتخابات مكتسبات هذه الحقبة لتضيف إليها منجزات ثورة الياسمين.
أهمية الإنجاز التونسي أنه نجح في تحدي الجماعات الإرهابية التي أقسمت على إفشال الانتخابات. فالبلد مفتوحة حدوده مع ليبيا ما يسهل دخول الإرهابيين إليها، وقد نجح كثير منهم بتحقيق اختراقات أمنية هزت البلاد عبر الاغتيالات والتفجيرات والاشتباكات مع الجيش لاسيما في جبال الشعانبي. ومثل غيرها من دول الثورات العربية كانت تونس معرضة للفوضى المسلحة والتحول إلى ساحة جهاد للقاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية. لكن يبدو أن المجتمع التونسي لا يشكل البتة بيئة حاضنة لمثل هذا الإرهاب، بدليل أن ذوي النفوس الضعيفة والمغرر بهم من المتشددين يذهبون للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق لأن لا مكان آمن لهم في تونس. هذا ما كشفت عن المرحلة الانتقالية بعد الثورة.
إضافة إلى المجتمع المدني والأهلي الرافض للتشدد والإرهاب والحركة النقابية المنظمة الفاعلة برهنت التجربة التونسية أن الإسلام السياسي فيها يتحلى بقدر واضح من البراغماتية والاعتدال. إنه من الطبيعي أن يسعى الإسلاميون وغيرهم إلى السلطة والبقاء فيها حين يصلون إليها، لكن حزب النهضة، الذي فاز في الانتخابات الأولى بعد الثورة، ووجه بمعارضة شعبية وحزبية خلال وجوده في السلطة بسبب فشله في تحقيق وعوده الانتخابية فقاوم هذه المعارضة بما يملك من قدرات قبل أن يضطر إلى التخلي عن السلطة لمصلحة حكومة جديدة وانتخابات. وقال الغنوشي في عز احتدام الأزمة إن حزب النهضة كان عليه أن يختار بين السلطة والديمقراطية ففضل هذه الأخيرة على أساس أنها قد توصله إلى السلطة لاحقاً. وهذا موقف فيه الكثير من الحكمة والفطنة اللتين افتقر اليهما الأخوان المسلمون في مصر. وكان راشد الغنوشي قد ذهب إلى القاهرة، في ربيع العام 2013 لينصح الرئيس المخلوع محمد مرسي بعدم التغول و”أخونة” مصر والتخلي عن الممارسات التي قد تنقلب على “الأخوان” وتكون سبباً في قيام ثورة شعبية ضدهم. لم يستمع “أخوان” مصر إلى نصائح الغنوشي فكان ما كان. ومن الطبيعي والحال هذه أن يعمل الغنوشي على تطبيق نصائحه نفسها تلافياً لمواجهة ما واجهه “الأخوان” المصريون، فأنقذ نفسه قبل تونس وثورتها. وبقي حزبه رغم هزيمته الانتخابية قوة كبيرة يحسب لها الحساب وأن كان في المركز الثاني بعد حزب “نداء تونس”.
هذا الأخير الذي يتزعمه الباجي قائد السبسي، ذو الثمانية والثمانين عاماً، لم يقدم وعوداً انتخابية براقة بل اعترف علانية بأنه يحتاج إلى سنتين على الأقل لإعادة الدولة الذي يتسبب غيابها بكل هذا الوضع المتدني على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. وهو لن يتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده لأن المادة 98 من الدستور تفرض أغلبية برلمانية مطلقة (109 مقاعد من أصل 217 مقعداً) للاستحواذ على الثقة أي أنه يحتاج إلى نحو خمس وعشرين صوتاً سوف يسعى للحصول عليها من أحزاب تنتمي إلى “العائلة السياسية نفسها” (العلمانيون واليساريون مثل الحركة الشعبية التي أسسها الشهيد بلعيد وغيرها..). والنظام الانتخابي النسبي بالقوائم الذي خيضت على أساسه الانتخابات يساعد الأحزاب الصغيرة على التمثل في الحكومة العتيدة وبذلك يقدم فرصة لكل ألوان الطيف السياسي بالمشاركة.
في كل الأحوال، وفي انتظار الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والتي سيخوضها علمانيون ويساريون وإسلاميون ومن رجالات النظام البائد (للتذكير لم يتم إقصاء رموز حقبة بن على من الحياة السياسية الجديدة) يمكن القول إن تاريخ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2014 سيذكره التاريخ كنقطة تحول في تاريخ تونس عنوانها “نهاية الاستبداد”. لكن ذلك لا يعني بالضرورة الاستقرار في نظام ديمقراطي حقيقي، فمن دون ذلك عقبات من كل الأنواع سوف تنتصب في طريق التحول التونسي.
يتكلم علماء السياسة المختصون بالتحول الديمقراطي (الترانزيتولوجيا) عن مرحلتين، الأولى مرحلة الانتقال من نظام استبدادي إلى آخر ديمقراطي، والثانية هي ترسيخ هذا الأخير. وقد تجاوز التونسيون المرحلة الأولى وعليهم التحلي بالكثير من الصبر والشجاعة من أجل الحفاظ على المكتسبات وحمايتها وتطويرها. وقد قال السبسي في مقابلة متلفزة: ليس هناك من ربيع عربي، فالتعبير اختراع أوروبي، لكن هناك بداية لربيع تونسي قد يصبح يوماً ربيعاً عربياً إذا ما نجح في تونس. هذا البلد الذي كان سباقاً في تفجير الثورات العربية صار سباقاً في عبور الانتقال الديمقراطي بسلام، فأضحى نموذجاً عسى أن يستنير به من انقلب ربيعهم شتاءً قاسياً في عالم عربي يحتاج إلى نموذج مولود بين ثناياه وليس مستورداً.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية/”الخليج” الاماراتية