لا نستطيع أن نستوعب ما يجري اليوم في الجزائر دون العودة إلى فترة ما بعد استرجاع السيادة الوطنية في 05 جويليه 1962، لأنه من الصعب اختصار أكثر من نصف قرن في مقالة صحفية؛ ولكن السؤال الذي تفادى الكثير طرحه هو: هل دخول شرطة “مكافحة الشغب” إلى الرئاسة بقصر المرادية ورفضهم استقبال أحمد أويحيى لهم، وهو الكاتب الخاص للرئيس، والمطالبة بلقاء شقيق الرئيس أو عبد المالك سلال الذي رفض استقبالهم في قصر الحكومة؟ هل يحق بروتوكولياً أن يدخل 50 عنصرا من وحدات التدخل مقر القاضي الأول وزملاءهم يحاصرون الرئاسة، وهم يهتفون برحيل مدير أمنهم، ويتفاوض معهم سلال في المكان نفسه حول مطالب سياسية واجتماعية ومهنية، ثم ينزل إلى قصر الحكومة لعقد ندوة صحفية؟ ألا يذكّرنا هذا الحدث بما وقع في عهديْ بن بلة وهواري بومدين والأيام الأخيرة للشاذلي بن جديد؟ فهل بدأ هاجس الانقلابات في الجزائر؟
بن بلة وبن خدة وجهان لانقلاب واحد
اختلفت القراءات التاريخية للأسباب التي أدت بقيادة الثورة إلى الاستغناء عن خدمات فرحات عباس وتعويضه ببن يوسف بن خدة على رأس الحكومة الجزائرية المؤقتة، واتفق المؤرخون على أن حكومة عبد الرحمن فارس الانتقالية كانت استجابة لمفاوضات “إيفيان”، لكنهم اختلفوا حول الإطاحة ببن خدة وتعيين أحمد بن بلة رئيسا وعادوا واتفقوا على أن ما وقع يوم 19 جوان 1965 كان انقلابا عسكريا وعد فيه هواري بومدين الشعب بكتاب “أبيض” حول مرحلة أحمد بن بلة ولم يف بذلك، واختلفوا مرة أخرى حول مرض بومدين فقال البعض منهم إنه اغتيال، وتحفظ البعض الآخر، في حين تجاهل الجميع الراحل رابح بيطاط الذي سلّم الرئاسة للشاذلي بن جديد بعد أن زكته المخابرات بقيادة قاصدي مرباح ورشّحته جبهة التحرير رئيسا وتخلّت عن عبد العزيز بوتفليقة ومحمد الصالح يحياوي، وكان أول رئيس شرعي في الجزائر يجيء به دستور 1976، ولأول مرة في تاريخ الأنظمة السياسية يتولى رئيس جزائري نظامين مختلفين (اشتراكي وتعددي) ويزاح بانقلاب أبيض، فهل تصريحات بلقاسم بوخاري ستعيد له الاعتبار، أم ستشعل حربا إعلامية جديدة؟ وكيف يمكن قراءتها؟
الشاذلي وحمروش في النيابة العسكرية؟
من يدرس العقدين الماضيين سيكتشف الكثير من الحقائق “المغيّبة” بسبب التزام أصحابها الصمت، لكن المتأمل فيها يجدها تتميز بمرحلة يتداخل فيها الخطاب العسكري والأمني بالمطالب الاجتماعية والمهنية، فالمساندون للنظام القائم أنذاك والرافضون له أو المشاركون فيه من صناع القرار يعتبرون ما حدث خلال 24 سنة الماضية (1990 – 2014) مجرد استمرار لسلسلة انقلابات تحت شعارات مختلفة، فهل حان الوقت لكشف المستور في “المرادية” و”تاڤارا”؟
حملت فترة (1990 -1992) استثمارا لـ”الخطاب الديني السياسي” و”الخطاب اللائكي الاستئصالي” والقرار الرسمي بافتعال الحل الأمني على حساب الحل السياسي بسبب الحرب الإعلامية بين التيار اللائـكي والتيار الإسلامي وأصبح الحل الأمني خيار السلطة الانتقالي “السياسي والأمني” بعد ظهور “خطاب العنف السياسي”، وكان من تداعيات هذه المرحلة فبركة “انقلاب” فاستقال مولود حمروش (رئيس حكومة سابق)، ثم استقال الرئيس الشاذلي بن جديد، وادعى أحد الجنرالات بأن حمروش أقيل ولم يستقل، وأن الشاذلي بن جديد استقال بإرادته ولم تمارس عليه ضغوط.
اختلفت القراءات حول “استقالة الرئيس” وأجمعت الآراء على أن يوم 11 جانفي 1992 هو توقيف مسار انتخابي تقاسمت فيه الجبهات الثلاثة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبهة القوى الاشتراكية وجبهة التحرير الوطني) نتائج الدور الأول مع الأغلبية المطلقة للإسلاميين، وما تم إخفاءه خلال 22 سنة من الحكم في الجزائر كشف عنه بلقاسم بوخاري (نائب عسكري سابق) بمحكمة البليدة، فقد اعترف أن النيابة العسكرية “استمعت إلى الرئيس الشاذلي بن جديد”، كما اعترف بأن مولود حمروش قد رفض الحضور، ولكن النيابة أجبرته، كما استمعت إلى وزير الداخلية أنذاك.
ما يهمنا في هذه الشهادة هو أنها تؤكد بأن ما حدث هو انقلاب عسكري ضد الرئيس الشاذلي بن جديد، وهو مبرر كاف لأن يلجأ إلى الاستقالة اقتداء برئيس حكومته.
يبدو أن ما قاله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في أول لقاء له بقيادة الجيش بوزارة الدفاع لبلقاسم بوخاري كان رسالة قوية لـ”تنحيته” والبحث له عن مكان تابع للحكومة، لكن الحقيقة أن ما قاله الرئيس لبوخاري لا علاقة له بالشاذلي بن جديد وإنما بقضية أخرى لم يحن الوقت للحديث عنها.
لم يعد هناك ما نخفيه عن المرحلة الأولى من الانقلاب وبقيت مرحلتا محمد بوضياف وعلي كافي، أمّا مرحلة الرئيس اليامين زروال فإنها انقلابٌ آخر بطريقة أخرى فتقليصه لعهدته لا يختلف عن الطريقة التي استقال بها الشاذلي بن جديد، يبقى السؤال: لماذا لم يكشف بوخاري عن الحقيقة قبل هذا اليوم؟ ولماذا يدلي بها اليوم بالذات؟
يرى المحللون بأن لهذه التصريحات علاقة بالتحركات التي يقوم بها مولود حمروش منذ العهدة الرابعة لبوتفليقة وهي دعواته للجيش إلى التدخل لحل الأزمة، ولماذا لم يتصدّ لمن قدموا معلومات خاطئة عمّا جرى في النيابة العسكرية بين حمروش وشيوخ “الإنقاذ”؟ ولماذا التزم هؤلاء الشيوخ الصمت طيلة هذه الفترة؟
إن ما كشف عنه بوخاري يحتمل فرضيتين: الأولى أن هناك صراعا حول من يخلف بوتفليقة إذا لم يستكمل – لا قدّر الله – عهدته، والثانية أن نشاط مولود حمروش أصبح مزعجا فجاء التنبيه في شكل شهادة بأنه أول رئيس حكومة يرفض الامتثال لاستدعاء النيابة العسكرية لمواجهة شيوخ “الإنقاذ”؟ وشهادة بوخاري لا يُطعن فيها، لأنه قدّمها بلغة تتسم بالاحترام لمولود حمروش.
مهما كانت القراءات المتعددة لهذه المعلومات فإنه من حق المواطن أن يتساءل حول ما جرى بين قصر الحكومة والرئاسة خلال هذا الشهر؟ ولماذا رفض وزير الداخلية استقبال العناصر الأمنية المحتجة؟ ولماذا استقبلها عبد المالك سلال في المرادية بعد أن رفض استقبالها في قصر الحكومة؟ ولماذا عقد ندوته الصحفية خارج الرئاسة؟
والحقيقة أن اعتصامات ومسيرات ومظاهرات عناصر وحدات الجمهورية للأمن قد فتحت شهية بقية الفئات الاجتماعية للاحتجاجات، فهل تمتنع شرطة مكافحة الشغب عن قمعها، أم تعود “حليمة إلى عادتها القديمة”؟
“الشروق” الجزائرية