من الطبيعي ألا تبقى تونس بعيدة عن تداعيات ملف “أوراق بنما”، بحكم المنعطف الكبير الذي تمر به، بعد الهزة القوية التي رجّت الدولة، وأربكت المجتمع. لكن، يبدو أن هذه التداعيات لا تزال في بداية الطريق. فهذا الملف مرشحٌ لكي يصبح أشبه بالمسلسلات المكسيكية المعروفة بطولها، حيث يكتشف الجمهور، في كل حلقةٍ، تطوراتٍ جديدةً، تتعلق برفع الغطاء عن اسمٍ جديدٍ، يقال إنه مورّط في هذه القضية. ومع كل اسم يتم ترويجه، تحدث ضجةٌ تترتب عنها تطوراتٌ بين نفي المظنون فيه ومحاولات الجهات التي تحقق في الموضوع لإثبات التهمة. لكن السؤال المتداول حالياً في السوق السياسي: هل ستغير نتائج التحقيقات المشهد السياسي التونسي، كما توقع ذلك رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، أم أنه من السابق لأوانه إصدار أحكامٍ بهذا الحجم وبهذا القطع؟
إلى حد كتابة هذا المقال، تحدث موقع “انكيفادا” عن ورود اسمين تونسيين ضمن وثائق بنما، هما محسن مرزوق وسمير العبدلي (أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية في 2015). لكن اللغط لا يزال مستمراً حول مدى تورط مرزوق في هذا الملف، بحكم كونه شخصية سياسية مهمة في المشهد الراهن. وقد نفى أية علاقة له بذلك، ولم يكتف بتكذيب ما قيل في شأنه، وإنما قدم شكوى للقضاء ضد الموقع التونسي الذي ادعى أن مرزوق وجه أكثر من رسالةٍ إلى مكتب المحاماة البانامي “موساك فونيسكا”، من أجل الاستفسار بشأن كيفية بعث شركة “أوفشور”.. والملاحظ أن الوثائق التي استند إليها الموقع لم يذكر أن مرزوق انتقل، بعد طرح الأسئلة عبر البريد الإلكتروني، إلى مرحلة تنفيذ “مشروعه”. فالخلاف الدائر حالياً بين المعني بهذه المسألة والجهة الإعلامية التي أثارت الشبهات حوله يتعلق فقط بإجراء الاتصال، وليس بتهريب أموال أو إنشاء مشروع خارج تونس بدافع التهرب الضريبي.
وحتى يبعد الشبهة عن نفسه، أكد مرزوق، بشكل قطعي، أنه لم يتصل أصلاً بهذا المكتب، وهو موقف يبدو منطقياً، لأنه لو اعترف بذلك لعرّض نفسه للمساءلة من خصومه ومنافسيه الذين سيواجهونه بالسؤال عن الأسباب التي دفعته إلى البحث عن صيغةٍ، من شأنها أن تمكّنه من الاستفادة من التهرب الضريبي، وهو ما أثار استغراب موقع “أنكفيدا” الذي قرّر أن يقدم الوثائق التي تثبت، حسب قوله، حصول مراسلةٍ بين الطرفين إلى المحكمة التي ستنظر في القضية.
إقرأ أيضا: ” أوراق بنما “..زعماء دول ونجوم كرة في قلب فضيحة عالمية لتهريب الأموال
المؤكد، في هذا السياق، أنه إذا ثبت، بعد التحرّيات، أن محسن مرزوق ارتكب هذا الخطأ الفادح، فإنه سيجد نفسه في وضع حرج جداً، قد يضطرّه إلى الانسحاب من الحياة السياسية. والمؤكد أيضاً، وفي السياق نفسه، أن هذا الانسحاب إذا حصل سيؤثر سلباً، وبشكل أكيد على مستقبل حزب حركة مشروع تونس الذي يتزعمه مرزوق، وولد نتيجة الانقسام الذي حصل في صلب حزب نداء تونس، وبدأ يشق طريقه بقوة. ولعل ذلك ما قصده رئيس حركة النهضة عندما تحدث عن تغيير محتملٍ في المشهد السياسي في البلاد، وكأنه يشير إلى تلقي حزب مرزوق ضربةً قاضيةً من شأنها أن تعيد التوازن الحزبي في البلاد إلى ما كان عليه الوضع قبل انشطار “النداء”.
يصعب التكهن بما سيترتب عن هذا الملف. لكن، هناك مؤشرات عديدة تدل على أن الجسم السياسي التونسي لا يزال هشّاً، وأن الخارطة الحزبية لم تستقر بعد، ما يجعلها مرشحةً للتأثر بأي حادثٍ يندلع فجأة، قد يغير جزءاً من المشهد العام. وإذ تقتضي الموضوعية ملازمة الحذر في التعامل مع “ملف بنما”. لكن، سبق وأن تعلمنا أن التسونامي، سواء في الطبيعة أو في السياسة، ينطلق من مكان بعيدٍ جداً، ليضرب بشراسة في موقع آخر، كان يبدو قبل وقوع الكارثة آمناً ومستقراً.
كاتب من تونس/”العربي الجديد”