إلى أيِّ منزلقٍ ذاهبون؟!

غزلان جنان
وجهات نظر
غزلان جنان18 يونيو 2014آخر تحديث : منذ 10 سنوات
إلى أيِّ منزلقٍ ذاهبون؟!
إلى أيِّ منزلقٍ ذاهبون؟!
7fbc8104586289a464f54dbc48b8288a - مشاهد 24

في العراق – كما هو في سوريا، وكما كان في لبنان خلال حقبة الحرب الأهلية- صراعٌ مسلّح على السلطة. وهو صراع سياسي محلّي/إقليمي/دولي حتماً، مهما حاول البعض تغليفه ببراقع طائفية ومذهبية أو صبغه بألوان أيديولوجية دينية مختلفة.
هو صراعٌ محلّي تدعمه وتوظّفه قوًى خارجية. وهو صراع ممزوج مع خطايا حكومات ومعارضات، ومع تراث تاريخي من مفاهيم وممارسات إنقسامية خاطئة توظّفها القوى المحلّية والخارجية المتصارعة، وهو أيضاً صراع القوى الخارجية الطامعة بالوصاية والهيمنة على مواقع وثروات الأرض العربية.
طبعاً، فإنَّ تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في العراق ومنطقة المشرق العربي، هو محصّلة لسياسة أميركية مارست العدوان والاحتلال في العراق وهدّمت مؤسساته الوطنية، وتجاهلت أو دعمت الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، فكان من تداعيات هذه السياسة الفاشلة والظالمة ما نراه اليوم من مخاطر أمنية وسياسية في عموم المشرق العربي.
لكن ليس العامل الأميركي السلبي هو الوحيد المشترك بين أزمات المنطقة. ففي هذه الأزمات جذور عميقة لسلبيات داخلية تتحمّل مسؤوليتها حكومات محلية وأطراف عربية وإقليمية عديدة، بل إنّ هذه الجذور السلبية الداخلية كانت هي، أكثر من مرّة، الحافز للتدخّل الأجنبي.
المشكلة أيضاً، هي في حمل رايات فكرية وسياسية لها سمات طائفية ومذهبية، حيث النجاح في المواجهة مع المحتل والأجنبي يرافقه تعثّر في مواجهة الأهداف السياسية لتلك القوى الخارجية، التي عملت وتعمل على تمزيق الشعب الواحد وتفريقه لتسهّل السيادة عليه، حتى لو تطلّب الأمر إشعالاً لحروبٍ أهلية.
إنّ أساس الخلل الراهن في الأمَّة العربية كلّها هو في فشل المفكّرين والسياسيين وعلماء الدين بالحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ بمعظمها في أطر فئوية موجّهة كالسهام ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد.
إنّ التعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال القرن الماضي، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب ولا مانعاً دون خوضٍ مشترَك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرةَ معارك التحرّر آنذاك أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت فعلاً مجسّدة لتسمية “حركات تحرّر وطني”.
اليوم، نتعايش مع إعلام عربي ومع طروحات فكرية وسياسية لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقليات، بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة.
هو انحطاط وانقسام حاصل الآن بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الإنقسامي الأهلي على المستوى الشعبي العربي، هيمنة الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعف الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي.
إنّ المنطقة العربية تتآكل من الداخل بينما هي تؤكل من الخارج. والعرب الآن بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة. فالشعب الذي لا تجمعه قضية وطنية واحدة أو رؤية مستقبلية مشتركة للأمّة، يعيش أسير صراعات الداخل التي تعزّز تدخّل الخارج. وفي ظلّ هذا الواقع تتخبّط الأفكار والتجارب والأوطان.
قد يسير بعض بلدان هذه الأمَّة نحو الأسوأ والأعظم من الصراعات والإنقسامات، وقد تتهدّد وحدة أوطان وكيانات، وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب شعبياً، وتداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، وانعدام تضامن حكوماتهم، لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي تسير عليه بلدان هذه الأمَّة على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها و”حكمائها” وحركاتها السياسية.
إنَّ الكثير من الحكومات العربية تعطي الأولوية الآن لاستمرارية الحاكم في الحكم، لا لاستمرارية الوطن نفسه. والكثير من المعارضات العربية تعطي الأولوية الآن للتغيير في الحكم بأي ثمنٍ، لا التغيير السلمي في المجتمعات التي تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النّفس وعن الآخر، وفي ظلِّ غيابٍ واضح لطروحات وطنية عروبية ديمقراطية تجذب الشباب العربي وتحوّل طاقاتهم إلى قوّةٍ تجمع ولا تفرّق، تصون وحدة الأوطان ولا تمزّقها.
إنّ طلب التدخّل الأجنبي أصبح حلالاً ومشروعاً في أكثر من بلدٍ عربي لحلّ مشاكل عربية داخلية. والتنبيه إلى ما هو حاصلٌ من تآمرٍ أجنبي وإسرائيلي على أوطان العرب وثرواتهم ووحدة بلدانهم وشعوبهم أصبح لدى بعض “الثوار العرب” من المحرّمات السياسية! وحينما نسأل ويسأل غيرنا من يقود هذا الحراك الشعبي أو تلك الثورة؟ تكون الإجابة هو “الشارع” و”الشعب” دون اسمٍ أو عنوانٍ أو برنامجٍ فكريٍّ أو سياسي!. إذن، إلى أيِّ منقلَبٍ نحن منقلبون وكيف يتمّ أخذ هذه الأوطان إلى مصيرٍ مجهول، منطلقه غير معروف، وأرضه مليئةٌ بألغام الانقسامات الطائفية والإثنية؟!.
أليس مؤسفاً استبدال الحلم العربي الذي راود منذ عقود شعوب الأمَّة العربية بإقامة تكاملٍ بين أوطان العرب بالخوف الآن من كابوس التقسيم الجاثم على الصدور العربية حالياً؟!
أليس مؤسفاً أيضاً، أن يكرّر العرب خطيئة الاعتماد على الأجنبي لحلّ مشاكلهم الداخلية وأن تسود الآن منطقتهم أفضل الفرص لتكريس الهيمنة الأجنبية والإسرائيلية، حيث يُتوقَّع ألا يكون بمقدور أحدٍ أن يُعارض دعوة إسرائيل للاعتراف بها كدولةٍ يهودية، في منطقةٍ تشهد ولادة دويلاتٍ على أساسٍ ديني وإثني؟! وحيث تهدف إسرائيل لأن تكون هي الدولة الأقوى بل المهيمنة على كلّ منطقة الدويلات الدينية المنتظرَة!.
صحيحٌ أنّ الحكومات العربية هي المسؤولة أولاً وأخيراً عمّا وصلنا إليه الآن من حال، لكنَّ ذلك لا يشفع لقوى المعارضة العربية أن لا تقوم هي أيضاً بمسؤولياتها في الحفاظ على وحدة الأوطان والشعوب، بل إنّ هذه القوى هي الطرف الأساس المعنيُّ بذلك. فالأولويّة الآن هي لبقاء وحدة الأوطان، ولعدم الجمع بين شعار (إمّا الحاكم أو الفوضى) مع ممارسات معارضة تؤدي إلى (إمّا الديمقراطية أو التقسيم). فأين “أمُّ الصبي” في كلّ ما يحدث، ولِمَ لا يكون التركيز الآن على تحقيق إصلاحاتٍ جدّية دستورية وسياسية واقتصادية تُمهّد لتغييرٍ شامل في المجتمعات لا في الأنظمة والحكومات فحسب؟ فبناء المجتمعات الديمقراطية الحديثة أساسه بناء مفهوم “المواطنة” والتعايش مع “الآخر” لا الانفصال عمَّن هم أبناء الوطن نفسه لكن من طوائف أو مذاهب أو إثنيات أخرى. وهذا البناء الديمقراطي السليم يتطلّب أيضاً بناء حركات تغييرٍ شعبية، واضحة المعالم والبرامج والقيادات، حتّى لا تتوه الأمَّة من جديد وحتّى لا تتكرّر فيها مأساة بعض حركات التغيير العسكرية والسياسية التي شهدها العرب في القرن العشرين.
لقد تعرّضت أممٌ كثيرة خلال القرن الماضي إلى شيء من الأزمات التي تواجه الآن العرب، كقضايا سوء الحكم وما فيه من استبداد وفساد، وما ينتج عن ذلك من مشاكل التخلّف الاجتماعي والاقتصادي وغياب للحرّيات العامّة، أو أيضاً ما واجهته بعض الأمم من مشكلة الاحتلال الأجنبي والتدخّل الأجنبي، أو مسألة التجزئة السياسية بين أوطان الأمّة أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها .. لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة امتزجت فيها بآنٍ واحد كلّ هذه التحدّيات، كما هو حاصلٌ الآن على امتداد الأرض العربية.
فخليط الأزمات يؤدّي إلى تيهٍ في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً للتحالفات الإقليمية والدولية، أو بسبب طبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة بينما هو الهمّ الشاغل للطرف الآخر. لكن، أهي صدفةٌ سياسية أن تتزامن كل تلك التحدّيات على الأمّة العربية مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في غالبية البلاد العربية!! ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، تنزلق المنطقة العربية كلّها الآن إلى منحدر التقسيم والحروب الأهلية والسباحة للأسف في الفلك الإسرائيلي.
 *مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق