السنة التي نودعها بعد يومين، كانت ولا تزال حافلة بالعديد من الأحداث اللامتناهية الأبعاد في أمتنا العربية، سواء داخلياً في كل قطر أو جهوياً أو دولياً. والاستحضار النقدي للأحداث يدفع للتذكر، والتذكر يثير المشاعر ويدفع بالضرورة نحو المشاعر الوجدانية، لكنها عند المختص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية تدفع به إلى استخراج الدروس والعبر، بعيداً عن لغة الأرقام والتقارير لأنها في بعض الأحيان اختزال للفكر وابتذال للمعرفة.
-التحول سنة من سنن الكون الدائمة، وفي مجال النظم السياسية وبناء الدول، هو مسألة في غاية الخطورة والحساسية، لأن تطبيق الأدوات السياسية حتى الديمقراطية منها خارج منظومة معرفية سياسية متكاملة، كمسألة التعاقد والمواطنة في مجتمع الحرية المدنية والمساءلة والمحاسبة باسم الشرعية والثقة التي تجمع الحاكم بالمحكوم، سيحكم عليها بالخراب والزوال، وليبيا أفضل مثال على ذلك. فكلنا نتذكر اليوم الذي قتل فيه القذافي، وما تلا ذلك من تكهنات مبشرة حتى في أكبر المراكز البحثية الدولية، إذ صفقت لما وقع ولما سيتولد عن ذلك التغيير من أزهار للحرية المفقودة وللديمقراطية الممنوعة منذ عقود، لكن هيهات في مجتمع مزقته أفكار سلطوية بائدة، وشرخه غياب نخب محورية أن يتولد من رحم المخاض الشعبي مجتمع سياسي موحد قادر على قيادة سفينة التسيير والتمثيل الشعبي، فكانت الكارثة ولا تزال.. وأملنا معقود في اتفاق الصخيرات الأخير لاستتباب الأمن والأمان والحرية والسلام بين أبناء البلد الواحد.
-نوعية النظام الدولي الجديد وطريقة تسييره، وكيفية صياغة استراتيجية المصالح الوطنية والخارجية للدول الكبرى، وتغيرها الدائم بتغير الرؤساء والحكومات المتتالية، والأخطاء المزرية التي اقترفها «المحافظون الجدد» حيال منطقة الشرق الأوسط، خاصة العراق، وكيف عولجت الأخطاء الجسيمة (كإشعال وقود الطائفية) بأدوية مسمومة، مما لتوسيع دائرة الإرهاب، ومكنه لأول مرة من التوفر على أراض شاسعة، وعلى موارد مباشرة وضخمة، وعلى أتباع ومريدين من كل القارات، وأصبحت قدرته على ضرب المصالح الدولية أكبر من ذي قبل.. فلسنا في حرب كلاسيكية نستعين في تحليلها بنظريات كلازفيتز، حيث يتصارع المتبارزون في حلبة صراع ظاهرة للعيان، بل يكفي اليوم أن تأتي الأوامر عبر الإنترنت من منطقة الشام إلى قلب باريس أو بروكسيل، لفردين أو ثلاثة ملوثة عقولهم، ليستعملوا أسلحة ومواد متفجرة سهلة الاقتناء، ليموت المئات من الأبرياء كما وقع في باريس وتونس.
إقرأ أيضا: عام 2015: تشابك السياسة والإرهاب
-الدوام لله وحده، والأحداث المتتالية التي وقعت منذ سنة 2010 في وطننا العربي، منذ هروب بن علي من عقر داره، وتلك التي تقع في أقوى الدول الغربية في المجالات الأمنية والاقتصادية والاسخباراتية، تجعل كل متبصر خبير لا يستطيع التكهن بما سيقع في الفترات المقبلة، لكن تلك الأحداث تومئ إلى أن الدول المحصنة أو القادرة على المواجهة أو الرد السريع لكل زلزال سياسي أو أمني أو مجتمعي أو اقتصادي، هي التي تنجح في تسيير الشأن العام، وتستطيع خلق الثقة بين أطراف المجال السياسي العام، وبين الفاعلين في المجال الاقتصادي والمالي.. وهي التي تنجح في الاستثمار في منظومة التربية والتعليم، وفي زرع اليقين التنموي في عقول أبنائها، وهي التي تبلور استراتيجيات تنموية داخلية قادرة على إيجاد الوظائف للملايين من الشباب كل سنة، وهؤلاء قنبلة لا يتفطن إليهم إلا الآحاد من الناس ولا يمكن إلهاؤهم بوعود أو بدعومات محدودة أو بمشاريع وهمية، لأنهم حماة الدول، ويخطئ من يظن أن الدول بأجهزتها العسكرية والبوليسية هي التي تحمي الشعوب، بل من دون الثقة بين المجتمع المدني والدولة صل صلاة الجنازة على أبجديات القشرة الحامية للنخب السياسية المتواجدة.
وإذا كان هناك درس محدد للأحداث المتتالية التي عرفتها سنة 2015 والسنوات التي سبقتها، فهو أن الارتجالية في تسيير شؤون البلدان والعباد طامة كبرى وداهية عظمى، وأن قواعد المرحلة الحالية تستدعي وعياً متكاملا وخبراء متبصرين وقادة حكماء في انصهار تام مع المجتمعات وفي نكران للذات وسعي لخلق الوحدة والإجماع، بقواعد الشغف والمسؤولية وبعد النظر.
* رئيس المركز المغربي للدراسات الاستراتيجية والدولية/”الاتحاد”