بعد أشهر من المفاوضات وشد الحبل بين الأطراف الليبية، تم في مدينة الصخيرات المغربية توقيع اتفاق سياسي تحت رعاية الأمم المتحدة، يضع حدا للاحتراب الداخلي ويقترح تشكيل حكومة انتقالية لمدة عام، يتم بعده تنظيم انتخابات تشريعية تنقل البلد إلى حقبة جديدة من الاستقرار السياسي.
يعد تحقيق هذا الإنجاز الكبير تتويجا للوساطة المغربية التي واكبت مسار التفاوض بين الفرقاء الليبيين، سعيا إلى وضع حد للاقتتال بينها والتوافق حول سلطة شرعية في البلاد، التي تشكو من فراغ سياسي منذ انهيار نظام العقيد القذافي عام 2011، تكون منطلقا لمحاربة الجماعات المتطرفة المسلحة التي حققت اختراقات ملحوظة، بسبب استثمار حالة الانقسام الداخلي، وتقاسم المشروعية بين مختلف الأطياف السياسية والعسكرية، بما حال دون تشكيل جبهة موحدة ذات مشروعية سياسية.
جاء هذا الاتفاق في توقيت حرج تمر به الأزمة الليبية، إلى الحد الذي بات المجتمع الدولي يبدي قلقا بشأن الوضع الليبي لا يقل عن القلق الذي يبديه إزاء الوضع في سوريا والعراق، نتيجة تمدد الجماعات المتطرفة. فقبل فترة نُقلت أنباء عن احتمال لجوء أبي بكر البغدادي، الخليفة المعلن على رأس ما يسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، إلى هذا البلد المغاربي قادما إليه من تركيا هربا من احتمالات الملاحقة، بعد أن بدأت الحكومة التركية لحزب العدالة والتنمية تميل إلى صف التحالف الدولي لمحاربة التنظيم المتطرف، وهو مؤشر، نيّته في تحويل ليبيا إلى مركز بديل ومحتمل، في حالة تضييق الخناق عليه في العراق وسوريا.
ظهر أول التوجهات لدى التنظيم في مستهل العام الماضي، عندما بدأ المقاتلون الليبيون المنضمون إليه في العراق وسوريا، ومعهم المقاتلون الأجانب، يتقاطرون على مدينة سرت مسقط العقيد القذافي. فقد كان واضحا أن داعش، الذي يبني استراتيجيته على استغلال الفراغ والفوضى. رأى في الحالة الليبية مسرحا مناسبا لعملياته، بالنظر إلى الانقسام الحاصل بين الليبيين الذين يوجهون أسلحتهم إلى بعضهم البعض في شرق وغرب البلاد، حيث يوجد برلمانان يتنازعان الشرعية. وفي شهر سبتمبر من العام نفسه استقرت في المدينة الساحلية جماعة محسوبة على تنظيم الدولة بزعامة شخص يدعى”أبو نبيل”، الذي كان طليعة التنظيم في ليبيا لنسج شبكة العلاقات التي سوف يعتمد عليها لاحقا. وبعد ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ ظهر شريط فيديو يتضمن بيانا للبغدادي يعلن فيه عن مبايعة خمسة تنظيمات مسلحة في بعض البلدان الأفريقية له، بينها ليبيا، حيث وضع تقسيما إداريا ثلاثيا للبلاد، أطلق عليه تسمية الولايات، وهي ولاية برقة في الشرق، وولاية فزان في الجنوب، وولاية طرابلس في الغرب؛ وبذلك بدا أن التنظيم لم يعد يكتفي بدور المتسلل إلى ليبيا مستغلا حالة الفوضى، بل بات يتطلع إلى أن يجعل منها بلدا تابعا له لفرض المشهد السياسي والعسكري الذي يريد.
إقرأ أيضا: الفرقاء الليبيون يوقعون على الاتفاق السياسي بالصخيرات
لقد أصبح تنظيم الدولة يبسط نفوذه على مساحة تتجاوز 250 كيلومترا على الساحل المتوسطي، ويسعى إلى التوغل في وسط البلاد لوضع يده على منابع النفط، الشريان الحيوي الذي من شأنه أن يتيح له البقاء والاستقرار بتمويل نفسه، مكررا الحالة العراقية والسورية في شمال أفريقيا. وعلى الرغم من أنه خسر منطقة درنة بعد مواجهات عنيفة مع “مجلس شورى المجاهدين” قبل أشهر، وهي المنطقة التي كانت أول ما استولى عليه في بداية توسعه داخل ليبيا، إلا أن استمرار الأزمة السياسية بين الفرقاء الليبيين وتعذر التوصل إلى اتفاق بينهم في الفترات الماضية، جعل التنظيم يسعى إلى استغلال عامل الوقت لاستعادة سيطرته على المنطقة من جديد، والزحف على بنغازي.
شكلت أحداث باريس، في نوفمبر الماضي، نقلة في أسلوب التعامل الغربي والأوروبي مع الأزمة الليبية، التي استمرت طيلة أربعة أعوام كان العالم خلالها يتابع ما يجري في العراق وسوريا. فقد أظهرت تلك الأحداث أن التنظيم الذي ضرب في عمق العاصمة الفرنسية لم يعد يشكل خطرا على المناطق التي يتمدد فيها فحسب، بل صار يمثل تهديدا مباشرا للأمن الأوروبي الداخلي. فالمسافة بين مدينة سرت الليبية، حيث يبسط داعش نفوذه، وبين جزيرة لامبيدوزا الإيطالية لا تتعدى الثلاثمئة كيلومتر، وهو ما يعني أن التنظيم لن يتخلف عن استهداف أوروبا كلما تم التسامح معه، وكلما تأخرت الأطراف الليبية في توقيع اتفاق سيشكل ربحا للمجتمع الليبي، مهما كان حجم التنازلات التي يمكن أن تقدمها هذه الأطراف.
اليوم حققت الأطراف الليبية اختراقا كبيرا بتوقيعها للاتفاق السياسي، وهو خطوة أولى على طريق إعادة البناء والانتقال إلى مواجهة التحدي الأمني المتمثل في الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم الدولة، وإعادة ليبيا إلى حظيرة المنطقة لتكون واحدة من دعامات مواجهة الإرهاب والتطرف فيها؛ فلا شك أن هذه الخطوة ستكون عاملا مضاعفا في تشديد الخناق على تنظيم الدولة في العراق وسوريا، من خلال إغلاق المنافذ التي يتنفس منها لضمان استمراره، وفي الوقت الذي يعلن فيه عن تراجع المساحة التي يسيطر عليها التنظيم في العراق بنسبة 23 بالمئة عن العام الماضي، فإن توقيع اتفاق الصخيرات يعد واحدا من الأخبار المهمة في نهاية العام الجاري.
* كاتب مغربي/”العرب”