تتوجه أنظار المغاربة، بحكم إكراهات الجوار، الى إسبانيا التي تتهيأ لإجراء مباراة الانتخابات التشريعية يوم غد الاحد، وسط أجواء ترقب غير مسبوق في تاريخ الاستحقاقات الديموقراطية؛ بالنظر الى دخول المعترك، قوى سياسية جديدة، استطاعت في ظرف وجيز ان تغير صورة المشهد السياسي في البلاد وانفراجها بالتالي على احتمالات مخالفة لما ألفه الاسبان من تداول ثنائي بين الحزبين الكبيرين على السلطة، بصورة تكاد ان تكون أوتوماتيكية.
فالحزب المتصدر للنتائج المقبلة يصبح أهلا لتشكيل الحكومة الجديدة، ولو لم يحصل بمفرده على الأغلبية المطلقة، لكنه مجبر، بمقتضى الأصول الديموقراطية المرعية، على البحث عن تكملة للأغلبية لدى الأحزاب الإقليمية وخاصة في إقليمي كاتالونيا وبلاد الباسك، كما جرب ذلك في الماضي الحزبان الاغلبيان: المحافظ والاشتراكي.
ويعرف أغلب الاسبان حاليا وقبل إعلان نتائج الانتخابات ليلة الأحد، بعضا من مكونات الصورة التي سوقتها خلال الأيام الأخيرة مؤسسات استطلاعات الرأي، اتفقت جميعها على منح أعلى الأصوات، دون الأغلبية، للحزب الشعبي الحاكم؛ يليه في عدد المقاعد الحزب الاشتراكي العمالي ثم حزب، ثيودادانوس، بينما رتبت ذات الاستطلاعات حزب “پوديموس” في المرتبة الثالثة قبل اليسار المتطرف.
وعلى مدى أيام الحملة الانتخابية، حاولت الأحزاب المتنافسة تحسين موقعها وضعها وصورتها، مستعملة كل الوسائل المتاحة والمشروعة وضمنها تبادل الاتهامات. لكن الحملة جرت عموما في ظل أجواء سلمية، على الرغم من الأزمات التي تمر بها البلاد والمتمثلة في تداعيات الوضع المحتقن في إقليم كاتالونيا، والخوف من خطر الإرهاب الذي ضرب فرنسا والجنود الاسبان في الخارج وبات يشكل تهديدا ضد اغلب البلدان الأوروبية؛ إضافة الى ان الاسبان لم يتعافوا بعد كلية من آثار الأزمة الاقتصادية.
وهذه الأجواء مجتمعة كافية بان ترفع درجة حرارة النقاش واحتداد المنافسة بين أقطاب اللعبة الانتخابية؛ غير ان الملاحظ ان الايديولوجيا التقليدية التي تمايز بين اليمين واليسار،وبعبارة اخرى الاشتراكية عن الليبرالية. هذه الثنائية لم تكن حاضرة بقوة في خطابات الأحزاب، بل فسحت المجال لمفردات من قواميس التخليق والشفافية وتشبيب النخب الحزبية وكذا الدعوة الى تحديث مفاصل الدولة وتعديل الدستور وإعادة النظر في التشريعات الانتخابية وتغيير نمط الاقتراع والعلاقات المجالية بين المركز والجهات.
إقرأ أيضا: ثلاثة أحزاب إسبانية على أبواب قصر “لا منكلوا” !!
وهذا النقاش الجاري بخصوص التحديث، يختلف تصوره والتعبير عنه بين الأحزاب الثلاثة التي تتصدر المشهد حاليا؛ أسهمت فيه باقتراحات غير متعارضة اجمالا مع مرجعياتها المؤسسة؛ وحتى الحزب الشعبي المحافظ حاول من جهته تغيير جلده لينخرط في لعبة العصرنة والاقتراب اكثر من انتظارات الناخبين، غير انه احس بازعاج من منافسة بل من خطر يتهدده من الحزب الجديد، ثيودادانونس، بقيادة زعيم شاب هو دون الاربعين، يتوفر على شرعية وحيوية الشباب وميزة الجغرافية، باعتباره من أصول كاتالانية (من مواليد مدينة برشلونة) حيث حقق اخيرا نتائج واعدة ؛ فضلا عن ان الحزب خرج من المعطف الايديولوجي للحزب الشعبي، لكنه يختلف عنه في تبني ما يمكن تسميته “الليبرالية الحديثة المتجددة ” ما جعل تصنيفه ضمن خانة احزاب الوسط الاجتماعي، قريبا من الحزب الاشتراكي.
ويرفض زعيم الحزب، البرت ريڤيرا،الدخول في تحالف ضد الطبيعة مع الاشتراكيين وكذلك مع الحزب الشعبي. وهذا الاخير يغازل واحيانا يعاتب حزب “ثيودادانوس”ويدعوه الى الانضمام الى تحالف عريض مع الاقربين اليه على أرضية اليمين الليبرالي.
واذا لم تتحقق المفاجأة، كأن يتصدر الحزب الاشتراكي النتائج، وهو امر مستبعد، كون زعيمه، بيدرو سانشيث، تلقى الضربات والطعان من كل الجهات،يحمله خصومه مسؤولية الازمة المالية التي عرفتها البلاد في ظل حكم الزعيم الاسبق، رودريغيث ثباطيرو، الذي استمر قرابة ثماني سنوات.
صحيح ان، سانشيث، حقق اختراقا هاما في جدار الرأي العام وحاز تعاطف قطاعات واسعة من الكتلة الانتخابية؛ لكن الفئات غير الحزبية لم تنس له الازمة الاقتصادية، وبالتالي سيتعذر على الاشتراكيين الحصول على المرتبة الأولى، اصواتا وعدد مقاعد.
ولنسلم افتراضا ان، الحزب الشعبي، تمشيا مع الاستطلاعات، باق في قصر” لا منكلوا” بدون شريك معلن حتى الان ليقاسمه السلطة؛فالاشتراكيون وثيودانوس، يرفضان التحالف معه، دون الحديث عن موقف “پوديموس” الذي يرى الشر كله مجسما في حزب “ماريانو راخوي”.
وقد تفرض الپراغماتية السياسية على، راخوي، ان لا ييأس من جر، البرت ريڤيرا،الى صفه، مادام قد رفض قطعا اي تحالف مع الاشتراكيين على غرار التجربة الالمانية بين المحافظين والاشتراكيين، ولو كلفه ذلك تقديم تنازلات للزعيم الشاب الساطع نجمه في سماء السياسة الاسپانية.
هذا الاحتمال المتوقع، اي حكم “الشعبي” باغلبية نسبية، سينتج حكومة غير قوية، مرشحة لمو اجهة رياح عاتية من الاحزاب الثلاثة التي ستصطف جميعها في المعارضة. سترفع عقيرة نقدها لليمين الحاكم، الذي مهما حاول ان يلمع وجهه وجلده، فإنه سيظل اسير القوى المحافظة التي تتحكم في مفاصله وعروقه، دعك من ملفات الفساد المثيرة التي ما زالت تحاصر بعض قيادييه السابقين.
وفي هذا الصدد قد يتلكأ الحزب الشعبي في ادخال كل الاصلاحات التي تلح عليها الاحزاب الواقفة له بالمرصاد، على ابواب قصر “لا منكلوا” وخاصة تلك المتعلقة بمستقبل، كاتالونيا، والتعديل الدستوري ومراجعة نظام الجهات، إضافة الى السياسات الاقتصادية وتطوير البنى المجتمعية. صحيح انه سيجد السند بخصوص التحالف ضد الارهاب لدى الاشتراكيين وثيودادانونس اللذين يقاسمانه التشبث بالوحدة الترابية لاسپانيا، في خلاف تام مع حزب “پوديموس” ذي الموقف الملتبس من الارهاب وكاتالونيا والنظام الملكي والنظام برمته، انسجاما نع مواقفه الفوضوية المغلفة برداء فضفاض من الاشتراكية الحالمة !!على كل ستصحو، إسبانيا يوم الاثنين المقبل، على خارطة سياسية مغايرة، لم يأ لفوها من قبل. قد تفاجئهم مثل يانصيب آخر العام المشهور عندهم والمسمى (primer gordo ).
ستنطلق مشاورات سياسية يدشنها الملك، لتسمية رئيس الوزراء المكلف ؛وبموازاة ذلك ستجرى مباحثات بين الاحزاب قد تطول وقد تقصر، وربما تعترضها صعوبات لكنها ستنتهي، لا محالة، بتشكيل حكومة، سينقسم البرلمان حيال التصويت عليها. الحكومة المرتقبة ضامنة حتى الان، اصوات نواب الحزب الشعبي ؛ وقد تنزل عليها امطار الرحمة من حزب، ثيودادانوس، الذي التزم بعدم عرقلة الاستقرار الديموقراطي، ملوحا باحتمال غيابه عن تصويت منح الثقة لحكومة راخوي الثانية، في البرلمان.
ويبدو انها حكومة اليمين، مالم يحدث طارئ، ستكون الاقصر عمرا في تاريخ الحكومات الاسبانية الحديثة، وسيدعى الناخبون لاقتراع سابق لأوانه، اما لتوسيع قاعدة الحكومة وتجديد الثقة فيها باغلبية مريحة، او ان تحول الحزب الشعبي الى المعارضة، لتخوض اسبانيا غمار صراع سياسي جديد بفاعلين مختلفين.
جارة المغرب الشمالية مقبلة إذن على تغييرات عميقة في منظومتها السياسية، ظهرت تباشيرها الأولى وملامحها العامة منذ الاشهر الاخيرة، قبل ان تتضح بجلاء ليمكن المضي فيها دون رجعة أو تردد.
ستخيم اجواء الترقب، على سماء الجارة الايبيرية زمنا غير وجيز، يحتم على المغرب ان يلاحظ تقلباتها بمرآة صافية العدسات، ليرى بوضوح ما يعتمل في أغوار المجتمع الاسباني ؛فما يجمع المغاربة وجيرانهم الايبيريين، من مشاكل ومصالح، كثير ومتشابك. لذا وجبت اليقظة السياسية والتفاؤل بالقادم من الايام وتقليب السيناريوهات المحتملة حتى لا نفاجأ بعالم الغيب.