تونس: تناثر الأحداث ووحدة السياق

ثلاثة أحداث في تونس قد لا يكون بينها رابط مباشر، ولكن بينها وحدة سياق موجبة للتساؤل. الحدث الأول وقع يوم 19 من الشهر الماضي بقرار السلطات سحب قوات الأمن الرئاسي التي كانت تؤمّن حماية رئيس الجمهورية السابق السيد محمد منصف المرزوقي، والاستعاضة عنها بقوات من وزارة الداخلية. وقد جاء القرار عقب مصادقة البرلمان على القانون المتعلق بامتيازات الرئيس والذي ينص على أن «الرئيس المتخلي لا يتمتع بحماية الأمن الرئاسي إلا إذا كان يقطن في العاصمة».
ونتقصّد هنا استخدام كلمة «البرلمان» نظرا إلى أننا نعدّ عبارة «مجلس نواب الشعب»، التي أصبحت متداولة منذ مدة، من جنس العبارات والتسميات «القذافية» الشهيرة التي يفيض فيها الكلام عن المعنى، في نقض ممنهج لحكمة «خير الكلام ما قل ودل». فقد مرت دولة الاستقلال في تونس من «مجلس الأمة» إلى «مجلس النواب» فـ»مجلس نواب الشعب» دون أن يقدم أصحاب امتياز تسميات المؤسسات أدنى تفسير لهذه الإسقاطات الإيديولوجية. وحتى إذا صح أن التسميتين الأوليين مفهومتان، فإن التسمية الأخيرة تنوء بحمل التزيّد اللغوي الذي لا يخلو من شائبة المزايدة الشعبوية. بل إن التزيد اللغوي هو عين النقيصة البيانيّة – أي أن الزيادة نقص! – ذلك أن معظم الدول تكتفي بعبارة «مجلس النواب» دون حاجة لتبيان ما هو بيّن بذاته.
وقد أعلن مدير الديوان الرئاسي السابق السيد عدنان منصر آنذاك أن العكس هو الذي ينبغي أن يحدث في حالة السيد المرزوقي «باعتبار أنه يسكن في مدينة سوسة التي شهدت أعمالا إرهابية متتالية». وأكد رفض المرزوقي قرار رفع حماية الأمن الرئاسي عنه، و»رفض حماية الشرطة لأن الجميع يعرف» أن إمكانيات وزارة الداخلية محدودة».
الحدث الثاني وقع الاثنين 23 من هذا الشهر، حيث أعلن منصر أن السلطات الأمنية في سوسة أبلغت المرزوقي أن هنالك تهديدات إرهابية جادة تستهدفه، وطلبت منه اتخاذ جميع إجراءات الحيطة والحذر نظرا إلى أن المعلومات حول التهديدات مؤكدة. وقد تبيّن أن هذه التهديدات تتمثل في مخطط لاغتياله. واستبعد منصر، الثلاثاء، أن يكون هناك طرف سياسي خلف هذا المخطط ولكنه قال إنه إذا لم تتخذ السلطات التونسية إجراءات لحماية الرئيس السابق، «فسيكون هناك تأويل آخر». وحمّل منصر رئاسة الجمهورية الحالية مسؤولية أي تهديد يعرض حياة الرئيس السابق للخطر. كما أعرب عن الاستغراب من تصرف الجهات الرسمية المتمثل في توجيه إشعار إلى الرئيس السابق بشأن التهديدات التي تستهدفه، ومطالبته أيضا بالتوقيع للإفادة باستلام الإشعار!

إقرأ أيضا: تونس في مواجهة الصدمة

وأكد منصر أن المرزوقي امتنع عن التوقيع وارتاب في الأمر، نظرا إلى أنه لم يحدث أن تلقى أي إشعار بشأن التهديدات السابقة التي كانت قد استهدفته، حيث كانت قوات الحراسة من عناصر الأمن الرئاسي تتولى آنذاك حمايته بشكل تلقائي. ولكن «الأجهزة الأمنية أصرت على الإشعار واعتبرت المرزوقي شخصا عاديا. وهذا، حسب قول منصر، لا يليق».
وقد أتيح لنا أثناء زيارة للرئيس السابق في بيته في سوسة أول أيلول (سبتمبر) أن نشهد ما يتحلى به فريق الأمن الرئاسي الذي كان مكلفا بحمايته من مهنية وانضباط ولباقة. كما أننا لمسنا مدى ما يكنونه له من تقدير. فقد قال لنا أحدهم، بينما كنا في طريقنا للمغادرة، إنه تولى أثناء مسيرته المهنية حماية كثير من الشخصيات الوطنية والأجنبية، ثم لم يتردد في الإسرار لنا بأن الأمر مختلف في ما يتعلق بالسيد المرزوقي، حيث أنه مستعد لحمايته ولو بالمجان لأنه «رجل منّا».
هذا وكنت قد ابتدرت السيد المرزوقي قائلا إنك من الرؤساء العرب السابقين القلائل الذين لم ينته بهم الأمر في السجن أو المنفى أو القبر. رئيس عربي سابق، ولكنه حر طليق، بل وينعم بالحماية! ما عهدنا هذا في ربوعنا.
الحدث الثالث هو العملية الإرهابية التي استهدفت الثلاثاء مجموعة من أفراد الأمن الرئاسي ذاته، أي جهاز النخبة الذي يسمى في بلدان أخرى «الحرس الجمهوري» والذي يعدّ أفضل تدريبا وتجهيزا من قوات وزارة الداخلية وبقية عناصر الشرطة.
هل هذه أحداث منفصل بعضها عن بعض؟ وإذا كان الحدث الأول مجرد إنفاذ لقانون برلماني (ولو أن السيد منصر يقول إنه قانون «قدّ على مقاس المرزوقي»)، فهل يعقل أن يكون الحدثان الثاني (مخطط لاغتيال الرئيس السابق) والثالث (قتل مجموعة من عناصر الأمن الرئاسي) غير متحايثين أو متساوقين، خصوصا أنه لم يفصل بينهما سوى يوم واحد؟

٭ كاتب من تونس/”القدس العربي”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *