أربع سنوات مرت من عمر الحكومة المغربية التي جاءت في أعقاب الرجة الثورية التي انطلقت في العديد من البلدان العربية ووصلت رياحها إلى المغرب، ولم يبق في ولايتها التشريعية سوى سنة واحدة، ولذلك انطلق النقاش لتقييم هذه المرحلة استعدادا للانتخابات التشريعية التي ستجرى بعد سنة من الآن.
النقاش الجاري تتحكم فيه قراءتان، الأولى موضوعية تنطلق من تقدير دقيق للمعطيات الماكروسياسية التي حكمت هذه التجربة محليا وإقليميا ودوليا، والثانية متحيزة لأحكام مسبقة رافضة لوجود «الإسلاميين» في السلطة، وتتحين الفرصة المناسبة لإغلاق قوس هذه التجربة.
بينهما تقف قراءة ثالثة، ليست رافضة لوجود حزب العدالة في السلطة، ولكنها تحمل انتظارات كبيرة تقترب من النظرة المثالية، وتعلق آمالا عريضة على حزب العدالة والتنمية إلى درجة تحميله وحده مسؤولية وضع المغرب على سكة الديموقراطية الحقيقية باعتباره الحزب الأول انتخابيا.
هذه القراءة تتجاهل السياق السياسي القريب منا وتقفز على مجموعة من المعطيات السياسية الأساسية في تحليل اللحظة السياسية الراهنة، ولذلك لا بد من بعض التوضيحات:
أولا، إن الدينامية السياسية التي أطلقتها رياح الربيع العربي تعرضت لانتكاسة قوية مع إجهاض المسار الديموقراطي في مصر بعد سيطرة الجيش على السلطة، وكادت الثورة المضادة أن تعصف بمكتسبات ثورة البوعزيزي في تونس لولا حكمة الطبقة السياسية في تونس وتقديم حركة النهضة لتنازلات مؤلمة حفاظا على ترسيخ تمرين التداول السلمي على السلطة ولو على حساب الأوزان النسبية لنتائج العملية الانتخابية، تجنبا للمعادلة الصفرية التي سقطت فيها بلدان أخرى.
وفي المغرب جرت محاولات جدية لتفجير الحكومة من الداخل والرجوع إلى نقطة الصفر، وإقناع المواطن بلا جدوائية صوته الانتخابي وفسح المجال أمام التحكم للهيمنة على الساحة الحزبية والسياسية. وقد تابعنا كيف نجح حزب التحكم في استقطاب أحزاب وطنية عريقة وأدمجها في أجندته السياسية المناهضة للديموقراطية والخادمة للسلطوية.
إقرأ أيضا: المغرب بخير خلافاً لدول الجوار
ثانيا، في هذا السياق المضطرب إقليميا، وفي سياق مناخ الهشاشة الحزبية وطنيا، علينا أن نقرأ نتائج الرابع من سبتمبر/ ايلول، إن دلالات نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة وما أفرزته من معطيات انتخابية لا تعني في الحقيقة مجرد مقاعد انتخابية عززت من موقع حزب العدالة والتنمية..إنها كانت زلزالا سياسيا حرك المياه الراكدة داخل الأحزاب السياسية الوطنية ودفعها لاستعادة موقعها الحقيقي في معركة بناء الديموقراطية، ولا أتردد في القول بأن هذه النتائج حررت جزءا من الطبقة السياسية ودفعته لفك الارتباط مع أجندة التحكم والاستبداد، وهي حالة حزب الاستقلال الذي أعلن عن فك ارتباطه بحزب الأصالة والمعاصرة معلنا عن تموقعه في المعارضة الوطنية الديموقراطية، بل أعلن أمينه العام عن مساندته النقدية للحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية…وهل يمكن بناء الديموقراطية بدون أحزاب سياسية حقيقية مستقلة مالكة لقرارها السياسي!!
ثالثا، هؤلاء المواطنون المغاربة الذين درج الإعلام على تسميتهم بـ «الإسلاميين» أثبتوا في العديد من المحطات بأنهم زاهدون في السلطة، وليست لهم أي رغبة في التمسك بها إلا بقدر خدمتها لمشروع الإصلاح ومنه التقدم الديموقراطي، ولو كان تقييمهم الموضوعي انتهى إلى أن مشاركتهم في السلطة تتضرر منه العملية الديموقراطية، لوضعوا مفاتيحها غير آسفين على فقدان مقاعد خشبية تكون على حساب مصداقيتهم الذهبية ومكانتهم وسط قلوب الناس ومحبتهم.
رابعا، مسار التحول الديموقراطي هو بناء تراكمي تصاعدي تدرجي، وهذا المسار قد تعترضه بعض النتوءات، ذلك أن تجارب الانتقال الديموقراطي لا تتقدم دائما بطريقة مستقيمة ولكنها تتقدم بطريقة لولبية، وهنا أتفق مع من يقول بأننا سنواجه صعوبات يريد البعض أن يجعل منها تراجعات في مجال الحقوق والحريات والديموقراطية، ولكن «نجاحه» الظرفي مرتبط بضعف الطبقة السياسية واستسلامها وليس بالتقدم الانتخابي لهذا الحزب أو ذاك.
خامسا، إن هذا السياق المضطرب إقليميا والذي قد يوحي بالتراجع والانتكاس لا يعني بأن حركة التغيير التي انطلقت في العالم العربي قد انطفأت، ذلك أن حركة التاريخ لا يمكن أن تسير إلا في اتجاه تعزيز قيم الحرية والكرامة والديموقراطية، لأن تطلعات الشعوب التواقة إلى التخلص من الاستبداد والتحكم أقوى من أن تقف في وجهها ثورات مضادة أو قوى مناهضة للحرية وللديموقراطية أو مناورات سياسية مكشوفة سرعان ما سيبطل مفعولها مع وجود نخبة سياسية متشبعة بالقيم الديموقراطية وقادرة على حمل آمال الشعوب وتطلعاتها للحرية والكرامة.
٭ كاتب من المغرب/”القدس العربي”