عرفت تونس، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومع بداية التدخل الأوروبي المباشر في شؤون البلاد، حضوراً للبرالية الفكرية بأشكال مختلفة، من دون أن تكون ذات تصور نًسَقي واضح، أو حضور أيديولوجي، تتبناه الحركات السياسية والأحزاب بصورة معلنة وصريحة، بحيث يمكن القول إنه، ومنذ بداية الاحتكاك مع النفوذ الأوروبي الممتد بشكله الاستعماري، (أواسط القرن 19 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية) كانت الحرية المطلب الأساسي والحيوي للمجتمع التونسي، والعربي عموماً، وهو أمر نلحظه في كتابات رواد الإصلاح، والذين روجوا مقولات الحرية السياسية وحق الشعب في اختيار حكامه، وصياغة دساتير تضمن منظومة الحقوق.
كان شعار الحرية الليبرالية مرفوعاً، لأن الحاجة تدعو إليه، وبصورة ملحة، في ظل خضوع المجتمع التونسي (كجزء من المنطقة العربية الإسلامية) لهيمنة مزدوجة، تجمع بين استبداد الحكام وعسف الاحتلال الوافد من الضفة الغربية للمتوسط، غير أن ما يميز هذه الليبرالية، بصورتها الناشئة، استنادها للمرجعية الإسلامية بصورة لا يمكن إنكارها، وهي مواقف نراها لدى مصلحين، أمثال خير الدين التونسي.
كما أن الأحزاب السياسية التي ظهرت في ظل الاحتلال الفرنسي لم تكن تخفي توجهها التحرري، والذي تجلى في مطالبها المركزية (المطالبة بدستور ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم إلى الحد الذي تم اتخاذه اسماً لأحد أعرق الأحزاب التونسية، ونعني به الحزب الحر الدستوري الذي أسسه الشيخ عبد العزيز الثعالبي سنة 1920، والمناداة ببرلمان وطني منتخب، يتولى التشريع وتحديد الحقوق والواجبات).
في العهد البورقيبي:
كانت المنظومة الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين الأكثر انتشاراً في السوق الفكرية العربية، ومنها تونس، غير أنها لم تكن وحدها، ولم تلبث أن واجهت منظومات أخرى منافسة (شيوعية وأخرى قومية ذات نزعة اشتراكية)، وعلى الرغم من النبرة الليبرالية الواضحة، بعباءتها الإسلامية عند التأسيس، إلا أن الحزب الحر الدستوري، بجناحه البورقيبي، لم يكن أبداً وفياً لأصوله الحقة، حيث لم تكن الحرية التي يرفعها سوى شعار ليس إلا، فما أن تولى السلطة بعد الاستقلال، حتى قام بتأميم الحياة السياسية والإعلامية برمتها، لصالح نظام الحزب الواحد، حيث تم قمع الجناح اليوسفي بشدة، وتم حظر الحزب الشيوعي التونسي، وأوقف صدور كل الصحافة الحرة التي كانت لا تتساوق سياسياً مع نظام الحزب الواحد، وليمر نظام الحبيب بورقيبة، بعدها، إلى تبني ما سماها الاشتراكية الدستورية.
وفي المقابل، لم يكن لشعارات الليبرالية، بأطروحاتها المختلفة، الجاذبية الكافية، لتستميل العناصر الشبابية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، حيث ظلت الاشتراكية، بأطروحاتها المختلفة، الأكثر فاعلية وتأثيراً والأشد حضوراً، في الأوساط السياسية المختلفة، وظل ظهور حزب ليبرالي حقيقي مرتهناً بيد الحزب الحاكم الذي مارس الاستبداد والطغيان، بصورة جعلت مصطلح “الليبرالية” مفهوماً مشوهاً، تحتقره الجماهير الصارخة بآلامها، وتتعالى عنه النخب السياسية التي جعلت من الفكر الليبرالي رديفاً للامبريالية والاستعمار والاستغلال، بصورة تكشف عن سطحية فجة، ومغرقة في الأدلجة والانغلاق الفكري.
وفي ظل أسوأ ظروف القمع والغلبة التي يمارسها النظام البورقيبي، لم يكن لشعار الحرية، بمعناه الليبرالي، حضور في المشهد السياسي، على الرغم من أن الأساس النظري لليبرالية كان يركز على فكرة إحداث التوازن المأمون بين النزعة الاستبدادية الناتجة عن الحكم المطلق والنزعة الفوضوية الناجمة عن تسيب السلطة وشيوع الفوضى في الجسم الاجتماعي. ومن ثمة، تتمسك الليبرالية بالدولة، باعتبارها الجهاز المؤهل لتوحيد المجتمع وعقلنة الأداء السياسي. فالدولة هي عقل المجتمع (بالمصطلح الهيجلي)، وهي تجسيد إرادته، شريطة ألا تنزلق إلى الاستبداد، أو قذف المجتمع في غياهب الفوضى. كانت المطالبة بالليبرالية السياسية، حينها، ضرورة لم يعِها ناشطو الحقل السياسي أمام تغول الحزب/ الدولة، وأصرت الأطراف الحزبية المختلفة، في أثناء الزمن البورقيبي، على أطروحاتها الشمولية هي بدورها، أي أن يحل المعارض محل الحاكم في السلطة، ولكن، مع الاحتفاظ بجوهر الممارسة نفسه.
زمن بن علي:
بعد انقلاب السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، وتحقيق انفراج سياسي مؤقت، استغله الحاكم الجديد لتوطيد أركان حكمه، وعلى الرغم من التوجه الاقتصادي الذي دشنه “العهد الجديد”، القائم على رأسمالية متوحشة، تحركها مافيات الاستيراد والتهريب، وتشرف عليها عائلات، تحتكر السلطة، وتمارس تغولها على الشعب، فإن الحريات السياسية كانت، حينها، ضرباً من الخيال، غير أنه، وكنوع من الإيهام “الديمقراطي”، تم منح تأشيرة لحزب ليبرالي، للمرة الأولى، هو الحزب الاجتماعي التحرري، بزعامة منير الباجي. وكان هذا الحزب منخرطاً ضمن ما يعرف بالليبرالية الدولية، ولم يكن إلا جزءاً من الديكور الحزبي الذي يوشح به نظام المخلوع المشهد السياسي، حيث تم منح الحزب مقعدين في البرلمان الشكلي، (سنة 2004)، ولتتواصل مهزلة هذا الحزب الليبرالي شكلاً، بوصول المنذر ثابت إلى رئاسة الحزب، وهو الذي لم يكن يوماً محسوباً على التيار الليبرالي (معروف أنه كان ناشطاً سياسياً تروتسكياً في أثناء دراسته الجامعية).
كانت اللعبة السياسية، حينها، كما يديرها بن علي، لا تقبل التعددية الفعلية، وتمارس الوصاية على كل المشهد السياسي، ولم يكن مصير الحزب الاجتماعي التحرري سوى نموذج لمهزلة التعددية الحزبية في ظل نظام استبدادي.
الأحزاب الليبرالية بعد الثورة:
شكل سقوط المخلوع بن علي لحظة تاريخية فارقة، في المشهد السياسي والحزبي في تونس، وفتح المجال لكل القوى الحزبية، للإعلان عن حضورها ومشاركتها في التجاذبات السياسية التي تشهدها البلاد، غير أن وضعية الأحزاب الليبرالية ظلت تراوح مكانها، من حيث الضعف في البناء الحزبي، والعجز عن الاستقطاب السياسي، فقد تم منح الترخيص لأحزاب ترفع الشعار الليبرالي في برامجها، منها:
حركة الشباب الديمقراطي:
يقول مؤسسوها إنها رأت النور منذ سنة 2008، إلا أن النظام السابق رفض الترخيص القانوني لها، في أجواء الانغلاق السياسي، واستحكام منطق الحزب الواحد، ورفض الرأي المخالف والمعارض. ويشير مؤسسو الحركة الشباب إلى أنهم مدينون لثورة 14 يناير/كانون الثاني، والتي مكنتهم من حقهم في العمل الفعلي والقانوني، حيث حصلت الحركة على الترخيص في 2 مارس/آذار 2011، وتختصر الحركة برامجها في قضايا التعليم والمسألة الاقتصادية، على الرغم من أنها لم تقدم برامج تفصيلية مقنعة وموضوعية، كما فشلت في الحصول على أي مقعد في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، والتي جرت في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
حركة الكرامة والديمقراطية:
حصلت على إجازة العمل القانوني في 11 أبريل/ نيسان 2011، ويرأسها محمد غماض. وعلى عادة أحزابٍ كثيرة نشأت بعد الثورة، قدم الحزب برامج شعبوية وغير قابلة للتطبيق، مثل الحديث عن سعر منخفض لرغيف الخبز(150مليماً فقط بينما سعره الحالي، وعلى الرغم من الدعم الحكومي يصل الى 250 مليماً)، وأيضا الوعد بتوفير 125 ألف فرصة عمل في عام، بالإضافة إلى تخفيض ساعات العمل من 40 إلى 35 ساعة أسبوعياً، مع الحفاظ على الرواتب نفسها، وهي ما تبدو وعوداً طوباوية، غير قابلة للتحقق. وعلى الرغم من ترشيح الحزب قوائم لانتخابات المجلس التأسيسي، فإنه لم يحقق سوى نتائج صفرية، بررها رئيس الحزب بافتقاده الدعم المالي، متهما الأحزاب التي فازت، وخصوصاً حركة النهضة “بتلقي أموال طائلة، وكسب أصواته بهذه الأموال. وقد وزع الحزب مواد غذائية كثيرة، وحتى الفلوس من أجل كسب الأصوات”. ويظل هذا الموقف مجرد تبرير لفشل انتخابي متوقع لحزبٍ، عجز عن تقديم البدائل، أو توفير الكفاءات السياسية القادرة على إقناع الناخب التونسي.
الاتحاد الوطني الحر:
تأسس هذا الحزب في 19 مايو/أيار 2011، على يد رجل الأعمال، سليم الرياحي، والذي عاد من ليبيا، ولديه استثمارات واسعة في مجالات الطاقة والعقارات، ويقدم الحزب نفسه باعتباره “حزباً تقدمياً ليبرالياً، يعمل في نطاق الشرعية الدستورية والنظام الجمهوري يحترم، ويدافع عن الهوية العربية الإسلامية وحقوق الإنسان، ويسعى إلى تكريس مبادئ الوسطية، من خلال محاربة الفوارق الطبقية”. وقد خاض الحزب حملة دعائية واسعة، وأنفق مبالغ طائلة في حملته الانتخابية، ووجهت له اتهامات بشراء أصوات الناخبين، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها الحزب، فقد جاءت نتائجه مخيبة لآمال أنصاره، حيث لم يفز إلا بمقعد واحد، محققا نسبة من الأصوات لا تزيد على 1.27%، قبل أن يتمكن لاحقاً من شراء مقاعد في المجلس التأسيسي، ليصبح عدد ممثليه خمسة نواب.
وشهد الحزب استقالات عديدة، أبرزها الناطق الرسمي باسمه، محسن حسن، وتعود حالة الاضطراب الداخلي التي عرفها الحزب إلى ارتكازه على شخصية رئيسه، سليم الرياحي، والذي حاول أن يصنع لنفسه هالة جماهيرية، عبر شراء وسائل إعلامية، ومن خلال رئاسته أحد أكثر الفرق الرياضية التونسية شعبية، “النادي الإفريقي”، تمكن الحزب لاحقاً من إقناع سبعة أحزاب صغيرة من الانصهار فيه، على الرغم من مشاربها الأيديولوجية المختلفة، وتتمثل هذه الأحزاب في “الخيار الثالث” و”اليسار الحديث” و”حركة المواطنة” والحزب الليبرالي التونسي وحزب البديل الديمقراطي وحركة المواطنة والعدالة وحزب صوت الإرادة.
حركة الديمقراطية والتنمية:
يرأس الحزب عبد الرحمن البهلول، وقد حصل على تأشيرة العمل القانوني، في 24 مايو/أيار 2011، ويعلن في برامجه الرسمية أن غايته “بناء دولة مدنية، تحتكم إلى المؤسسات والقوانين المعبرة عن إرادة الشعب، سواء عبر الانتخاب أو الاستفتاء لبناء تنمية وطنية على أسس متينة وصلبة”. وقدم الحزب ثلاث قوائم لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ولم يفز بأي مقعد، ولم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها 0.15%.
حزب الأحرار التونسي:
ظهر بوصفه انشقاقاً عن الحزب الاجتماعي التحرري، بعد خلافات داخلية حادة، دعت ناشطين إلى تأسيس حزب جديد “رأوا أنه يستجيب لتطلعاتهم المستقبلية، ويمثل ثورة تصحيحية للمبادئ الليبرالية التي يؤمنون بها”. وقد حصل حزب الأحرار التونسي على تأشيرة العمل القانوني في 8 مارس/آذار 2011، وهو يرفع جملة من الشعارات السياسية، أبرزها تبني “فكرة الأمة التونسية، ذات الهوية المتعددة المنفتحة، انصهرت فيها حضارات وثقافات عظيمة من الأمازيغ، مروراً بقرطاج والعرب”. ويؤكد الحزب على عدم إيمانه بوجود إسلاميين معتدلين، ويؤكد على مجموعة من الثوابت لديه، أبرزها “عقوبة الإعدام عقوبة متخلفة، نعم للمساواة في الإرث، ضد تجريم المثلية الجنسية، ضد كل أشكال التمييز”. لا يتمتع هذا الحزب بأي انتشار شعبي، ويبدو امتداداً لأجندات غربية موغلة في العلمنة، أكثر مما هو حزب قادر على تقديم برامج، أو على المنافسة الانتخابية.
الحزب الجمهوري المغاربي(الحزب الليبرالي المغاربي سابقاً):
حصل على الترخيص القانوني في 22 مارس/آذار 2011، ويتولى الرئاسة فيه، محمد البوصيري بوعبدلي، ويعلن عن نفسه بوصفه “حزباً وسطياً وديمقراطياً واجتماعياً”، غايته “إيجاد منوال تنمية ملائم لمجتمعنا ولثقافتنا، قادر على الاستجابة لمقتضيات العولمة”، ما يقتضي اعتماد قيم الحداثة والتقدم، باعتبار “أنّ مشروع الحداثة والتقدّم الاجتماعي المؤسّس: على تشجيع الحريّات والمؤسّسات الديمقراطيّة، وعلى بناء مجتمع العدالة والازدهار والتضامن والحداثة لهو الضامن، في نظر باعثي الحزب الجمهوري المغاربي ومناضليه، للشروط الكفيلة ببروز إنسان جديد”. وشارك الحزب في انتخابات المجلس التأسيسي، وفاز بمقعد وحيد، ولم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها 0.32%.
حزب آفاق تونس:
حصل على الإجازة القانونية في 28 مارس/آذار 2011، وساهمت في تأسيسه كوادر ذات تكوين غربي، واتسم، في طابعه الغالب، بنوع من النخبوية المفرطة، وهو يعلن عن نفسه في الميثاق الذي أصدره بوصفه “حزباً ليبرالياً اجتماعياً”، قائماً على “اختيار نموذج حداثي وحضاري ديمقراطي وطني، يهدف إلى إلحاق تونس بمصاف الدول المتقدمة”. وشارك في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وفاز بأربعة مقاعد مع نسبة تصويت بلغت 1.89% من إجمالي الأصوات المصرح بها.
خاض تجربة الانصهار مع أحزاب أخرى، أبرزها الحزب الديمقراطي التقدمي، ليتم بعدها الإعلان عن تأسيس الحزب الجمهوري، في 9 أبريل/نيسان 2012، غير أن هذه التجربة لم تعمر طويلاً، إذ سرعان ما حصل الانشقاق، وأعلن ياسين إبراهيم المدير التنفيذي لحزب آفاق تونس، في مؤتمر صحفي، في 28 أغسطس/آب 2013، عن انشقاقه على الحزب الجمهوري.
وما يميز هذه الأحزاب جميعها هو جملة من الأزمات، يمكن اختصارها على النحو التالي:
ـ أحزاب نخبوية، ترفع شعارات لا تجد لها جذوراً، داخل الوجدان الشعبي، ما يفسر فشلها الواضح في إقناع الناخبين، على الرغم من تمويلاتها الضخمة، وحملاتها الدعائية الواسعة.
ـ تظهر هذه الأحزاب الليبرالية، وكأنها استجابة لحاجة خارجية، فرضتها علاقاتها مع المراكز المالية والثقافية الغربية، أكثر مما هي تلبية لرغبة اجتماعية حقيقية، أو استجابة لمطالب شعبية، عبر عنها الشباب الثائر، في أثناء احتجاجه على نظام الحكم السابق.
ـ ظلت تراكم فشلها بسبب خضوعها لمنطق الزعاماتية المفرطة وهو ما افشل كل محاولاتها في إيجاد قطب ليبرالي واسع وموحد.
ـ غياب التجربة السياسية عن رؤساء هذه الأحزاب، إذ إن أغلبهم لم يُعرف عنه معارضتهم نظام الحكم السابق، أو نضاليتهم، مقارنة بقادة أحزاب أخرى (مثل حزب حركة النهضة، أو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية مثالاً).
ـ يعاني مجمل الأحزاب الليبرالية التونسية مما يمكن تسميته العمى الأيديولوجي، فهي تعلن الانتساب إلى مذهب سياسي ما، لكنها لا تحدد بالضبط مدلول اختيارها هذا. فهي لا تدرك من الليبرالية سوى أنها دعوة صريحة إلى الحرية الاقتصادية، أو المبالغة في بعض الحريات الفردية، لكنها تفتقر فعلياً إلى برامج سياسية حقيقية، تنبئ عن فهم للواقع السياسي والاجتماعي المتغير في البلاد، إثر ما شهدته من تغيرات سياسية حادة، لا يمكن إنكارها.
بقي أن نشير إلى أن أحزاباً كثيرة ممن لا تعلن عن نفسها، بوصفها تتبنى المنظومة الليبرالية، تظل، في النهاية، تقبل جوانب ليبرالية، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، لكنها تظل من الناحية السياسية رهينة توجه إيديولوجي، تنتسب إليه، ولا تعمل به (خصوصاً لدى بعض القوى الإسلامية وأحزاب اليسار)، كما أنها لا تتحمس كثيراً لأهم مبادئ الليبرالية السياسية، ونعني به مبدأ سيادة الشعب الذي يقتضي التخلي عن فكرة التعبير، ذي الشكل الواحد عن الشعب الذي ليس بالتأكيد كتلة متجانسة، ومن ثمة، فإن هذا التعدد (تعدد المصالح والآراء والرؤى) هو أيضا معطى جوهري في الليبرالية السياسية.
أزمة الأحزاب الليبرالية في تونس (وربما الفكرة الليبرالية ذاتها) تعود، في جانب منها، إلى الأزمة التي تعرفها المنظومة الحزبية، باعتبار أن الأحزاب التونسية، بعد الثورة، لم تصل بعد إلى درجة النضج، وفهم معنى الحزب السياسي في بنيته العميقة، باعتباره، وبالدرجة الأولى، مدرسة للتربية السياسية للمواطن، ينخرط فيها، ليتدرب على مساهمته في الشأن العام، وعلى ممارسة حقوقه السياسية الأساسية، ولكن، تحقيق هذه المهمة في صورتها المثلى، ليس أمراً يسيراً، في ظل حالة الاضطراب التنظيمي الذي تشهده غالبية الأحزاب السياسية، وحالات الانشقاق التي تعرفها، بالإضافة إلى ما تعرفه من ارتحال ناشطيها، بصورة تذكرنا بانتقالات لاعبي كرة القدم. وما يزيد المشهد قتامة انبناء أحزابٍ كثيرة على منطق الزعيم الأوحد، ما يجعلها أشبه بالشتات الذي تجمعه المصلحة الآنية، أكثر مما هي تنظيم ذو بنية واضحة، وأهداف محددة (نداء تونس نموذجاً)، فالحزب الحقيقي، كتنظيم عقلاني للفعل السياسي، وإن كانت تتجاذبه، أحياناً كثيرة، جماعات الضغط والمصالح، فإنه يهفو، دائماً، إلى النموذج العقلاني الأمثل، قوام هذا النموذج العقلاني هو السعي إلى تحويل الحزب السياسي إلى بنية جماعية متآلفة عضوياً، أي إلى عقل جماعي، يتناقش فيه جميع الأعضاء حول قضايا الشأن العام.
والسؤال المركزي في ظل حالة الانفلات الحزبي (المبررة بحكم الواقع وحداثة التجربة الديمقراطية) لم يعد هل لدينا أحزاب ليبرالية في تونس؟ وإنما هل يضم المشهد السياسي أحزاباً فعلية، تنطبق عليها التسمية، وتتساوق مع المفهوم كما تحدد في العلوم السياسية؟
“العربي الجديد”
اقرأ أيضا
المفتي العام للقدس يشيد بالدعم الذي يقدمه المغرب بقيادة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني
أشاد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى المبارك، الشيخ محمد حسين، اليوم الأحد …
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.