أبعد من «إيلان»

بوشعيب الضبار
وجهات نظر
بوشعيب الضبار14 سبتمبر 2015آخر تحديث : منذ 9 سنوات
أبعد من «إيلان»
أبعد من «إيلان»

النخوة الأوروبية المفاجئة تجاه اللاجئين، يخشى أن تفاقم من معاناتهم، وتتسبب بفوضى كبيرة، سيدفع ثمنها مزيد من الأطفال والنساء، والأبرياء السوريين والعراقيين الذين يصدّقون الوعود البراقة. الشعوب الغنية التي تتباكى حاليًا على «حقوق الإنسان»، ويصرخ مسؤولوها لنجدة المقهورين، لن تستقبل إلا العدد الذي سيتم الاتفاق عليه، ووفق الميزانيات التي تعتمد، وتبعًا لخطة واضحة.
الخلافات كبيرة، بين دول أوروبا الشرقية والغربية، وثمة محتجون حتى في فرنسا، والعدد المزمع استيعابه، بحسب ما هو معلن لغاية اللحظة، مضحك ويثير السخرية، رغم كل الضجيج المثار حوله. فماذا يمثل رقم 120 ألف لاجئ، تقرر أوروبا استقبالهم خلال سنتين، وترصد ألمانيا لخمسين ألفًا منهم ستة مليارات يورو؟ بينما نحن نتحدث عن مليوني لاجئ في لبنان، ومليون ونصف في الأردن، أصغر بلدين عربيين، هذا عدا لاجئي تركيا، و8 ملايين غادروا بيوتهم في الداخل السوري. ملايين اللاجئين السوريين والعراقيين بات حلم الفردوس الأوروبي يداعبهم، وأخذوا يغادرون مخيماتهم ويشدون الرحال إلى المجهول. السفارات الغربية في لبنان لم تعد قادرة على استيعاب الطلبات. السفن التي تحمل المهاجرين من ميناء طرابلس اللبناني إلى تركيا ارتفع عددها من سفينتين في الأسبوع إلى عشر في اليوم. أي أن عشرة آلاف لاجئ يغادرون هذا المرفأ، يوميًا إلى ميناء بودروم، أملاً في الوصول إلى اليونان، بعد أن سمعوا عن استعداد الحضن الأوروبي الدافئ لاستقبالهم. هل ستفتح أوروبا ذراعيها لكل هؤلاء؟ أم أن الحملة الإعلامية ستخفت بعد أيام، ويبقى ضحايا «حملة إيلان» في العراء، بعد أن تطفأ الكاميرات؟ منذ أيام وزعت المفوضية العليا للاجئين في لبنان بيانًا، تطلب فيه عدم إعطاء آمال وهمية للاجئين تزيد من معاناتهم، فلا معلومات لديها، عن أي تغيير في سياسة إعادة توطين، لعدد أكبر من الذين كانت تتعامل معهم في السابق.
الأرقام الأخيرة لـ«المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان» في جنيف تكشف أن ثمة قضية مخفية ومشبوهة، وراء الغليان الأوروبي الحالي. فالذين نجحوا في اجتياز البحار، وقطع الحدود، ودخلوا الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، بلغوا نحو 380 ألف شخص، بينهم 190 ألفًا خلال شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) الماضيين وحدهما، أي أن ما ينوي الاتحاد استقباله في سنتين يضطر الآن للقبول به في شهرين. من أجل ماذا إذن يجتمع الاتحاد الأوروبي ويصدر البيانات ويعلن حسن النيات؟
قبل التباكي على الطفل إيلان، أكثر من 2800 لاجئ بينهم نساء وأطفال غرقوا في المتوسط، أثناء محاولتهم العبور إلى أوروبا. مئات الأطفال والنساء صاروا وليمة لحيتان البحر، ولم يتحرك أحد. عشرات الفتيان اغتالتهم «داعش»، بقطع الرؤوس والرمي بالرصاص، ولا تزال أفلام إعدامهم على «يوتيوب» منذ سنتين، ولم يهب أوروبي لنجدتهم أو فتح أبواب الاتحاد الثري لإنقاذهم من الموت، بل بالعكس حاولت الدول الأوروبية خلال الفترة الماضية حراسة سواحلها بالحديد والنار، وسيرت الأساطيل وشهرت كل أدواتها الردعية للحد من الهجرة غير الشرعية.
صورة إيلان، التي وزعتها وكالة أنباء الأناضول، ويقال حينًا إن الجندرمة التركية التقطتها، وحينًا آخر يعطى اسم مصور تركي، وليست بعدسة فرنسي أو ألماني، أو أحد الشقر الذين يفترض أن المصداقية الصحافية كتبت لهم، اعتبرت وثيقة لا مرد لها، رغم كل اللغط المثار حولها.
الآن، باتت صحافية مجرية تركل مهاجرًا يحمل طفلاً، يحاول النجاة به، مجرمة، أن يعثر على جثث مهاجرين في شاحنة في النمسا فضيحة أخلاقية، أن لا يستقبل اللاجئ من قبل أهل البلد باليافطات الترحيبية إهانة للبشرية. لا اعتراض بالتأكيد على اليقظة المتأخرة، شرط أن تكون صادقة ومخلصة، وأن لا تخلف وراءها آلاف المشردين في العراء.
نقرأ أخبارًا كاريكاتورية: شركة «ايكيا» للمفروشات أمام محنة صناعة آلاف الأسرّة للاجئين في وقت قياسي، هل نصدق أن ألمانيا لم تعد تقبل أن ينام لاجئوها على فرش غير وثيرة؟ شركة «مرسيدس» في نزاع مع نقابة العمال، لأنها تريد تشغيل 50 ألف سوري بمعاش شهري أقل من الحد الأدنى، لفتة حقوقية أخرى تستحق التسجيل. سياسي فرنسي تقوم القيامة عليه ولا تقعد لأنه قال: «إن ألمانيا أخذت اليهود من عندنا واستبدلتهم بالعرب». ويضطر الرجل إلى أن يعتذر عبر «تويتر». أنجيلا ميركل تتحول إلى محامية عن العرب المضطهدين الذين يهرعون لالتقاط «سيلفي» معها تسجيلاً للحظة التاريخية.
باتت وكالات الأنباء ترصد حركة النزوح في كل بقعة على الكرة الأرضية. أولئك الذين يقطعون مناطق متجمدة على الدراجات، غيرهم يجتازون القفار العراقية والأردنية، وهناك من يهددون بالموت على سكك القطارات المجرية. فجأة صار لكل لاجئ عين ترصد آلامه وتريد أن تحاسب كل من يجرح مشاعره.

للمزيد:اللاجيء السوري الذي ركلته مصورة كابتن سابق في كرة القدم
لا اعتراض على صحوة بعد سبات الموات، لكن في كل ما نرى ونسمع ثمة أمر مستفز، فقد استقبل لبنان مع بدء الثورة السورية، بإمكاناته شبه المعدومة، ورغم ديونه التي اقتربت من السبعين مليار دولار، 50 ألف لاجئ في اليوم، واحتمل بخل المجتمع الدولي، ووعوده الموهومة، ولا يزال يئن، دون أن يمنن العالم باحترامه «حقوق الإنسان» ولم يصور مواطنيه الذين أسكنوا اللاجئين بيوتهم، وتقاسموا معهم كسرة الخبز وحبة الزيتون.
مريب هذا الغرام الأوروبي الجامح الذي ما إن ينقضِ وهجه حتى نرى أن ضحاياه سيكونون بالتأكيد أكثر من المستفيدين منه.
الوجع يكبر ويستفحل، والسوريون لا يريدون ملجأ كما يتوهم الأوروبيون، بل وطنًا آمنًا. فليس المطلوب من «بيت» القصيد أن يكون مجرد «خيمة» في مهب الريح!

إقرأ أيضا:بالصور..شارلي إيبدو تسخر من أزمة اللاجئين

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق