في الجزء الثاني من الحوار الذي أجرته مع “مشاهد24″، يتحدث الأستاذ إدريس الكنبوري، الباحث في الجماعات الإسلامية والفكر الإسلامية، عن النقلة التي أحدثها “الربيع العربي” في نشاطات الجماعات المتطرفة المسلحة، وعن عودة مفهوم “الخلافة” إلى الواجهة وجذور العنف الذي يعصف بالمنطقة العربية وتأثيره على صورة الإسلام.
بالموازاة مع صعود الإسلاميين المعتدلين إلى السلطة، جاء “الربيع العربي” ليؤرخ لتحول في نشاطات الجماعات الإسلامية المسلحة، من خلال بروز نموذج تنظيم “داعش” الذي صار يتوفر على جيش وموارد مالية مهمة وآلة دعائية ضخمة، بالإضافة إلى استحواذه على مساحات ترابية واسعة. كيف تقرأ هذا التحول من نموذج تنظيم “القاعدة” الذي كان يدير عملياته من كهوف أفغانستان إلى نموذج “داعش” الذي يريد إقامة دولة؟
يمكن القول إن تنظيم “القاعدة” كان يستجيب لمرحلة معينة. فالقاعدة وليدة مرحلة ما بعد غزو العراق للكويت وما عرفته من تحالف دولي ضد النظام العراقي السابق. عندما دخل الجيش الأمريكي للسعودية لأول مرة في تاريخها، كما هو معروف خرج أسامة بن لادن وأشياعه وأصدروا بيانهم الشهير ضد العائلة الحاكمة مستشهدين بالحديث النبوي الذي يقول “أخرجوا المشركين من جزيرة العرب”.
في هذه الفترة بدأ التفكك رسميا داخل الوهابية، وبدأت الوهابية تتسيس خارج النظام الحاكم. ولذلك، لاحظنا أن بن لادن ومن معه دخلوا في صراع فقهي مع التيار الديني في السعودية ممثلا في هيئة كبار العلماء. ثم جاءت المرحلة الأخرى عندما أعلن عن التصالح ما بين بن لادن ومن معه وجماعة “الجهاد الإسلامي” و”الجماعة الإسلامية” المصرية التي كان من بين قادتها أيمن الظواهري، حيث أسس هؤلاء ما يسمى “الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين” سنة 1998، قبل أن يتم الإعلان فيما بعد عن تأسيس تنظيم “القاعدة”، إلى أن جاءت تفجيرات 11 سبتمبر سنة 2001.
تنظيم “القاعدة” كان يعبر عن مرحلة تتسم باستهداف ما يسمى “العدو البعيد”، أي الأمريكيين والأوروبيين، ويتم خلالها تنفيذ عمليات تفجيرية لكن من دون أن تكون لها مرجعية سياسية محددة، بمعنى من دون أن تنادي بإنشاء نظام مركزي ودولة معينة. “القاعدة” كانت تراهن على أن يكون لها أتباع كثيرون وتنظيمات موالية في مختلف الدول على أساس أن تستهدف هاته البلدان لتكسير شوكتها وزرع بذور الفوضى، ثم تأتي “القاعدة” بعد ذلك وتؤسس خلافة أو دولة إسلامية.
إذن، فتنظيم “القاعدة” كانت لديه فعلا فكرة الدولة، والدليل هو أن أسامة بن لادن ومن معه بايعوا الملا محمد عمر في أفغانستان واعتبروه أميرا للمؤمنين على أساس أن طالبان كانت إمارة وأن هناك إمارات كثيرة يمكن أن تشكل فيما بعد. لكن محطة الربيع العربي كانت نقلة نوعية، سواء تعلق الأمر “بالقاعدة” أو التنظيمات التي نشأت بعد الربيع العربي.
خلال هذه المحطة حدثت مجموعة من التحولات أولها سقوط الأنظمة المركزية، وثانيها خروج الجماهير الحاشدة في البلدان العربية للمناداة بسقوط الأنظمة بجرأة لم تكن معهودة في تاريخ العرب منذ سقوط العثمانيين. أما التحول الثالث فهو حصول انفلات أمني وفوضى أصبح من السهل معها تسريب الأسلحة وإنشاء الجماعات المسلحة لقتال الأنظمة أو الجماعات الموالية للغرب أو للأنظمة القائمة.
إذن جاءت هذه الجماعات لتركب على هذا الوضع لأن الربيع العربي جاء بمعطى أساسي وهو أن الناس أصبحوا ينادون بسقوط الأنظمة وتأسيس أنظمة جديدة فيها العدل والحرية والكرامة، كما ساهم في خروج تيارات تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية والعودة إلى الدين، وهو ما يمثله وصول الإسلاميين إلى السلطة الذي تحدثنا عنه سابقا.
فالتنظيمات المتطرفة، ومنها تنظيم “القاعدة”، رأت في هذه التحولات فرصة لكي تنشئ بدورها أنظمة أو دولا. نحن هنا أمام تحول، فالقاعدة قامت والأنظمة العربية موجودة وتتمتع بالشرعية، وبالتالي كان من الصعب القضاء عليها من دون أن يكون هناك تدخل دولي. لكن مع مجيء الربيع العربي، بدأت هذه الأنظمة تتساقط وتفقد الشرعية لأن الجماهير التي خرجت إلى الشارع تمتلك هذه الشرعية. وبالتالي لم يكن باستطاعة أي اتحاد إقليمي أو الأمم المتحدة أن يفعل شيئا.
عندما خرجت الجماهير للمطالبة بتأسيس أنظمة جديدة، رأت هذه الجماعات المتطرفة في ذلك فرصة لتبشر بنظام وتقدم نفسها كبديل. من هنا برزت فكرة الدولة مجددا داخل هذه الجماعات.
لذلك نلاحظ أن تنظيم “داعش” عندما أعلن عن نفسه في 2004 يقول في البيان رقم 1 بشكل صريح وواضح إنه يعتبر نفسه امتدادا لتراث أسامة بن لادن وتفجيرات 11 سبتمبر. وبعد وفاة بن لادن، بدأ يرى نفسه باعتباره الوريث الشرعي، أي أنه لم يتعامل مع تنظيم “القاعدة” كإسم موجود بل كان يتعامل مع الزعامة الفردية لأسامة بن لادن.
إقرأ أيضا: الكنبوري: “الجماهير أصبحت تحاسب الإسلاميين على أساس المكاسب وليس الدين”
بعد الربيع العربي، وجد تنظيم “داعش” أنه من الممكن أن يأخذ فكر “القاعدة” ويذهب بها بعيدا لكي يؤسس دولة في إطار جغرافي محدد لأن الأمور أصبحت متاحة. فالنظام السوري فقد السيطرة على المناطق البعيدة عن المركز، ونفس الشيء ينطبق على العراق حيث يوجد صراع سني شيعي وتغلغل إيراني وهو ما أعطى ورقة لتنظيم “داعش” باعتباره تيارا سلفيا، والتيار السلفي معروف تقليديا بأنه يعادي الشيعة عموما. هكذا لعب التنظيم على الحساسية داخل العراق وعلى غياب الأمن وفقدان النظام السوري لقبضته في بلاده، حيث رفع شعار إسقاط اتفاقية “سايكس بيكو” التي وقعت في 1916 على أساس أنه الممثل للدولة الشرعية.
هذا كله يوضح أن العالم العربي فيه مشكل. جميع المؤرخين والمفكرين قبل “داعش” و”القاعدة” كانوا يقولون إن هذه الأنظمة لا تتمتع بالشرعية الكافية لأنها وليدة “سايكس بيكو”، حيث خلق الاستعمار الأجنبي دولا يستطيع التحكم فيها، بحيث أعطى بطريقة غير مباشرة ذريعة لهاته الجماعات لكي تتصرف بهذا الشكل. ما فعله الاستعمار في “سايكس بيكو” هو ما ندفع ثمنه الآن، وهو الذي ركبت عليه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
الهدف المعلن لتنظيم “داعش” هو إقامة دولة الخلافة، وهو شعار ترفعه حتى تنظيمات إسلامية لا تتبنى العنف. في ظل سياق “الربيع العربي” الذي عرف حمل مطالب لإقامة أنظمة مدنية وديمقراطيات على النموذج الغربي، كيف تقرأ العودة القوية لمفهوم “الخلافة”؟
كما نعلم، يعيش العرب، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، في دول قومية états nations، لكنهم لديهم أيضا خلفية الانتماء إلى أمة. فهم أبناء دولة وطنية ذات سيادة، وفق المعايير الدولية الجديدة لما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت ذاته هم أبناء أمة إسلامية. هذا التوتر في التدين والتعليم والموروث الديني والفقهي الذي يفرض نفسه، شئنا أم أبينا، هو الذي يجعل مفهوم الخلافة حاضرا.
مفهوم الخلافة يعبر عن الإحساس بالانتماء إلى أمة، لكن المفهوم الثاني يعبر عن الانتماء إلى دولة وطنية. المشكل يقع في التوفيق ما بين هذين المفهومين، وهو ما فشل فيه العرب والمسلمون.
لا ننس أنه بعد انهيار الخلافة العثمانية كانت كل الدول العربية تخوض سباقا ضد الساعة لإعادة إحياء هذا الانتماء العام. لهذا الغرض عقدت اجتماعات في مكة ودمشق ليتم إعادة إحياء الخلافة بشرط ألا تعود إلى العثمانيين بحيث تصبح خلافة عربية. وجميع الأنظمة خلال العشرينات والثلاثينات وربما حتى الأربعينات كانت تركض وراء إحياء هذا المفهوم.
كما أن علماء ومصلحين مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي ورشيد رضا كانوا يجوبون العواصم لإحياء هذا المشروع، وكانت الدول العربية تستقبلهم على هذا الأساس. وفي مصر كان الملك فاروق يتبنى هذا الطرح لأنه كان يريد أن يعين خليفة. بل حتى المارشال ليوطي إبان الاحتلال الفرنسي للمغرب كان يفكر في أن يكون السلطان المغربي مرشحا للخلافة.
خلال 30 سنة التي تلت انهيار الخلافة العثمانية، ظل مفهوم الخلافة حلما عربيا. بعد ذلك جاء الفكر القومي كما نعرف وجاءت الناصرية والوحدة بين مصر وسوريا، وكل هذه كانت مظاهر لإحياء الخلافة بشكل جديد. فكرة الوحدة العربية كانت نوعا من الخلافة، لكنها خلافة عصبية وعرقية من خلال وحدة الشعوب العربية من دون الشعوب الأخرى التي تنتمي إلى الإسلام.
في بعض المراحل، حاول بعض المفكرين تقديم مقترحات من قبيل إحياء الخلافة لكن على أساس الاعتراف بالدول القائمة كما تعترف بها منظمة الأمم المتحدة أو عصبة الأمم من قبل، على أساس أن يكون هناك شكل مستحدث لتحالف أو منظمة بين هاته البلدان. من بين المقترحات آنذاك، ما تقدم به المصري عبد الرزاق السنهوري الذي دعا إلى خلافة قائمة على عصبية شرقية.
فيما بعد، أعتقد أنه عندما أسس المسلمون منظمة التعاون الإسلامي كانت لديهم فكرة أن تكون هذه المنظمة تعبيرا عن الضمير الجمعي وإعادة إحياء الأمة، بحيث تكون له وحدة في القرار وربما دفاع مشترك. كل هذه أشكال لإعادة صياغة مفهوم الخلافة في العصر الحديث.
إقرأ أيضا: هجمات باريس..ما الذي سعى “داعش” إلى تحقيقه؟
الفرق بين هذه التجارب والجماعات المسلحة المتطرفة هي أن هذه الأخيرة تريد إحياء الخلافة بشكلها التقليدي الذي كان سائدا، بحيث يكون شخص واحد يعين كخليفة وتصبح الأرض بيده وجميع البلدان يصله خراجها…إلخ.
هذا هو الفرق، وإلا فإن حلم الخلافة موجود، ومختلف التيارات الإسلامية لديها هدف إقامة الخلافة حتى تلك التي لا تنادي بهذا المصطلح، كل ما في الأمر أن تؤجله أو لا ترى الظرفية مناسبة أو عاجزة عن ابتكار تصور معين للخلافة أو أنها تنتظر وتتوقع.
البعض يرى العقل العربي ميال إلى تصديق نظريات المؤامرة من خلال القول بأن “داعش” ومثيلاتها صنيعة الولايات المتحدة وإسرائيل عوض الإقرار بأنها منتوج عربي خالص، ووليدة العنف المتواجدة بكثرة في المنطقة. كيف تنظر إلى هذه الجدلية؟
أولا، العنف ظاهرة إنسانية، حتى لا نركز على منطقة الشرق الأوسط لوحدها. هناك فائض من العنف على مستوى التجارب التاريخية للشعوب. وحتى على مستوى العالم اليوم، هناك مناطق يسود فيها يكاد يفوق ما يحصل في الشرق الأوسط. كل ما في الأمر أن الكاميرات الدولية هي كاميرات غربية، وبالتالي هي تسلط الأنظار على المناطق التي تهمها. لذلك من المؤسف أن الولايات المتحدة وأوروبا وحتى الأمم المتحدة تختزل العالم العربي والإسلامي في منطقة الشرق الأوسط حيث يوجد البترول. ما عدا هاته المنطقة، لا تهمها أي مناطق أخرى، لذلك يتم التركيز عليها وعلى العنف المتواجد بها.
بالمقابل، هناك عنف في إفريقيا وفي آسيا. بل هناك مسلمون يقتلون صباح مساء في بورما وإفريقيا الوسطى ولا أحد يصدر بيانا. لكن الغرب، الذي ينعدم فيه الضمير ويحكمه منطق المصلحة، يركز على الشرق الأوسط فقط.
إذن العنف ظاهرة إنسانية. هذا من جهة. من جهة أخرى، العنف مرتبط بالأديان. جميع الأديان فيها تكفير ورفض للآخر. وما يشجع على هاته الممارسات هو أن الناطقين باسم الدين يحرفون الكلم عن مواضعه أو يقدمون بعض الاجتهادات والتفسيرات التي تخدم أغراضهم، ويتلاعبون بالآيات والمفاهيم لخدمة أغراضهم سواء في الإسلام أو المسيحية.
إذن القابلية للعنف، وليس العنف بحد ذاته، موجودة في كل دين. كل ما يتطلبه الأمر هو مجموعة من الناس يتطوعون لإخراج هذه الأفكار وتقديمها بطريقة كارثية. في الفقه الإسلامي هناك أمور من شأنها أن تولد العنف، وهي التي ولدت العنف في الماضي، وتولده اليوم وستولده في المستقبل.
لكن هناك أيضا أياد أجنبية دائما ما تتلاعب بهاته الجماعات من خلال تقديم الدعم اللوجستي أو غض الطرف عن عمليات تهريب الأسلحة وتجنيد البشر وتسفيرهم، كل ذلك يتطلب وجود شبكات دولية. وهذه الشبكات لا يمكن أن تتكون من دون وجود تواطؤ دولي.
لقد اتضح منذ مدة أن تركيا تتساهل مع الأشخاص الذي يلتحقون بصفوف “داعش”، بحيث تحولت إلى ما يشبه “الطريق الملكي” لمن يريد الالتحاق بصفوف التنظيم في سوريا والعراق. في الآونة الأخيرة بدأنا نسمع كيف أن تركيا بدأت تشدد الخناق على المجندين بعد أن تضررت من عمليات “داعش”. يعني هناك مؤامرة. صحيح أن العنف موجود، لكن هنا تأتي المؤامرة الأجنبية من أجل الاستفادة من هذا العنف وتوجيه في المصلحة التي تخدمها.
إقرأ أيضا:تنافس بين القاعدة وداعش على بسط نفوذهما على تونس
الكثير من الأحداث في التاريخ المعاصر كانت عبارة عن مؤامرات. ورغم أن الناس كانت ترفض الاعتراف بهذا الواقع، ولكن اتضح فيما بعد أنها مؤامرات بعدما ظهرت الوثائق التاريخية.
ربما تظهر حقائق بخصوص الربيع العربي بعد عقدين أو ثلاثة عقود تبين أنه كان بغرض خلق الفوضى في العالم العربي وأن ظهور هذه الجماعات هو بهدف القضاء على الأمن والاستقرار ونشر الفوضى، لأن كل ذلك تستفيد منه الولايات المتحدة وإسرائيل.
إذن أنت متفق مع من يرى أن المجموعات الإسلامية المسلحة تخدم إسرائيل والولايات المتحدة بدرجة أولى، من خلال المساهمة في انهيار الدول وقيام دويلات صغيرة تجعل من إسرائيل القوة الإقليمية الكبرى وتوفر مبررات لتدخل عسكري غربي بحجة مواجهة التهديدات التي تشكلها هذه الجماعات على أمن الدول الغربية؟
أي ملاحظ بسيط، لا يحتاج أن يكون بالضرورة باحثا أو مفكرا، عندما يرى كيف أن ثلاثة دول كبرى في العالم العربي هي التي سقطت بشكل خاص، هي العراق وسوريا ومصر، سوف يتأكد بأن هناك أمرا يدبر لهذا العالم العربي. استهداف العراق وسوريا ومصر يوضح أن المستفيد الأكبر منه هو الولايات المتحدة وإسرائيل، ومعهم أنظمة عربية معينة.
أما المتضرر من هذا كله فهم العرب والمسلمون وصورة الإسلام. فالغربيون وإسرائيل يريدون أن يثبتوا أن ما كانوا يقولونه عن الإسلام باعتبار دين تكفير وقتل وسفك ودماء ودين توحش، ها نحن ننظر إليه.
أريد أن أقول أيضا أن ما كان يروج له بعض المستشرقين المتطرفين عن الإسلام بهتا أو زورا أو زيادة، لم يعودوا يحتاجون للبحث عنه في التراث، يكفيهم مشاهدة ما تنقله الفضائيات ليبرهنوا أن ما يقولونه صحيح. هذه الجماعات تثبت التهمة فعلا على الإسلام بأنه دين متطرف.
ومن هنا أوجه دعوة إلى الشعوب والأنظمة والعلماء لكي يتحركوا لإنقاذ الإسلام ممن يختطفونه ويشوهون صورته.