ﺗﻤﻬﻴﺪ
ﻧﺤﺎﻭﻝ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ ﺇﺭﺳﺎء ﻣﻌﺎﻟﻢ ﻗﺮﺍءﺓ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ. ﻗﺮﺍءﺓ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ ﻟﻤﺎ ﻧﺤﺴﺐ ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻴﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﻳﻦ ﺳﻌﻮﺍ، ﺑﻜﻴﻔﻴﺎﺕ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻤﺎﺳﻪ ﻋﻨﺪ ﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻣﻨﺬ ﻧﻴﻒ ﻭﺗﺴﻌﻴﻦ ﺳﻨﺔ. ﻧﺘﺤﺪﺙ ﻋﻦ ﻗﺮﺍءﺓ ﻣﻐﺎﻳﺮﺓ(ﺃﻭ ﺑﺎﻷﺣﺮﻯ: ﻣﻌﺎﻟﻢ ﻗﺮﺍءﺓ ﻟﻢ ﺗﻜﺘﻤﻞ ﻟﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻛﻞ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﺠﺪﺓ ﻭﻣﺒﺮﺭﺍﺗﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﻓﻲ ﻃﻮﺭ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ ﻭﺍﻹﻧﺸﺎء) ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﺤﺎﻭﻟﺘﻨﺎ ﺻﺮﺧﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺗﻨﻀﺎﻑ ﺇﻟﻰ ﺻﺮﺧﺎﺕ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻧﺤﻦ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﻨﺘﻘﺪﻫﺎ، ﻗﺮﺍءﺍﺕ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﻠﻮ ﻓﻲ ﺍﻷﻏﻠﺐ ﺍﻷﻋﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺪﺓ ﻭﻃﺮﺍﻓﺔ. ﻣﻨﺬ ﺃﻥ ﺗﻘﺪﻡ ﻃﻪ ﺣﺴﻴﻦ ﺑﺪﺭﺍﺳﺘﻪ ﻋﻦ “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ” ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ، ﻓﻲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﻋﺸﺮﻳﻨﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻗﺼﺪ ﻧﻴﻞ ﺩﺭﺟﺔ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭﺍﺓ، ﺃﺧﺬﺕ ﺍﻷﺑﺤﺎﺙ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻘﺎﻻﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﺤﻒ ﻭﺍﻟﻤﺠﻼﺕ، ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺧﺼﺼﺖ ﻻﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﻣﻨﺎﺳﺒﺎﺕ ﺷﺘﻰ، ﺃﺧﺬﺕ ﺗﺼﺪﺭ ﺗﺒﺎﻋﺎ ﻓﻲ ﻣﺼﺮ ﺃﻭﻻ ﺛﻢ ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺣﻈﻲ ﺑﺎﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ. ﻓﻨﺎﻇﺮ ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺆﺭﺥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺳﺒﻘﺖ ﻧﻈﺮﺍﺗﻪ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻓﻜﺮ ﻓﻴﻜﻮ، ﻭﻫﺮﺩﺭ، ﻭﻛﻨﻂ، ﻭﻫﻴﺠﻞ… ﺑﻞ ﻭﻟﺮﺑﻤﺎ ﻣﺎﺭﻛﺲ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﺟﻮﺍﻧﺐ ﻣﻦ ﻓﻜﺮﻩ. ﻭﻗﺎﺭﺉ ﻻﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﺆﻛﺪ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺆﺭﺥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻷﻛﺒﺮ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺆﺳﺲ ﺍﻟﻔﻌﻠﻲ ﻟﻌﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﺳﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ ﺃﻭﺟﺴﺖ ﻛﻮﻧﺖ ﻭﻣﺘﻘﺪﻡ ﻋﻠﻰ ﺇﻣﻴﻞ ﺩﻭﺭﻛﻬﺎﻳﻢ ﻭﻣﻤﻬﺪ ﻵﺭﺍء ﻏﺎﺑﺮﻳﻴﻞ ﺗﺎﺭﺩ ﻭﻟﻐﻴﺮﻫﻤﺎ. ﻭﻣﻌﺠﺐ ﺑﺎﻵﺭﺍء ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﻭﺍﻟﻤﻠﻚ ﻭﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻳﺬﻫﺐ ﺑﻪ ﺍﻟﻮﻟﻪ ﺑﺎﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺑﻌﻴﺪﺍ ﻓﻬﻮ ﻳﺠﺰﻡ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﺩﺭﺟﺔ ﻋﻠﻴﺎ ﻣﻦ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺴﻠﻄﺎﻧﻪ ﺷﺄﻭﺍ ﺑﻌﻴﺪﺍ ﻟﻢ ﺗﺒﻠﻐﻪ ﻋﻨﺪ ﺟﻬﺎﺑﺬﺓ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﺸﺮ ﻭﺍﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸﺮ ﻓﻲ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ. ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻣﺎ ﻳﻐﺮﻱ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﺘﻰ ﺃﺭﺳﻠﻨﺎ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﻋﻮﺍﻫﻨﻪ: ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ، ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ… ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻋﻠﻮﻡ ﺃﺧﺮﻯ ﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ. ﻟﻜﻦ ﺍﻟﻘﺮﺍءﺍﺕ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺷﺮﻧﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ (ﻭﻓﻲ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﺃﻥ ﻧﺬﻛﺮ، ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻻﺳﺘﺌﻨﺎﺱ، ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺎﺕ ﺍﻟﻐﺰﻳﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﻟﻠﺪﻛﺘﻮﺭ ﻋﻠﻲ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﻭﺍﻓﻲ ﻭﺃﺧﺼﻬﺎ ﺍﻟﺘﻤﻬﻴﺪ ﺍﻟﻤﺴﻬﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺪﻡ ﺑﻪ ﻟﻨﺸﺮﺗﻪ ﻟﻠﻤﻘﺪﻣﺔ. ﻛﻤﺎ ﻧﺬﻛﺮ ﻛﺘﺎﺑﺎﺕ ﺍﻟﻤﻔﻜﺮ ﺍﻟﻌﺮﻭﺑﻲ ﺳﺎﻃﻊ ﺍﻟﺤﺼﺮﻱ، ﻭﻫﺬﻩ ﺗﻠﺘﻬﺐ ﺣﻤﺎﺳﺔ ﻟﺼﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻭﺍﻷﺧﺬ ﺑﻜﻞ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺒﻘﻴﺔ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻟﻜﻮﻛﺒﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻭﻋﻠﻤﺎء ﺍﻟﻐﺮﺏ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ) ﻟﻢ ﺗﺴﻠﻢ، ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ، ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻉ ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﺁﻓﺎﺕ ﺛﻼﺙ: ﺍﻟﺤﻤﺎﺳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ،ﺍﻟﺬﻫﻮﻝ ﻋﻦ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ، ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﻧﺎﺕ ﺍﻟﻬﺠﻴﻨﺔ.
ﻓﺄﻣﺎ ﺍﻵﻓﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻓﻬﻲ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﻠﻮﻡ، ﺗﻌﺸﻲ ﺍﻟﺒﺼﺮ ﻭﺗﺸﻮﺵ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺅﻳﺔ ﻓﺼﺎﺣﺒﻬﺎ ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺑﻬﻴﻦ ﻣﻦ ﻣﻔﻜﺮﻳﻨﺎ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻣﺘﻘﺪﻣﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻼﺣﻘﻴﻦ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﻜﺮﻳﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺗﺄﻣﻠﻮﺍ ﻓﻜﺘﺒﻮﺍ ﺑﻌﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﻓﻲ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﺑﺄﺭﺑﻌﺔ ﻗﺮﻭﻥ ﺃﻭ ﺃﻛﺜﺮ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻵﻓﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻲ ﺁﻓﺔ «ﺍﻟﺬﻫﻮﻝ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻘﺎﺻﺪ» (ﺣﺘﻰ ﻧﺴﺘﻌﻴﺮ ﻣﻦ ﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﺃﺣﺪ ﻋﺒﺎﺭﺍﺗﻪ ﺍﻟﻤﺄﺛﻮﺭﺓ ﻭﺃﻛﺒﺮ ﻣﺂﺧﺬﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺆﺭﺧﻴﻦ) ﻭﻧﻘﺼﺪ ﺑﻬﺎ ﺍﻻﻧﺼﺮﺍﻑ ﻋﻦ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ، ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﻇﻬﻮﺭ ﻋﻠﻮﻡ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﺑﻌﺪ ﻭﻓﺎﺓ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺑﻘﺮﻭﻥ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﺃﻣﺮﺍ ﻣﻤﻜﻨﺎ. ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻟﻌﻠﻢ
المزيد: مقدمة ابن خلدون في يد مؤسس ال”فيسبوك”
ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻘﻞ ﺑﻤﻮﺿﻮﻋﻪ ﻭﻣﻨﻬﺠﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻭﻻ ﺃﻥ ﻳﺼﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻤﻬﺪ ﻟﻈﻬﻮﺭﻩ ﻭﻧﺸﺄﺗﻪ ﻋﻠﻮﻡ ﻭﺗﻘﻨﻴﺎﺕ ﻛﺜﻴﺮﺓ (ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ﺍﻹﺣﺼﺎء، ﺍﻟﺪﻳﻤﻮﻏﺮﺍﻓﻴﺎ، ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻴﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ، ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﻣﻨﻪ…). ﻋﻠﻮﻡ ﻭﺗﻘﻨﻴﺎﺕ ﺳﺎﺭﺕ ﻓﻲ ﺧﻂ ﻣﺘﺼﺎﻋﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻄﻮﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﻦ ﺍﻛﺘﻤﺎﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﻣﻴﻼﺩ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﻣﻴﻼﺩﺍ ﻣﻤﻜﻨﺎ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻵﻓﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻓﻬﻲ ﺍﻟﻮﻗﻮﻉ ﻓﻲ ﺷﺮﻙ ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﻧﺎﺕ ﺍﻟﺮﺧﻴﺼﺔ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﺘﻘﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻨﺪ ﻣﻦ ﺟﻬﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭﻛﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻣﻦ ﺩﺭﺍﺳﺎﺕ ﻟﻬﺎ ﺻﻔﺔ ﺍﻻﻓﺘﻘﺎﺭ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎ. ﺃﺑﺤﺎﺙ ﻣﻀﻨﻴﺔ، ﻻ ﻏﻨﺎء ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺋﻬﺎ ﺗﺠﻤﻊ ﻓﻲ ﺻﻌﻴﺪ ﻭﺍﺣﺪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻭﺩﻳﻜﺎﺭﺕ ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺸﻚ ﻳﻮﺣﺪ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ- ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥ ﺑﻮﻧﺎ ﺷﺎﺳﻌﺎ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺸﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺤﺪﺙ ﻋﻨﻪ ﺃﺑﻮ ﺣﺎﻣﺪ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺼﻮﺭﻫﺎ ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﻨﻘﺬ ﻣﻦ ﺍﻟﻀﻼﻝ” ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺸﻚ ﻭﻗﺪ ﺍﺧﺘﺎﺭﻩ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ ﻣﻨﻬﺠﺎ ﻟﺒﻠﻮﻍ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ ﻓﻤﻀﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﻘﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ”
ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻭﻓﻲ “ﺗﺄﻣﻼﺕ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ” ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﻐﺎﻳﺮ. ﻭﺃﺑﺤﺎﺙ ﺃﺧﺮﻯ ﺗﺸﻘﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﻧﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﺑﻦ ﻋﺮﺑﻲ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻪ ﺍﻟﺼﻮﻓﻴﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﺍﻷﻟﻤﺎﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺸﺊ ﻣﺬﻫﺒﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ “ﺍﻟﻤﻮﻧﺎﺩﻭﻟﻮﺟﻴﺎ”. ﻭﺃﺑﺤﺎﺙ ﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﺗﻘﺎﺭﻥ ﺑﻴﻦ ﺧﻄﺎﺏ ﻫﻴﻮﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﻭﺣﺪﻳﺚ ﺻﺎﺣﺐ “ﺗﻬﺎﻓﺖ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ” ﻋﻦ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻭﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻻﻗﺘﺮﺍﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻝ. ﻭﺍﻟﺤﻖ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻓﺔ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﺛﻤﺮﺓ ﺗﻔﺎﻋﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﺑﻴﻦ ﻣﻌﻄﻴﻴﻦ ﺍﺛﻨﻴﻦ. ﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﺍﻷﻭﻝ ﺫﻭ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ، ﻓﻬﻮ ﺭﺩ ﻓﻌﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﺎﻭﻻﺕ ﺗﺤﻘﻴﺮﻳﺔ ﺍﺳﺘﻌﻼﺋﻴﺔ ﺍﺳﺘﻬﺪﻓﺖ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻓﺴﻌﺖ، ﻟﺪﻭﺍﻉ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﺭﻳﺔ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺧﻄﺮﻩ ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻤﻮﺟﺐ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﻜﻢ ﺍﻟﻨﺰﻋﺔ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰﻳﺔ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ – ﻭﺇﺫﻥ ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﺳﻌﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﺜﻘﻔﻮﻧﺎ ﻭﺑﺎﺣﺜﻮﻧﺎ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﻭﻥ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﻋﻦ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻐﺘﺼﺒﺔ ﻓﻬﻮ ﻋﻤﻞ ﻣﺸﺮﻭﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻭﻣﺒﺮﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻲ ﺑﻴﺪ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻘﻴﻢ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻛﻤﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎ. ﻭﺍﻟﻤﻌﻄﻰ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻌﺮﻓﻲ ﻣﻨﻬﺠﻲ ﻣﻌﺎ ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﺮﺳﻞ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﺭﻧﺎﺕ ﺗﻐﺮﻱ ﺑﻬﺎ ﺃﻭﺟﻪ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻭﺍﺗﻔﺎﻕ ﻭﻳﺤﻤﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻏﻴﺎﺏ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺍﻷﻛﺎﺩﻳﻤﻲ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ ﻟﻠﺘﺼﺪﻱ ﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﻧﺔ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺔ ﻭﺍﻟﻤﻘﺒﻮﻟﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟﺮﺻﻴﻨﺔ ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻮﻥ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻳﺸﺘﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺿﻌﻒ ﻓﻴﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﻮﺩ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺧﺎﺻﺔ.
ﺍﻟﻘﺮﺍءﺓ ﺍﻟﻤﻐﺎﻳﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺘﻄﻠﻊ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻭﻟﺘﻨﺎ ﻫﺬﻩ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻢ ﺍﻟﻤﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﺃﻭ ﺗﻤﻬﺪ ﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ، ﺗﺪﻋﻲ ﺍﺟﺘﻨﺎﺏ ﺍﻟﻮﻗﻮﻉ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﺫﻳﺮ ﺍﻵﻓﺎﺕ ﺍﻟﺜﻼﺙ ﻛﻤﺎ ﺗﻤﺖ ﺍﻹﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻴﻬﺎ. ﻭﺍﻟﻈﻦ ﻣﻨﺎ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﻳﺒﺪﻭ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻣﻤﻜﻨﺎ ﻷﺳﺒﺎﺏ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺃﺧﺼﻬﺎ ﺍﻣﺘﻼﻛﻨﺎ ﺍﻟﺒﻌﺪ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﺍﻟﻜﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﺼﻠﻨﺎ ﻋﻦ ﻣﺤﺎﻭﻻﺕ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻴﻦ ﺍﻟﺮﻭﺍﺩ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻭﻋﺪﻡ ﺧﻀﻮﻋﻨﺎ ﻟﻠﺪﻭﺍﻓﻊ ﺍﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺄﺧﺬ ﺑﺮﺑﻘﺘﻬﻢ. ﻟﻨﻘﻞ ﺇﻧﻨﺎ ﻧﻤﺘﻠﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺲ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﺎﺡ ﻟﺴﺎﺑﻘﻴﻨﺎ ﻣﻤﻦ ﺃﺷﺮﻧﺎ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻴﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺧﺎﺻﺔ.ﻟﻨﻘﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﺇﻥ ﻗﺮﺍءﺗﻨﺎ ﺍﻟﻤﻐﺎﻳﺮﺓ ﻫﺬﻩ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺬﻛﻴﺮ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ ﺃﻭﻟﻴﺔ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻭﺑﺘﻜﻮﻳﻨﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ ﻭﻛﺬﺍ ﺑﻌﺼﺮﻩ: ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻫﻮ، ﺃﻭﻻ ﻭﺃﺳﺎﺳﺎ ﻓﻘﻴﻪ ﺃﺻﻮﻟﻲ ﻣﺸﺒﻊ ﺑﺎﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻭﻣﻤﺎﺭﺱ ﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻬﻬﺎ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺒﻴﻦ ﻋﻨﻪ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻓﻲ ﻓﺼﻮﻟﻬﺎ ﻭﺃﺑﻮﺍﺑﻬﺎ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻷﻏﻠﺐ ﺍﻷﻋﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻝ. ﻭﻫﻮ، ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺫﺍﺗﻪ، ﻣﺘﻜﻠﻢ ﺃﺷﻌﺮﻱ ﻳﻨﺘﺼﺮ ﻟﻤﺬﻫﺐ ﺍﻷﺷﺎﻋﺮﺓ ﻭﻳﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺑﺎﻧﺔ ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻪ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺘﺄﺭﻳﺦ ﻭﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ – ﻭ”ﻣﻘﺪﻣﺔ” ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻓﻲ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺻﻠﺔ ﻭﻭﺟﻪ.
ﻭﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ”ﺭﺟﻞ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻋﺸﺮ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻭﺿﻮﺡ ﺍﻟﺒﺼﻴﺮﺓ ﻭﺻﻔﺎء ﺍﻟﺴﺮﻳﺮﺓ ﺑﺤﻴﺚ ﺃﻧﻪ ﻛﺘﺐ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﺽ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻩ «ﺑﻠﻐﻨﺎ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻌﻬﺪ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺑﺒﻼﺩ ﺍﻹﻓﺮﻧﺠﺔ ﻣﻦ ﺃﺭﺽ ﺭﻭﻣﺔ ﻭﻣﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺪﻭﺓ ﺍﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻧﺎﻓﻘﺔ ﺍﻻﺳﻮﺍﻕ، ﻭﺃﻥ ﺭﺳﻮﻣﻬﺎ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺘﺠﺪﺩﺓ ﻭﻣﺠﺎﻟﺲ ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﺎ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻭﺩﻭﺍﻭﻳﻨﻬﺎ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻣﺘﻮﻓﺮﺓ، ﻭﻃﻠﺒﺘﻬﺎ ﻣﺘﻜﺜﺮﺓ ﻭﺍﷲ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﻫﻨﺎﻟﻚ ( ﻭﻫﻮ ﻳﺨﻠﻖ ﻣﺎ ﻳﺸﺎء ﻭﻳﺨﺘﺎﺭ».*1 ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﻣﻔﻜﺮﻧﺎ ﺍﻟﻔﺬ ﻣﺪﺭﻛﺎ ﺑﺤﺴﻪ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﺃﻥ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻔﻌﻠﻲ ﻗﺪ ﺑﺪﺃﺕ ﺍﻟﻌﺰﻑ ﻣﻦ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﻭﺍﻥ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺳﺘﺨﻀﻊ ﻓﻲ ﺗﻄﻮﺭﻫﺎ ﻟﻠﺴﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻳﻘﺪﺭ ﻗﻮﺗﻪ ﻭﻣﺪﺍﻩ.
ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﺍﻟﻘﺮﺍءﺓ ﺍﻟﻤﻐﺎﻳﺮﺓ ﺗﺘﻮﺧﻰ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﻘﻮﻱ ﻭﺍﻟﺤﺴﻢ ﻟﻠﻔﻘﻪ ﻭﻟﻠﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻄﻴﻘﻪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻭﻳﻘﺪﺭ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺿﺎﻓﺔ ﻭﺍﻻﺑﺘﻜﺎﺭ. ﺣﻀﻮﺭ ﻗﻮﻱ ﻟﻠﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻳﺤﺪﺩ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻓﻲ ﺩﻗﺔ ﻭﺃﻟﻤﻌﻴﺔ ﻳﺠﻌﻼﻥ ﻟﻠﻤﻔﻜﺮ ﺍﻟﻔﺬ ﺍﻟﻤﻜﺎﻧﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺮﻯ ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻪ ﺣﻘﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻨﺎﻝ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﻋﺒﻘﺮﻳﺘﻪ ﺑﻞ ﺇﻧﻪ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻳﺠﻠﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻜﺴﺐ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺍﻷﺻﺎﻟﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻭﻳﻠﻘﻲ ﻋﻠﻰ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻟﻨﻈﺮﻳﺘﻪ ﺃﺿﻮﺍء ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻛﺎﺷﻔﺔ.
1 – ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺃﻭﻟﻴﺔ: ﺍﻟﻤﺮﺟﻌﻴﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ
ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﺃﻣﻮﺭ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﺗﻐﺮﻱ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻭﺗﻤﺠﻴﺪ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺗﻘﺮﺏ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺠﻤﻬﺮﺓ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻴﻦ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻧﻘﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﺤﺼﺮﻩ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺗﻬﻢ. ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺇﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻨﻤﻄﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺭﺗﺴﻤﺖ ﻓﻲ ﺍﻷﺫﻫﺎﻥ ﻷﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻗﺪ ﻏﻴﺒﺖ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻤﺮﺟﻌﻴﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺍﻟﺼﺮﻑ ﺗﻀﻌﻒ ﻭﺗﺘﻼﺷﻰ ﺑﻞ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﺍﺧﺘﻔﺖ ﺑﺎﻟﺠﻤﻠﺔ ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻧﻬﺎ ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍﻷﺳﺎﺱ. ﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﺗﺒﻴﻦ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﻘﺮﺍءﺓ ﺍﻟﻤﺘﺄﻧﻴﺔ ﻟـ”ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ”ﻭﺗﻠﻚ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺃﻭﻟﻴﺔ ﻳﺠﺐ ﺍﻟﺘﺬﻛﻴﺮ ﺑﻬﺎ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻧﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻨﺒﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻷﻭﻝ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻭﻗﻔﺎﺕ ﻭﺗﻨﺒﻴﻬﺎﺕ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ.
1 – ﻳﻜﺘﺐ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” (ﻓﺼﻞ ﻓﻲ ﺃﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺒﺪﻭ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻀﺮ): «ﻭﺳﺒﺒﻪ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﻬﻴﺌﺔ ﻟﻘﺒﻮﻝ ﻣﺎ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻳﻨﻄﺒﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻴﺮ ﺃﻭ ﺷﺮ. ﻗﺎﻝ (ص) ﻛﻞ ﻣﻮﻟﻮﺩ ﻳﻮﻟﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ، ﻓﺄﺑﻮﺍﻩ ﻳﻬﻮﺩﺍﻧﻪ ﺃﻭ ﻳﻨﺼﺮﺍﻧﻪ ﺃﻭ ﻳﻤﺠﺴﺎﻧﻪ. ﻭﺑﻘﺪﺭ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﺨﻠﻘﻴﻦ ﺗﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﺍﻵﺧﺮ ( ﻭﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻛﺘﺴﺎﺑﻪ»*2 . ﻓﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪ ﻓﻲ ﺗﺒﺮﻳﺮ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﺴﺮ ﺩﻭﺭﺓ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﺍﻭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ. ﻭﻧﻘﺮﺃ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺫﺍﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ 15 (ﻓﺼﻞ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤﺴﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﺐ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺁﺑﺎء):«ﻭﺍﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺍﻷﺟﻴﺎﻝ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ: ﺑﺎﻥ، ﻭﻣﺒﺎﺷﺮ، ﻭﻣﻘﻠﺪ، ﻭﻫﺎﺩﻡ (…) ﻭﻗﺪ ﺍﻋﺘﺒﺮﺕ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤﺴﺐ ﻓﻲ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻤﺪﺡ ﻭﺍﻟﺜﻨﺎء. ﻗﺎﻝ (ص): ﺇﻧﻤﺎ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺍﺑﻦ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺍﺑﻦ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺍﺑﻦ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻳﻌﻘﻮﺏ ﺑﻦ ﺇﺳﺤﻖ ﺑﻦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ، ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻪ ( ﺑﻠﻎ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﺪ» . ﻟﻠﺪﻭﻟﺔ ﺃﻋﻤﺎﺭ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﻟﻠﺒﺸﺮ ﺃﻋﻤﺎﺭﺍ ﻃﺒﻴﻌﻴﺎ، ﻫﺬﺍ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﻣﻄﺮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﺳﻨﺔ، ﻭﻣﺎ ﺯﺍﺩ ﻓﻲ ﻋﻤﺮ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻋﻦ ﺍﻷﺟﻴﺎﻝ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻓﺎﻣﺘﻴﺎﺯ ﻭﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻨﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﻛﻠﻪ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻘﻴﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺆﺩﺩ ﻭﻋﻠﻮ ﺍﻟﺤﺴﺐ ﻫﻮ ﻛﻼﻡ ﺍﻟﻤﺼﻄﻔﻰ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺇﻥ ﻧﺒﻲ ﺍﷲ ﻳﻮﺳﻒ ﻗﺪ ﺃﻓﺮﺩ ﺑﻤﻴﺰﺓ ﺍﺗﺼﺎﻝ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻴﻪ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺁﺑﺎء ﻭﺃﺟﺪﺍﺩ.
2 – ﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻤﺤﺮﻙ ﻟﻠﺘﺎﺭﻳﺦ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﻠﻮﻡ، ﻭﺍﻟﻔﺼﻮﻝ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺨﺼﺼﻬﺎ ﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻭﺍﺿﺤﺔ ﻓﻼ ﺗﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﺰﻳﺪ ﺑﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺔ، ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻷﻣﺮ، ﻋﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﺪﺍﻝ ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﺑﻴﺪ ﺃﻥ ﺃﻣﺮﺍ ﻫﺎﻣﺎ ﻳﺴﺘﺮﻋﻲ ﺍﻻﻧﺘﺒﺎﻩ ﻭﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻨﺪﻩ: ﺇﻥ ﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺔ، ﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ ﻗﻮﺗﻬﺎ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻭﻣﻦ ﻣﺤﻮﺭﻳﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻭﻓﻲ ﻧﺸﻮء ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺍﻧﺪﺛﺎﺭﻫﺎ، ﻭﻣﻬﻤﺎ ﺗﻜﻦ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻭﻓﻲ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺳﻮﺍء ﺑﺴﻮﺍء ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﺧﻠﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻭﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻓﻲ ﻏﻴﺎﺏ ﺍﻟﻤﺪﺩ ﺍﻹﻟﻬﻲ. «ﺍﻟﻤﻠﻚ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺤﺼﻞ ﺑﺎﻟﺘﻐﻠﺐ، ﻭﺍﻟﺘﻐﻠﺐ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﺎﻟﻌﺼﺒﻴﺔ ﻭﺍﺗﻔﺎﻕ ﺍﻷﻫﻮﺍء ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺒﺔ، ﻭﺟﻤﻊ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭﺗﺄﻟﻴﻔﻬﺎ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻤﻌﻮﻧﺔ ﻣﻦ ﺍﷲ ﻓﻲ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﺩﻳﻨﻪ. ﻗﺎﻝ ( ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻟﻮ ﺃﻧﻔﻘﺖ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ ﺟﻤﻴﻌﺎ ﻣﺎ ﺃﻟﻔﺖ ﺑﻴﻦ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ».
3 – ﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺔ، ﺷﺄﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺷﺄﻥ ﺍﻷﻃﻮﺍﺭ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺮ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺷﺄﻥ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﺍﻭﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﻭﺗﺴﺮﺏ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻤﺎﻟﻚ ﻭﺷﺄﻥ ﻛﻞ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ، ﻻ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﺬﺍﺗﻬﺎ ﺑﻤﻮﺟﺐ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻭﺣﺪﻫﺎ ﺑﻞ ﻻﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻮﻧﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺭﺃﻳﻨﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻭﺭﺩﻧﺎﻩ ﺃﻋﻼﻩ، ﻭﻻﺑﺪ ﻣﻦ ﺣﺼﻮﻝ ﺍﻟﻠﻄﻒ ﺍﻹﻟﻬﻲ. ﻳﻘﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ «ﻓﺎﻟﻌﺼﻮﺭ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺑﺎﺧﺘﻼﻑ ﻣﺎ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻭﺍﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﻭﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺎﺕ، ﻭﺗﺨﺘﻠﻒ ﺑﺎﺧﺘﻼﻑ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ، ﻭﻟﻜﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﻜﻢ ﻳﺨﺼﻪ ﻟﻄﻔﺎ ( ﻣﻦ ﺍﷲ ﺑﻌﺒﺎﺩﻩ».
4 – ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻠﻄﻒ ﺍﻹﻟﻬﻲ، ﻓﻲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻭﻓﻲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﻌﺘﺰﻟﺔ ﺗﺴﻠﻤﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺸﻌﺮﻳﺔ ﻭﺣﻀﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻘﻮﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺴﻢ ﺍﻷﻣﺮ ﺣﻴﻦ ﺍﻟﺘﺮﺩﺩ ﻭﺗﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻭﺍﻟﻘﻮﻝ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻭﺍﻟﻜﻠﻴﺎﺕ، ﺃﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﺎﺩ ﺍﻟﻨﻈﺮﻱ ﻟﻠﻔﻜﺮ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻲ ﺑﺮﻣﺘﻪ. ﺃﺷﻌﺮﻳﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻗﻮﻳﺔ ﻭﺍﺿﺤﺔ ﻻ ﺗﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻛﺒﻴﺮ ﺍﺟﺘﻬﺎﺩ ﻟﺘﺒﻴﻨﻬﺎ ﻓﻬﻲ ﻣﺎ ﻳﻐﻠﻒ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﺑﺮﻣﺘﻬﺎ ﻭﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪ ﺍﻟﻤﺮﺟﻌﻴﺔ ﺍﻻﺳﻼﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻲ. ﻭﻣﺜﻠﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﻋﻨﺪ ﺯﻋﻴﻢ ﺍﻷﺷﻌﺮﻳﺔ ﺍﻷﻛﺒﺮ ﺃﺑﻮ ﺣﺎﻣﺪ ﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻭﺍﻋﺘﻤﺎﺩﻫﺎ ﺑﺪﻳﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺼﺎﺩﻑ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﺫﺍﺗﻪ ﻋﻨﺪ ﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ”. ﻧﻘﺮﺃ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺼﺼﻪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻜﻼﻡ:«ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ، ﺳﻮﺍء ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻭﺍﺕ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﻴﺔ، ﻓﻼ ﺑﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻬﺎ ﺗﻘﻊ ﻓﻲ ﻣﺴﺘﻘﺮ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻭﻋﻨﻬﺎ ﻳﺘﻢ ﻛﻮﻧﻬﺎ. ﻭﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﺣﺎﺩﺙ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻼ ﺑﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺃﺧﺮ، ﻭﻻ ﺗﺰﺍﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻣﺮﺗﻘﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺒﺐ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻭﻣﻮﺟﺪﻫﺎ ﻭﺧﺎﻟﻘﻬﺎ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ. ﻭﺗﻠﻚ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻓﻲ ﺍﺭﺗﻘﺎﺋﻬﺎ ﺗﺘﻔﺴﺢ ﻭﺗﺘﻀﺎﻋﻒ ﻃﻮﻳﻼ ﻭﻋﺮﺿﺎ ﻭﻳﺤﺎﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻲ
( ﺇﺩﺭﺍﻛﻬﺎ».
ﺗﺘﺼﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ ﺍﺭﺗﺒﺎﻃﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺳﺒﺒﺎ ﻟﺒﻌﺾ ﺍﻵﺧﺮ ﻭﻳﺠﻌﻞ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺍﻵﺧﺮ، ﺑﺎﻟﻤﻘﺎﺑﻞ، ﻣﺴﺒﺒﺎ (ﻓﺘﺢ ﺍﻟﺒﺎء ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻭﺗﺸﺪﻳﺪﻫﺎ). ﻭﻣﺘﻰ ﺃﻣﻌﻦ ﺍﻟﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺟﻌﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻳﺮﺗﻘﻲ ﻓﻲ ﺳﻠﻢ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﻙ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺘﻬﻲ، ﻭﺟﻮﺑﺎ، ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻞ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻭﻻ ﺑﺎﻟﻀﺮﻭﺭﺓ: ﺫﻟﻚ ﻫﻮ «ﻣﺴﺒﺐ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻭﻣﻮﺟﺪﻫﺎ ﻭﺧﺎﻟﻘﻬﺎ» ﻓﺎﷲ ﻳﺴﺒﺐ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻭﻳﺨﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﺪﻡ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ. ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻔﻌﻞ، ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻳﻘﺪﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺷﻴﺌﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺴﺒﺒﺎ (= ﻧﺘﻴﺠﺔ) ﻭﺃﻥ ﺁﺧﺮ ﻳﻜﻮﻥ ﺳﺒﺒﺎ (= ﻋﻠﺔ)، ﻓﺈﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻷﻣﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻮ ﺍﷲ ﻓﻬﻮ ﻋﻠﺔ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺃﻭ ﻫﻮ ﺳﺒﺐ ﺍﻟﺴﺒﺎﺏ. ﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﺑﻜﻴﻔﻴﺎﺕ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺗﺄﺗﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ
ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺩﻋﻤﻪ ﻭﺗﻮﺿﻴﺤﻪ.
ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﺄﻥ ﺍﷲ ﻗﺪ ﺃﺟﺮﻯ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻘﺮ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻗﻮﻝ ﻳﻌﻨﻲ، ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺃﻭﻟﻰ، ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻫﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻜﺮﺍﺭ ﻭﺍﻻﻃﺮﺍﺩ ﺑﺤﻴﺚ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﺼﺒﺢ ﻣﺴﺘﻘﺮﺓ ﺃﻭ ﻗﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﺼﺒﺢ ﺃﻣﺮﺍ ﻧﺄﻟﻔﻪ ﻭﻧﺘﻌﻮﺩ ﻋﻠﻴﻪ. ﻗﻮﻟﻨﺎ ﺇﻧﻪ ﻋﺎﺩﺓ ﻗﻮﻝ ﻳﻌﻨﻲ، ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻷﻣﺮ، ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺜﻴﺮ ﺩﻫﺸﺔ ﻭﻻ ﺍﺳﺘﻐﺮﺍﺑﺎ. ﺑﻴﺪ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻳﻌﻨﻲ، ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﺃﻥ ﻣﺴﺘﻘﺮ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻻ ﻳﺪﻕ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﻬﻢ، ﺑﻞ ﺇﻧﻪ ﻳﻘﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻌﺮﻭﻓﺎ ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻪ ﻳﻨﺘﻈﻢ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻌﻪ ﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ. ﻭﻟﻮ ﺃﻧﺎ ﺃﺭﺩﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﺠﺪ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﺗﻌﺒﻴﺮﺍ ﺁﺧﺮ ﻟﻘﻠﻨﺎ: «ﺇﻧﻬﺎ ﺍﻟﺴﻨﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺟﺮﺍﻫﺎ ﺍﷲ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ».
ﻣﺘﻰ ﺃﺩﺭﻛﻨﺎ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﻓﻨﺤﻦ ﻧﻤﻠﻚ ﺃﻥ ﻧﻘﻊ ﻋﻠﻰ “ﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻷﺷﻴﺎء” (ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ) ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﺟﺘﺮﺍء ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺸﻴﺌﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺃﻭ ﻧﻴﻞ ﻣﻦ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﷲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺼﻒ ﺑﺈﻃﻼﻕ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪﻫﺎ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ. ﺗﺘﻀﺢ ﺍﻟﻤﺮﺟﻌﻴﺔ ﺍﻻﺳﻼﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﺑﺎﻟﻘﺪﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺘﻮﺿﺢ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﺍﻷﺷﻌﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻤﻬﺎ ﻭﺗﻬﺒﻬﺎ ﺗﻤﺎﺳﻜﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ.
2 – ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻭﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺭﻳﺦ
ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺣﻀﻮﺭ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻭﻛﺬﺍ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻟﻠﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺭﻳﺦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺃﻭﻟﻴﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﻣﻦ ﺟﻨﺲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ: ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻘﻴﻪ ﻳﻘﺮﺃ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﻋﺎﻟﻢ ﺃﺻﻮﻟﻲ ﻳﺴﺨﺮ ﺯﺍﺩﻩ ﺍﻷﺻﻮﻟﻲ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍء ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻭﺍﻟﻤﻮﺟﻬﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﺳﻴﺮ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻭﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺇﻛﺴﺎﺑﻪ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻨﻰ. ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻷﻭﻟﻴﺔ ﻭﺗﺒﻴﻦ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﻌﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺑﺎﻧﺔ ﻋﻨﻪ.
ﻳﻘﻮﻝ ﺃﺑﻮ ﺇﺳﺤﻖ ﺍﻟﺸﺎﻃﺒﻲ ﻓﻲ “ﺍﻟﻤﻮﺍﻓﻘﺎﺕ”:«ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺗﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺣﻔﻆ ﻣﻘﺎﺻﺪﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻖ. ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺎﺻﺪ ﻻ ﺗﻌﺪﻭ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻗﺴﺎﻡ: ﺃﺣﺪﻫﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ، ( ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺣﺎﺟﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺗﺤﺴﻴﻨﻴﺔ».
ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻮﻫﺎﺏ ﺧﻼﻑ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻮﺍﻋﺪ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ
ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻴﺔ ﻭﺗﺮﺗﻴﺒﻬﺎ «ﻭﻻ ﻳﺮﺍﻋﻰ ﺗﺤﺴﻴﻨﻲ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻋﺎﺗﻪ ﺇﺧﻼﻝ ﺑﺤﺎﺟﻲ، ﻭﻻ ﻳﺮﺍﻋﻰ ﺣﺎﺟﻲ ﻭﻻ ﺗﺤﺴﻴﻨﻲ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻋﺎﺓ ( ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺇﺧﻼﻝ ﺑﻀﺮﻭﺭﻱ». ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﻭﺗﺒﻴﻴﻦ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻧﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﻣﻘﺎﺻﺪ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺗﺨﻀﻊ، ﻭﺟﻮﺑﺎ، ﻟﺘﺮﺗﻴﺐ ﻻ ﻳﻘﺒﻞ ﺍﻹﺧﻼﻝ ﺑﻪ.
ﻭﻧﻘﺮﺃ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ، ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺍﻷﻭﻝ «ﻓﻲ ﺃﻥ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻻﻧﺴﺎﻧﻲ ﺿﺮﻭﺭﻱ، ﻭﻳﻌﺒﺮ ﺍﻟﺤﻜﻤﺎء ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﺑﻘﻮﻟﻬﻢ: ﺍﻻﻧﺴﺎﻥ ﻣﺪﻧﻲ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ، ﺃﻱ ﻻﺑﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﺻﻄﻼﺣﻬﻢ، ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻨﻰ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ». ﻭﻧﻘﺮﺃ ﻓﻲ ﺗﻌﻠﻴﻠﻪ ﻟﻠﺘﺮﺗﻴﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﺳﻠﻜﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺍﻷﻭﻝ (ﻓﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻴﻘﺔ) «ﻭﺃﻣﺎ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﻤﻌﺎﺵ، ﻓﻸﻥ ﺍﻟﻤﻌﺎﺵ ﺿﺮﻭﺭﻱ ﻃﺒﻴﻌﻲ ( ﻭﺗﻌﻠﻢ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻛﻤﺎﻟﻲ ﺃﻭ ﺣﺎﺟﻲ». ﻭﻧﻘﺮﺃ ﻓﻲ ﺷﺮﺣﻪ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﺍﻟﺒﺪﻭﻱ ﻭﻟﻤﺎﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻀﺮﻱ «ﻭﻻ ﺷﻚ ﺃﻥ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ ﺃﻗﺪﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺎﺟﻲ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻟﻲ ﻭﺳﺎﺑﻖ ﻋﻠﻴﻪ، ﻷﻥ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ ﺃﺻﻞ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻟﻲ ﻓﺮﻉ ﻧﺎﺷﺊ ﻣﻨﻪ. ﻓﺎﻟﺒﺪﻭ ﺃﺻﻞ ﻟﻠﻤﺪﻥ ﻭﺍﻟﺤﻀﺮ ﻭﺳﺎﺑﻖ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ، ﻷﻥ ﺃﻭﻝ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ، ﻭﻻ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﺘﺮﻑ ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ ﺣﺎﺻﻼً». ﻭﻓﻲ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﺗﻌﺪﻳﺪ ﺍﻷﻣﺜﻠﺔ ﻭﺗﻨﻮﻳﻌﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﺗﺼﺪﻕ ﻓﻲ ﺣﻖ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻷﺟﻴﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺮ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﻨﻤﻂ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ، ﻭﻓﻲ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﺍﺳﺘﻴﻔﺎء ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺗﺴﺮﺏ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻹﺳﺮﺍﻑ ﻓﻲ ﺍﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﺎﻟﻤﺎﻟﻲ ﻭﺍﻟﺘﺤﺴﻴﻨﻲ، ﻓﺎﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺮﻭﻡ ﺍﻟﻮﺻﻮﻝ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ” ﻗﺪ ﺃﺷﺮﺏ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﺍﻷﺻﻮﻟﻲ ﻭﺗﺸﺒﻊ ﺑﻤﻘﺪﻣﺎﺗﻪ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺸﺒﻊ ﺑﻠﻐﺘﻪ ﻭﻣﺼﻄﻠﺤﻪ.
ﻳﻌﻴﺐ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺆﺭﺧﻴﻦ ﻭﻗﻮﻋﻬﻢ ﻓﻲ ﺃﺧﻄﺎء ﺷﻨﻴﻌﺔ، ﻳﻌﺪﺩ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻣﻨﻬﺎ، ﻭﻳﺘﺴﺎءﻝ، ﺿﻤﻨﻴﺎ، ﻋﻦ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﻗﻊ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺧﻄﺎء ﻓﻴﻜﺘﺐ«ﺇﻥ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﺇﺫﺍ ﺍﻋﺘﻤﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺠﺮﺩ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﻭﻟﻢ ﺗﺤﻜﻢ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ (…) ﻭﻻ ﻗﻴﺲ ﺍﻟﻐﺎﺋﺐ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﺸﺎﻫﺪ (…) ﻭﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﺎ ﻭﻗﻊ ﻟﻠﻤﺆﺭﺧﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﻔﺴﺮﻳﻦ ﻭﺃﺋﻤﺔ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﺍﻟﻤﻐﺎﻟﻂ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﺎﻳﺎﺕ ﻭﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ، ﻻﻋﺘﻤﺎﺩﻫﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺠﺮﺩ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﻏﺜﺎ ﺃﻭ ﺳﻤﻴﻨﺎ، ﻟﻢ ﻳﻌﺮﺿﻮﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﺻﻮﻟﻬﺎ، ﻭﻻ ﻗﺎﺳﻮﻫﺎ ﺑﺄﺷﺒﺎﻫﻬﺎ ﻭﻻ ﺳﺒﺮﻭﻫﺎ ﺑﻤﻌﻴﺎﺭ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ».
ﻧﺤﻦ ﻫﻨﺎ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺃﺑﻬﻰ ﺻﻮﺭﻫﺎ، ﺃﻣﺎﻡ ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻟﻘﻴﺎﺱ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﻘﻠﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺟﻮﻑ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ﻭﺍﺳﺘﺨﻼﺹ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻷﺧﺬ ﺑﻬﺎ: ﻗﻴﺎﺱ ﺍﻟﻐﺎﺋﺐ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺎﻫﺪ، ﻗﻴﺎﺱ ﺍﻷﺷﺒﺎﻩ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﺋﺮ، ﻗﻴﺎﺱ ﺍﻟﻔﺮﻭﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﻟﺠﺎﻣﻊ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻌﻠﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﻋﻠﻤﺎء ﺍﻷﺻﻮﻝ. ﻻ، ﺑﻞ ﻧﺤﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺗﻔﺼﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﺃﻭ ﻗﻞ ﺃﻣﺎﻡ ﺧﻄﻮﺓ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻣﻼﺯﻣﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎﺱ ﺍﻷﺻﻮﻟﻲ. ﻧﺤﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺘﻘﺴﻴﻢ ﻭﺍﻟﺴﺒﺮ: ﺗﻘﺴﻴﻢ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻷﺟﺰﺍء، ﺛﻢ ﺳﺒﺮ ﻛﻞ ﺟﺰء ﻋﻠﻰ ﺣﺪﺓ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ. ﺍﻟﺴﺒﺮ ﺑﻤﻌﻴﺎﺭ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ، ﺇﻋﻤﺎﻝ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﺍﻟﻔﻘﻬﻲ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺤﻜﻤﻲ ﻭﻃﻠﺐ ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻈﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ.
ﻣﺜﺎﻝ ﺁﺧﺮ ﻭﺃﺧﻴﺮ ﻧﺴﻮﻗﻪ ﺩﻟﻴﻼ ﻋﻠﻰ ﺣﻀﻮﺭ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻭﻓﻲ ﺗﺸﺒﻌﻪ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﻭﺑﺄﺩﺍﺗﻬﺎ ﺍﺻﻄﻼﺣﻴﺔ: ﺣﺪﻳﺚ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻋﻦ ﺷﺮﻁ ﺍﻟﻘﺮﺷﻴﺔ، ﻓﻲ ﻣﻌﺮﺽ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻹﻣﺎﻣﺔ: «ﻓﺈﺫﺍ ﺛﺒﺖ ﺃﻥ ﺍﺷﺘﺮﺍﻁ ﺍﻟﻘﺮﺷﻴﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻟﺪﻓﻊ ﺍﻟﺘﻨﺎﺯﻉ ﺑﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﻐﻠﺐ، ﻭﻋﻠﻤﻨﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﻻ ﻳﺨﺺ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺑﺠﻴﻞ ﻭﻻ ﻋﺼﺮ ﻭﻻ ﺃﻣﺔ، ﻋﻠﻤﻨﺎ ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﻫﻮ ﻣﻦ ( ﺍﻟﻜﻔﺎﻳﺔ ﻓﺮﺩﺩﻧﺎﻩ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﻃﺮﺩﻧﺎ ﺍﻟﻌﻠﺔ ﺍﻟﻤﺸﺘﻤﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ».
ﻫﻞ ﻧﺤﻦ ﻓﻲ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺙ ﻓﻘﻴﻪ ﺃﺻﻮﻟﻲ ﻣﻨﻬﻤﻚ ﻓﻲ ﻣﻤﺎﺭﺳﺘﻪ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ؟ ﺃﻟﻴﺲ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﻌﻠﺔ، ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ، ﻭﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﺘﻄﺮﻳﺪﻫﺎ (= ﺟﻌﻠﻬﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻄﺮﺩﺓ) ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺁﺧﺮ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺻﻤﻴﻢ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺘﺮﺟﻴﺢ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺃﻟﺴﻨﺎ ﻓﻲ ﺟﻮﻑ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻣﻊ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺍﻟﻨﺎﻇﺮ ﻓﻲ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻭﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻭﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﻭﺃﻃﻮﺍﺭﻫﺎ؟
3 – ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ: ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ
ﻋﻨﺪ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻭﻋﻲ ﺗﺎﻡ، ﺑﻞ ﻭﻋﻲ ﺣﺎﺩ، ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻨﺸﺊ ﻋﻠﻤﺎ ﺟﺪﻳﺪﺍ. ﺟﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ، ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﺴﺒﻖ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﺟﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ. ﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﻧﻔﻴﺪﻩ ﻣﻦ ﻗﺮﺍءﺓ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ:
«ﻭﻛﺄﻥ ﻫﺬﺍ ﻋﻠﻢ ﻣﺴﺘﻘﻞ ﺑﻨﻔﺴﻪ: ﻓﺈﻧﻪ ﺫﻭ ﻣﻮﺿﻮﻉ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، ﻭﺫﻭ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻭﻫﻲ ﺑﻴﺎﻥ ﻣﺎ ﻳﻠﺤﻘﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻮﺍﺭﺽ ﻭﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻟﺬﺍﺗﻪ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺑﻌﺪ ﺃﺧﺮﻯ (…) ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻐﺮﺽ ﻣﺴﺘﺤﺪﺙ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ، ﻏﺮﻳﺐ ﺍﻟﻨﺰﻋﺔ، ﻏﺰﻳﺮ ﺍﻟﻔﺎﺋﺪﺓ، ﺃﻋﺜﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻭﺃﺩﻯ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﻐﻮﺹ. ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺔ (…) ﻭﻻ ﻫﻮ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ (…) ﺣﻮﻡ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺍﻟﻄﺮﻃﻮﺷﻲ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ “ﺳﺮﺍﺝ ﺍﻟﻤﻠﻮﻙ” ﻭﺑﻮﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺑﻮﺍﺏ ﺗﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺃﺑﻮﺍﺏ ﻛﺘﺎﺑﻨﺎ ﻫﺬﺍ ﻭﻣﺴﺎﺋﻠﻪ، ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺼﺎﺩﻑ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺮﻣﻴﺔ ﻭﻻ ﺃﺻﺎﺏ ﺍﻟﺸﺎﻛﻠﺔ. ﻭﻧﺤﻦ ﺃﻟﻬﻤﻨﺎ ﺍﷲ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻬﺎﻣﺎ ( ﻭﺃﻋﺜﺮﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﺟﻌﻠﻨﺎ ﺳﻦ ﺑﻜﺮﻩ ﻭﺟﻬﻴﻨﺔ ﺧﺒﺮﻩ».
ﻻ ﻧﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻭﻣﻘﺘﻀﻴﺎﺗﻪ، ﻓﻘﺪ ﺃﺷﺒﻊ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻮﻥ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ، ﻭﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺑﻨﺎﺅﻩ، ﺃﻱ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺳﻨﺪﻩ ﺍﻻﺑﻴﺴﺘﻴﻤﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲ. ﻟﻨﺴﺎﺋﻞ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺑﻠﻐﺘﻪ، ﺃﻱ ﺑﺎﻟﻤﻨﻄﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺇﺣﺼﺎء ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻔﺎﺭﺍﺑﻲ ﻭﻓﻼﺳﻔﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ: ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻋﻠﻤﺎﻥ، ﻋﻘﻠﻲ ﻭﻧﻘﻠﻲ ﻓﺈﻟﻰ ﺃﻱ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ؟
ﻟﻨﺘﺬﻛﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ، ﻫﻮ «ﺧﺒﺮ ﻋﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻻﻧﺴﺎﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻋﻤﺮﺍﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﻣﺎ ﻳﻌﺮﺽ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ» ﻭﺇﺫﻥ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺘﺴﺎﺅﻝ ﻋﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﺎﺭﻳﺦ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻳﺼﺪﻕ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻤﺎ ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺪﻣﻪ ﺻﺎﺣﺐ “ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ”؟
ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﻦ ﻣﻌﺎ: ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ ﻭﺍﻟﻨﻘﻠﻲ. ﻫﻮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﺑﻞ ﺇﻥ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﺼﺮﺡ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻨﺴﺒﺔ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﻔﻘﺮﺓ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ، ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺤﻤﺪﻟﺔ ﻭﺍﻟﺘﺼﻠﻴﺔ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻓﻴﻘﻮﻝ «ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻓﺈﻥ ﻓﻦ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻨﻮﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺪﺍﻭﻟﻬﺎ ﺍﻷﻣﻢ ﻭﺍﻷﺟﻴﺎﻝ (…) ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮﻩ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻠﻰ ﺇﺧﺒﺎﺭ ﻋﻦ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﻭﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺍﻟﺴﻮﺍﺑﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻭﻥ ﺍﻷﻭﻝ (…) ﻭﻓﻲ ﺑﺎﻃﻨﻪ ﻧﻈﺮ ﻭﺗﺤﻘﻴﻖ ﻭﺗﻌﻠﻴﻞ (…) ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﺃﺻﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻋﺮﻳﻖ ﻭﺟﺪﻳﺮ ﺑﺄﻥ ﻳﻌﺪ ( ﻓﻲ ﻋﻠﻤﻬﺎ» ﻭﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺤﻜﻤﻴﺔ، ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ، ﻫﻲ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ. ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻳﻨﺘﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻴﻦ:ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻋﺘﻤﺎﺩﻩ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﺳﺒﻴﻼ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ
ﺍﻟﺤﺎﺻﻠﺔ ﻭﻫﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻇﻨﻴﺔ، ﻭﻛﻼ ﺍﻟﺠﻬﺘﻴﻦ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﻣﻨﺎ ﻭﻗﻔﺔ ﻗﺼﻴﺮﺓ ﻧﻌﺮﺝ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻠﺔ ﺗﻨﺒﻴﻬﺎﺕ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ. ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻛﻤﺎ ﻭﻗﻔﻨﺎ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺃﻋﻼﻩ، ﺧﺒﺮ ﻋﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. ﻭﺍﻟﺨﺒﺮ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺼﺪﻕ ﻭﺍﻟﻜﺬﺏ، ﺑﻞ ﺇﻥ ﺍﻟﻜﺬﺏ ﻳﺘﺴﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻟﻴﻐﺪﻭ ﺍﻷﻛﺜﺮ ﺍﺣﺘﻤﺎﻻ ﻭﻟﻴﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺘﺼﺪﻳﻖ ﺍﻟﺘﺪﻗﻴﻖ ﻭﺍﻟﺘﻤﺤﻴﺺ. ﺍﻟﺘﺪﻗﻴﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺍﺓ، ﻭﺍﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ﻓﻲ ﻋﺪﺍﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﺑﻐﻴﺔ ﺍﻟﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺳﻼﻣﺔ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻭﺻﺪﻕ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ. ﻭﻋﻠﻤﺎء ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻗﺪ ﺍﺑﺘﺪﻋﻮﺍ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﻠﻮﻡ، ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺎﺕ ﺑﻬﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﺧﺘﺒﺎﺭ ﻛﺬﺏ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ، ﻋﻤﺪﺍ ﺃﻭ ﺧﻄﺌﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﻏﻔﻠﺔ ﺃﻭ ﻧﺴﻴﺎﻥ ﺃﻭ ﻋﺪﻡ ﺗﺪﻗﻴﻖ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻨﻘﻞ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﻣﺼﺪﻗﺎ ﻣﻮﺍﻓﻘﺎ ﺩﻭﻥ ﻛﺒﻴﺮ ﻧﻘﺪ ﻭﻓﺤﺺ. ﻣﺠﻤﻮﻉ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺎﺕ ﻫﻲ «ﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ ﻭﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ»، ﻓﻲ ﻋﺪﺍﻟﺔ ﺍﻟﺮﺍﻭﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ، ﻓﻲ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ، «ﻣﺨﺒﺮ». ﻭﻣﻦ ﺭﻭﺍﺓ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ ﻭﻣﻦ ﺗﻘﻨﻴﺎﺕ ﻋﻠﻤﺎء ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﺼﺮﺣﺎ ﻭﺗﻠﻚ ﺳﻤﺔ ﺍﺗﺼﻒ ﺑﻬﺎ ﻛﻞ ﻋﻠﻤﺎء ﺍﻟﻤﻠﺔ ﻓﻬﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺍﻟﺸﺮﻋﻲ
ﻭﺟﺰء ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻭﻣﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻣﻜﻮﻧﺎﺕ «ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﻳﺔ» ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﻋﻠﻤﺎء ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺍﻷﺛﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.
ﻳﻘﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻜﻴﻔﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺘﺤﺮﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ (=ﺍﻟﺨﺒﺮ) «ﻭﺗﺼﺤﻴﺤﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ ﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ، ﻭﻫﻮ ﺃﺣﺴﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﻭﺃﻭﺛﻘﻬﺎ ﻓﻲ ﺗﻤﺤﻴﺺ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﻭﺗﻤﻴﻴﺰ ﺻﺪﻗﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﺬﺑﻬﺎ، ﻭﻫﻮ ﺳﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ﺑﺘﻌﺪﻳﻞ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ، ﻭﻻ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺗﻌﺪﻳﻞ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﺣﺘﻰ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻤﻜﻦ ﺃﻭ ﻣﻤﺘﻨﻊ، ﻭﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ ﻓﻼ ﻓﺎﺋﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻭﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ». ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻘﻴﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ، ﻛﻤﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻭﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﺪﺩ ﻣﺼﺮﺡ ﻻ ﻣﻀﻤﻦ ﻟﻠﻘﻮﻝ، ﺍﻟﺨﺒﺮ ﺍﻟﺸﺮﻋﻲ، ﺃﻱ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﻤﻨﻘﻮﻝ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ «ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻭﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﺘﺒﺮ ﻓﻲ ﺻﺤﺔ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ، ﻷﻥ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺇﻧﺸﺎﺋﻴﺔ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ». ﻳﻨﺘﺴﺐ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ(=ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ) ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻬﺔ، ﻛﻤﺎ ﺭﺃﻳﻨﺎ، ﺟﻬﺔ ﺍﻋﺘﻤﺎﺩ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻭﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﺗﻘﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻭﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ.
ﻭﻳﻨﺘﺴﺐ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ (ﺃﻭ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ، ﻓﺎﻟﻤﻌﻨﻰ ﻭﺍﺣﺪ)ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺼﻞ ﻣﻦ ﺧﺒﺮ ﺍﻟﻤﺨﺒﺮﻳﻦ ﺃﻭ ﺭﻭﺍﻳﺔ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻭﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻫﺬﻩ ﻫﻲ “ﻏﻠﺒﺔ ﺍﻟﻈﻦ”. ﻧﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﻨﺎ ﻧﺴﺘﺸﻬﺪ ﺑﻪ ﻗﺒﻞ ﻗﻠﻴﻞ ﻓﻨﻘﺮﺃ ﻣﺴﺘﺮﺳﻠﻴﻦ:
«ﺍﻟﻤﻌﺘﺒﺮ ﻓﻲ ﺻﺤﺔ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ، ﻷﻥ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺇﻧﺸﺎﺋﻴﺔ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻣﺘﻰ ﺣﺼﻞ ﺍﻟﻈﻦ ﺑﺼﺪﻗﻬﺎ، ( ﻭﺳﺒﻴﻞ ﺻﺤﺔ ﺍﻟﻈﻦ ﺍﻟﺜﻘﺔ ﺑﺎﻟﺮﻭﺍﺓ ﺑﺎﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﻭﺍﻟﻀﺒﻂ». ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺘﺬﻛﺮ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﺄﻥ ﻏﻠﺒﺔ ﺍﻟﻈﻦ ﺃﻭ “ﺻﺤﺔ ﺍﻟﻈﻦ” ﻫﻲ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻼﺯﻡ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻔﻘﻬﻴﺔ ﻓﺎﻟﻔﻘﻴﻪ، ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻥ ﻳﺮﺟﺢ ﺭﺃﻳﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﻱ ﺃﻭ ﻧﻈﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﻧﻈﺮ ﺁﺧﺮ، ﻳﺤﻜﻢ ﺑﺄﻏﻠﺐ ﺍﻟﻈﻦ. ﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﻋﻤﻞ ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ ﻫﻮ ﺩﻭﻣﺎ ﻋﻤﻞ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺋﻲ ﻭﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍء، ﺃﻳﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺠﻬﺪ ﺍﻟﻤﺒﺬﻭﻝ، ﻳﻈﻞ ﺩﻭﻣﺎ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍء ﻧﺎﻗﺼﺎ. ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻔﻘﻬﻴﺔ ﻗﻄﻌﻴﺔ ﺇﻻ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻴﺎﺕ ﻓﺤﺴﺐ، ﺃﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩﻳﺔ ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﻤﻠﻚ ﺍﻟﺒﺘﺔ ﺃﻥ ﺗﺮﻗﻰ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ.
ﻣﺎ ﺗﻘﺪﻡ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻨﺎ، ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺤﺴﺐ، ﺑﺎﺳﺘﺨﻼﺹ ﺃﺭﺑﻊ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺗﺮﺳﻢ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﺎﻑ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻻﻟﺘﻘﺎء ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻭﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺮﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﻗﺮﺍءﺓ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﺗﺘﻮﺧﻰ ﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻟﻴﺔ .
ﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻫﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﻤﺎﺛﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ(ﺃﻭ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ) ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ: ﻓﺄﺳﺎﺱ ﻛﻠﺘﺎ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺘﻴﻦ ﻫﻮ ﺍﻟﺨﺒﺮ، ﻭﺍﻟﺨﺒﺮ ﻳﺤﺘﻤﻞ ﺍﻟﺼﺪﻕ ﻭﺍﻟﻜﺬﺏ، ﻭﻧﻈﺮ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﻭﺍﻟﺘﻌﺬﺭ، ﺃﻣﺎ ﺍﻻﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻣﺘﻰ ﻗﺮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻌﻘﻞ-ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺼﺮﻑ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ. ﻭﻧﻈﺮ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﻭﺍﻟﺘﻌﺬﺭ ﺃﻣﺎ ﺍﻻﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻓﻬﻲ ﺗﺼﺮﻑ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺟﻤﻠﺔ.
ﻭﻛﻠﺘﺎ ﺍﻟﻤﻌﺮﺗﺎﻥ ﺗﻘﺘﻀﻴﺎﻥ ، ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺒﺮ، ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻤﺘﻔﺤﺺ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻲ ﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻭﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ. ﻭﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻳﻨﺘﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ ﻓﻴﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻔﻘﻪ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺻﻠﺔ ﻭﺳﺒﺐ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﺣﺎﻭﻟﻨﺎ ﺍﻹﺑﺎﻧﺔ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ.
ﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ ﺃﻥ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ، ﻓﻲ ﻭﻋﻴﻪ ﺍﻟﺤﺎﺩ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻨﺸﺊ ﻋﻠﻤﺎ ﺟﺪﻳﺪﺍ ﻛﺎﻥ ﻳﺠﻮﻝ ﺑﻨﻈﺮﻩ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻟﻴﻦ: ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻝ، ﻭﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻨﻘﻮﻝ ﻭﻓﻲ ﻛﻼ ﺍﻟﻤﺠﺎﻟﻴﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﻤﻞ ﺍﻷﺩﺍﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻢ ﺑﻤﻨﺎﺳﺒﺘﻬﺎ ﻟﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺼﺪﺩﻩ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﺃﻭ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺃﻭ ﺗﺒﺮﻳﺮ ﻓﻬﻮ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻨﻘﻮﻝ ﺃﻱ ﻓﻲ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻨﻘﻞ ﻳﻘﻴﺲ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﻢ ﻓﻲ ﻋﻠﻮﻡ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻭﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺃﺧﺮﻯ. ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻵﺧﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻓﻴﻪ ﻣﺘﺼﻼ ﺑﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻝ ﻳﻌﻤﺪ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻨﻈﺮ ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻓﻲ ﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻷﺷﻴﺎء (ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻤﻠﻚ، ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺒﺪﻭﻱ، ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﺼﺒﻴﺔ…). ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻠﻨﻘﻞ ﻭﺗﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺬﻛﻴﺮ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ ﺃﻭ ﻣﻤﻜﻦ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻳﺪﻕ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻤﺠﺮﺩ ﻭﻳﻘﺘﻀﻲ ﺇﺣﻀﺎﺭ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ.
ﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻫﻲ ﺃﻥ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ، ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻣﻊ ﺍﺳﺘﺤﻀﺎﺭﻩ ﻟﻤﺠﻠﻲ ﺍﻟﻤﻨﻘﻮﻝ ﻭﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻝ، ﻛﺎﻥ ﻳﻘﺪﻡ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻲ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻛﻠﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﻤﻠﺘﺰﻡ ﺑﻤﻘﺮﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ ﻓﻲ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩ ﺃﻥ ﻳﻔﻌﻞ. ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻪ ﻓﺘﺢ ﺃﻣﺎﻡ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ ﺑﺎﺑﺎ ﺟﺪﻳﺪﺍ ﻛﺎﻥ ﻳﺠﻬﻠﻪ ﻛﻠﻴﺔ ﻭﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺃﻭﻟﻰ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ، ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ، ﺃﺳﻠﻢ ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ، ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﻟﻴﺲ ﻳﻄﻴﻘﻬﺎ ﻛﻞ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻘﻬﺎء ﺑﻞ ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻥ ﻧﻘﻮﻝ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﺪﻕ ﻋﻦ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ ﺍﻟﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻷﻣﻢ ﺍﻟﻤﺘﻘﺪﻣﺔ -ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﻘﻮﻝ ﻓﻘﻬﺎء ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻓﻲ ﺍﻹﺳﻼﻡ.
ﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻭﺍﻷﺧﻴﺮﺓ، ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﻗﺘﺪﺍء ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺑﻤﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﺃﺑﻮ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ ﺇﺫ ﻗﺎﺱ ﻋﻘﺪ ﺍﻹﻣﺎﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﻋﻘﺪ ﺍﻟﻨﻜﺎﺡ ﻻﻧﻌﺪﺍﻡ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻳﺤﻖ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﻭﻟﻜﻮﻥ ﻋﻘﺪ ﺍﻹﻣﺎﻣﺔ ﻳﺸﺘﺮﻙ، ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﺼﻮﺭﻳﺔ ﻣﻊ ﻋﻘﺪ ﺍﻟﻨﻜﺎﺡ. ﻭﻭﺟﻪ ﺍﻟﻤﺸﺎﺑﻬﺔ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻋﻨﺎ ﻫﻮ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭ ﻋﻠﻤﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻭﺍﻟﻔﻘﻪ (ﻭﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺧﺎﺻﺔ) ﻣﻘﻴﺴﺎ ﻳﺠﻮﺯ ﻟﻠﻨﺎﻇﺮ ﻓﻲ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺍﻷﻣﻢ ﺃﻥ ﻳﻘﻴﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻭﻓﻲ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺼﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻨﻘﻞ.
4 – ﺍﻷﺻﺎﻟﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ
ﻻ ﺭﻳﺐ ﺃﻥ ﺃﺻﺎﻟﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﺎﻫﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﺣﺪ ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺇﻧﺸﺎء ﻋﻠﻢ ﺟﺪﻳﺪ ﻫﻮ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ. ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻣﻐﺎﻻﺓ ﻋﻨﺪ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﻬﺎﺝ ﻃﺮﻳﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻟﻢ ﻳﺴﺒﻖ ﺇﻟﻴﻪ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﻟﻠﻤﺆﺭﺥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﻔﺬ ﻣﻦ ﺍﻻﻃﻼﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻩ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻩ، ﻭﻓﻲ ﻓﺼﻮﻝ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﻭﻳﺪﻋﻤﻪ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻮﻝ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻔﺮﺩ ﻛﻞ ﻓﺼﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻋﻠﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻭﺻﻨﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻨﺎﺋﻊ ﻣﺎ ﻳﺒﻴﺢ ﻟﻨﺎ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﺳﺠﻞ ﺇﺣﺼﺎﺋﻲ ﻟﻠﻌﻠﻮﻡ ﻓﻲ ﻋﺼﺮ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ. ﺇﻧﻪ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺇﺣﺼﺎء ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻹﺣﺼﺎء ﻣﺘﺪﺍﻭﻻ ﻓﻲ ﻋﺼﺮ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ، ﺑﻞ ﻭﻓﻲ ﻋﻘﻮﺩ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻩ. ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻣﻐﺎﻟﻴﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﻧﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻠﻢ ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻋﻨﻪ ﺑﻮﻋﻴﻪ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺿﻤﻴﺮﻩ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ «ﻭﻧﺤﻦ ﻗﺪ ﺃﻋﺜﺮﻧﺎ ﺍﷲ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﺟﻌﻠﻨﺎ ﺳﻦ ﺑﻜﺮﻩ ﻭﺟﻬﻴﻨﺔ ﺧﺒﺮﻩ»، ﻓﻘﺪ ﺟﺎء ﺑﺎﻟﺨﺒﺮ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ. ﻟﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﺇﺫﻥ ﺃﻥ ﻳﻀﻴﻒ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﻣﻌﻠﻘﺎ: «ﻓﺈﻥ ﻛﻨﺖ ﻗﺪ ﺍﺳﺘﻮﻓﻴﺖ ﻣﺴﺎﺋﻠﻪ ﻭﻣﻴﺰﺕ ﻋﻦ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﺼﻨﺎﺋﻊ ﺃﻧﻈﺎﺭﻩ ﺃﻧﺤﺎءﻩ ﻓﺘﻮﻓﻴﻖ ﻣﻦ ﷲ ﻭﻫﺪﺍﻳﺔ، ﻭﺇﻥ ﻓﺎﺗﻨﻲ ﺷﻲء ﻓﻲ ﺇﺣﺼﺎﺋﻪ ﻭﺍﺷﺘﺒﻬﺖ ﺑﻐﻴﺮﻩ ﻣﺴﺎﺋﻠﻪ ﻓﻠﻠﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﻤﺤﻘﻖ ﺇﺻﻼﺣﻪ ﻭﻟﻲ ﺍﻟﻔﻀﻞ ﻷﻧﻲ ﻧﻬﺠﺖ ﻟﻪ ﺍﻟﺴﺒﻴﻞ
ﻭﺃﻭﺿﺤﺖ ﻟﻪ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ، ﻭﺍﷲ ﻳﻬﺪﻱ ﺑﻨﻮﺭﻩ ﻣﻦ ﻳﺸﺎء».
ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻥ ﻋﻤﻞ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻗﺪ ﺟﺎﻭﺯ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻋﻤﻞ ﺗﻮﺿﻴﺢ، ﻓﻌﻤﻠﻪ ﺗﺄﺳﻴﺲ
ﻭﺇﻧﺸﺎء ﻭﻻ ﻣﻐﺎﻻﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻘﺮﻳﺮ ﻭﺃﻗﻮﺍﻝ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻴﻦ ﻻ ﺗﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻬﺔ، ﻋﻦ ﺟﺎﺩﺓ ﺍﻟﺼﻮﺍﺏ. ﺑﻴﺪ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ، ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺮﻉ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺃﺭﻛﺎﻧﻪ ﻭﻳﺮﺳﻢ ﺣﺪﻭﺩﻩ، ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻛﻤﺎ ﻧﻌﻬﺪﻩ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ، ﻓﻲ ﺷﻲء ﻭﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻘﺮﺭ ﻓﻴﻪ ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ ﻭﻗﻀﺎﻳﺎﻩ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ (ﻭﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﻣﺎ ﻗﻠﻨﺎﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﻬﻴﺪ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ) – ﻭﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﻻ ﻳﻨﻘﺺ ﻣﻦ ﺍﻷﺻﺎﻟﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﺷﻲء، ﺑﻞ ﺇﻥ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻫﻮ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ. ﻧﻘﺘﺮﺡ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﺪﺩ (ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﺻﻨﻌﻨﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻟﻤﺘﻘﺪﻡ) ﺃﻥ ﻧﺠﻌﻞ ﻣﺪﺍﺭ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻷﺻﺎﻟﺔ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﻧﻘﺪﺭ ﺃﻧﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ، ﻓﻲ ﺗﻨﺒﻴﻬﻴﻦ ﺍﺛﻨﻴﻦ ﺃﺳﺎﺳﻴﻴﻦ، ﺭﺑﻤﺎ ﺻﺢ ﺍﺳﺘﺨﻼﺹ ﺟﻤﻠﺔ ﺗﻨﺒﻴﻬﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﻤﺎ ﻻ ﻧﺘﻮﺳﻊ ﻓﻴﻪ.
ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ، ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺎ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻴﻪ ﺇﻧﻪ ﺇﺿﺎﻓﺔ ﻏﻴﺮ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻷﺻﻮﻟﻲ ﺧﺎﺻﺔ. ﺍﻟﻘﺼﺪ ﺑﻪ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﺘﺤﺮﻱ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ. ﻟﻨﻘﺮﺃ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ:
«ﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺨﻮﺽ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻳﺘﺪﺍﻭﻟﻮﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﻣﺼﺎﺭ ﺗﺤﺼﻴﻼ ﻭﺗﻌﻠﻴﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﻨﻔﻴﻦ: ﺻﻨﻒ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﻳﻬﺘﺪﻱ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻔﻜﺮﻩ. ﻭﺻﻨﻒ ﻧﻘﻠﻲ ﻳﺄﺧﺬﻩ ﻋﻤﻦ ﻭﺿﻌﻪ. ﻭﺍﻷﻭﻝ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺤﻜﻤﻴﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻘﻒ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻜﺮﻩ ﻭﻳﻬﺘﺪﻱ ﺑﻤﺪﺍﺭﻛﻪ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺗﻬﺎ ﻭﻣﺴﺎﺋﻠﻬﺎ (…) ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﻨﻘﻠﻴﺔ ﺍﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﻭﻫﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺴﺘﻨﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺍﺿﻊ ﺍﻟﺸﺮﻋﻲ ﻭﻻ ﻣﺠﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﺇﻻ ﻓﻲ ﺇﻟﺤﺎﻕ ﻓﺮﻭﻋﻬﺎ ﺑﺎﻷﺻﻮﻝ (…) ﻓﺘﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﻟﺤﺎﻕ ﺑﻮﺟﻪ ﻗﻴﺎﺳﻲ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻴﺎﺱ ﻳﺘﻔﺮﻉ ﻋﻦ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﺑﺜﺒﻮﺕ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ ( ﺍﻷﺻﻞ، ﻭﻫﻮ ﻧﻘﻠﻲ، ﻓﺮﺟﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻴﺎﺱ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻘﻞ ﻟﺘﻔﺮﻋﻪ ﻋﻨﻪ».
ﻧﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺃﺑﺎ ﺣﺎﻣﺪ ﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻗﺪ ﻓﺼﻞ ﻓﻲ ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻌﻘﻮﻝ ﻭﺍﻟﻤﻨﻘﻮﻝ ﻓﻘﺮﺭ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻪ ﻭﻓﻲ “ﺍﻟﻤﺴﺘﺼﻔﻰ” ﺧﺎﺻﺔ، ﺣﻴﺚ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﻭﺍﺿﺤﺎ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻄﻴﻘﻪ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﻣﺎ ﻻ ﻳﻄﻴﻘﻪ، ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﺒﺪﻱ ﻓﻴﻪ ﺭﺃﻳﺎ ﻭﻳﺼﺪﺭ ﺣﻜﻤﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﻖ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ ﻭﻟﻴﺲ ﻳﻄﻴﻘﻪ. ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻨﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ ﺃﻋﻼﻩ ﺃﻣﺎﻡ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻴﻦ، ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺇﺟﻤﺎﻻ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺍﻷﺻﻮﻟﻲ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ، ﻭﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺗﺨﺼﻴﺼﺎ. ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻨﻘﻞ، ﻣﺎ ﻳﺤﻖ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻋﻤﻠﻪ، ﻫﻮ ﺇﻟﺤﺎﻕ ﻓﺮﻭﻉ ﺍﻟﻤﺒﺎﺣﺚ ﺑﺄﺻﻮﻟﻬﺎ ﺃﻱ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻬﺬﻩ ﻗﻀﻴﺔ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﺇﺟﻤﺎﻻً. ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻼﻣﺴﺎ ﻟﻠﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻛﻤﺎ ﻗﻠﻨﺎ، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻭﻓﻲ ﻃﺮﻕ ﺗﻤﺤﻴﺼﻪ – ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻕ ﺗﺘﻔﺮﻉ ﻓﻲ ﺍﺗﺠﺎﻫﻴﻦ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﺮﻭﺍﺓ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﻘﻠﻮﻥ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ (ﻗﻀﻴﺔ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ، ﻭﺍﻗﺘﻀﺎء ﺍﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻭﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ)، ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﻃﺒﺎﺋﻊ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ، ﻭﻫﺬﻩ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺮﺟﻮﻉ ﺇﻟﻰ ﺗﺠﺎﺭﺏ ﺍﻷﻣﻢ ﻭﺇﺧﻀﺎﻉ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺳﺒﺮﻫﺎ ﺑﻤﻴﺰﺍﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﻓﻴﻪ، ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ، ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻭﺍﻟﻤﺘﻌﺬﺭ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﺤﻴﻞ.
ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ، ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻭﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻣﻌﺎ، ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﻥ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ ﻳﺨﻄﻮ ﺧﻄﻮﺍﺕ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ﺑﻬﺎ ﻣﺎ ﻗﺎﻡ ﺑﻪ ﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻧﻔﺴﻪ.
ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻫﻲ ﻗﺪﺭﺓ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻓﻊ ﺑﻤﺎ ﺃﺗﻰ ﺑﻪ ﻣﻔﻜﺮ ﺃﺷﻌﺮﻱ ﺁﺧﺮ ﺃﻣﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﺒﺪﻉ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ﻭﻫﻮ ﺃﺑﻮ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ. ﻳﺬﻛﺮ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻛﺘﺎﺏ “ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻴﺔ” ﻟﻠﻔﻘﻴﻪ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ، ﻭﻳﻌﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺘﻌﻮﻳﻞ ﻛﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﺮﺩﻩ ﻟﻠﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﺍﻹﻣﺎﻣﺔ، ﻭﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻻ ﻳﻀﻴﻒ ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻊ ﺍﻷﻣﺮ ﺷﻴﺌﺎ ﻳﺬﻛﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﺃﺗﻰ ﺑﻪ ﻣﺆﻟﻒ “ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻴﺔ”. ﻭﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻳﺼﺮﺡ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ ﻗﺪ ﺃﻭﻓﻰ ﺑﺎﻟﻘﺼﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻈﻢ ﻭﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻭﻛﺬﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻄﻂ ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺑﺘﺪﺑﻴﺮ ﺷﺆﻭﻥ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﻭﺍﺿﺢ ﻭﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﺼﺮﺡ ﺑﻪ. ﺑﻴﺪ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺍﻟﺘﻨﺒﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ
ﻫﻮ ﺃﻥ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻗﺪ ﺍﺳﺘﺒﻄﻦ ﻣﺎ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ ﻓﻲ “ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ
ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻴﺔ” ﻭﻧﺤﻦ ﻧﻤﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻈﻦ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺍﻃﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺕ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺃﺩﺏ ﺍﻟﻨﺼﻴﺤﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻭﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻋﻨﺪ ﻣﻔﻜﺮ ﺗﺒﺪﻭ ﻓﻲ ﻓﻜﺮﻩ ﺑﺼﻤﺎﺕ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ ﻗﻮﻳﺔ ﻭﻫﻮﺃﺑﻮﺑﻜﺮ ﺍﻟﻄﺮﻃﻮﺷﻲ، ﻭﺍﻟﻄﺮﻃﻮﺷﻲ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻗﺪ “ﺣﻮﻡ” ﺣﻮﻝ ﻣﻮﺿﻮﻉ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﺪﺭ ﻋﻠﻰ ﻭﻟﻮﺟﻪ ﺃﻭ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ «ﻟﻢ ﻳﺼﺎﺩﻑ ﺍﻟﺮﻣﻴﺔ ﻭﻻ ﺃﺻﺎﺏ ﺍﻟﺸﺎﻛﻠﺔ» ﻛﻤﺎ ﺍﻗﺘﺪﺭ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ (ﺃﻭ ﻫﺬﺍ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻼﻣﻪ). ﻳﺴﺘﺤﻀﺮ ﺍﻟﻤﺎﻭﺭﺩﻱ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻣﺎﺩﺓ ﻻﺳﺘﺨﻼﺹ ﺍﻟﻌﺒﺮﺓ ﻭﺍﺳﺘﻤﺪﺍﺩ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻳﻘﻴﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻭﻳﺴﺘﻠﻬﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻣﺎﺩﺓ ﻟﻠﺘﺸﺮﻳﻊ ﻭﻟﻜﻦ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻳﻤﻀﻲ ﻓﻴﺨﻄﻮ ﺍﻟﺨﻄﻮﺓ ﺍﻟﺤﺎﺳﻤﺔ ﻓﻲ ﺍﺗﺠﺎﻩ ﺇﻛﺴﺎﺏ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻉ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﻤﻼﺋﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻭﺍﻟﻔﻬﻢ.
ﺧﺎﺗﻤﺔ
ﺣﻈﻲ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﻈﻰ ﺑﻪ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﻣﻔﻜﺮﻱ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻫﺘﻤﺎﻡ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻴﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ، ﺳﻮﺍء ﺗﻌﻠﻖ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﻮﻓﺮﺓ ﺍﻷﺑﺤﺎﺙ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺧﺼﺼﺖ ﻟﺼﺎﺣﺐ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ، ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻨﺎ ﺣﺎﻭﻟﻨﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺃﻥ ﻧﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺟﻮﺍﻧﺐ ﺍﻹﺟﺤﺎﻑ ﻭﻣﺠﺎﻧﺒﺔ ﺍﻟﺼﻮﺍﺏ ﻓﻲ ﺍﻷﻏﻠﺐ ﺍﻷﻋﻢ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ. ﺣﺎﻭﻟﻨﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﺃﻥ ﻧﺠﺪ ﻟﺬﻟﻚ ﺇﺟﺤﺎﻑ ﺳﺒﺒﺎً ﺃﻭ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺗﻮﺿﺤﻪ، ﻭﺑﺎﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﺍﺟﺘﻬﺪﻧﺎ ﻓﻲ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﺍﻟﻘﺮﺍءﺓ ﺍﻟﻤﻐﺎﻳﺮﺓ ﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺃﻭ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ، ﻋﻠﻰ ﻛﻞ، ﺗﻤﻬﻴﺪﺍ ﻟﺬﻟﻚ. ﺑﻴﺪ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻨﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺨﺎﺗﻤﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﺘﺴﺎﺅﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ: ﻫﻨﺎﻟﻚ ﺍﻛﺘﺸﺎﻑ ﻹﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻭﺟﻪ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻔﻜﺮﻭﺍ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻓﻲ ﻋﺼﺮ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ، ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﻫﻨﺎﻟﻚ، ﻣﻨﺬ ﺑﻀﻊ ﺳﻨﻮﺍﺕ، ﺣﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﻗﺮﺍءﺓ ﻻﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺃﻥ ﺗﺴﻌﻔﻨﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﺍ ﻧﻔﻊ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻫﺬﻩ؟ ﺭﺑﻤﺎ ﻭﺟﺐ ﺃﻥ ﻧﻮﺿﺢ ﻣﻐﺰﻯ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻓﻨﻘﻮﻝ: ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻝ ﺑﻠﻮﻏﻬﺎ ﺃﻭ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻧﺤﻮﻫﺎ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﻣﺮﺍﺟﻌﺎﺕ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﺬﺍﺕ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻭﻣﻦ ﻣﻘﺘﻀﻴﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺮﺍﺟﻌﺔ ﺍﺳﺘﺪﻋﺎء ﺗﺮﺍﺛﻨﺎ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻮﺍﻧﺐ ﺍﻟﻤﻀﻴﺌﺔ ﻣﻨﻪ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺮﺍﺙ ﻻ ﻧﻘﺼﺪ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ ﻓﻲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺩﻭﻥ ﻏﻴﺮﻫﺎ ﺑﻞ ﻧﺤﻦ ﻧﻘﺼﺪ ﺑﻪ ﻋﻤﻼ ﺗﺮﻛﻴﺒﻴﺎ ﻓﺬﻫﻨﻴﺎ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﺃﺟﻮﺩ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺍﺣﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﻬﺎ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﺮﺍﺙ ﻓﻬﻞ ﻫﻨﺎﻟﻚ ﻣﻦ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﺳﺘﺤﻀﺎﺭ ﻓﻜﺮ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻭﻣﻌﺎﻭﺩﺓ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺜﺎﻗﺐ ﻟﺼﺎﺣﺒﻬﺎ؟ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ: ﻫﻞ ﻓﻲ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ ﺍﻟﻴﻮﻡ، ﻓﻲ ﺯﻣﻦ ﺍﻻﻧﺘﻔﺎﺿﺎﺕ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، ﺃﻥ ﻧﺘﺤﺪﺙ ﻋﻦ ﺭﺍﻫﻨﻴﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ؟
ﻧﺤﺴﺐ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻲ، ﻓﻲ ﻣﺠﻤﻠﻪ، ﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﺫﺍ ﺟﺪﻭﻯ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻨﺎ ﺍﻟﻴﻮﻡ: ﺇﻧﻪ ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻼﺳﺘﻠﻬﺎﻡ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﺍﻟﺼﺎﺭﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﻋﺼﺮﻩ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺃﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻗﻮﻣﻪ ﻭﻋﺼﺮﻩ ﻭﻗﺎﺭﺉ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻳﺘﺒﻴﻦ ﺍﻟﺼﺮﺍﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻥ ﻳﺼﻒ ﺑﻬﺎ ﺗﺄﺧﺮ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻓﻲ ﺑﻼﺩ ﺍﻟﻐﺮﺏ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺑﻼﺩ ﺍﻟﻤﺸﺮﻕ، ﺛﻢ ﺗﺄﺧﺮ ﺣﺎﻝ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻓﻲ ﺑﻼﺩ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ. ﺫﻟﻚ ﻣﻐﺰﻯ ﺟﻤﻠﺘﻪ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮﺓ ﻭﺍﻷﻟﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻭﺍﻗﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﺸﺎﻫﺪﻩ «ﻭﻛﺄﻧﻤﺎ ﻧﺎﺩﻯ ﻟﺴﺎﻥ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻟﺨﻤﻮﻝ ﻭﺍﻻﻧﻘﺒﺎﺽ ﻓﺒﺎﺩﺭ ﺑﺎﻹﺟﺎﺑﺔ: ﻭﺍﷲ ﻭﺍﺭﺙ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﻣﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ». ﻭﻧﺤﺴﺐ ﺃﻥ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭﺻﻠﺘﻪ ﺑﺎﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﺣﺪﻳﺜﺎ ﺭﺍﻫﻨﺎ ﻳﺼﺪﻕ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺷﺘﻰ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻤﻨﺎ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻭﻟﻨﺎ ﻓﻲ ﻣﺎ ﺷﻬﺪﻩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﻤﻨﺼﺮﻣﺔ، ﻭﻣﺎ ﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻳﺸﻬﺪﻩ، ﻣﺎﺩﺓ ﻟﻠﺘﺄﻣﻞ ﻭﻣﺠﺎﻝ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺍﻻﺳﺘﺒﺼﺎﺭ. ﻭﻧﺤﺴﺐ ﻛﺬﻟﻚ ﺃﻥ ﻓﻲ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺨﻠﺪﻭﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﻬﺒﺔ ﻋﻦ ﺍﻷﺧﻄﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺍﺷﺘﻐﺎﻝ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎﺭﺓ ﻭﺗﺤﺬﻳﺮﻩ ﻣﻦ ﻣﻐﺒﺔ ﺫﻟﻚ ﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻓﻜﺮﺍًﻣﻌﺎﺻﺮﺍً، ﺭﺍﻫﻨﺎ ﻭﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﻨﻈﺮ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﻴﺮ. ﻭﺩﻭﻥ ﻣﻐﺎﻻﺓ ﻧﻘﻮﻝ، ﻓﻲ ﺍﻷﺧﻴﺮ، ﺇﻥ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﺎﻝ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩ ﺍﻟﺮﻳﻊ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺿﻌﻒ ﻭﻫﺸﺎﺷﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺮﻳﻌﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ، ﻭﺍﻷﺧﻄﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ ﺍﻟﻔﺌﺎﺕ ﺍﻟﻄﻔﻴﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻳﻊ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﻭﻋﻠﻰ ﺻﻨﻮﻩ ﻭﺍﻟﻤﺆﺩﻱ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺮﻳﻊ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ﻧﺠﺪ ﻓﻲ ﻗﺮﺍءﺓ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ ﻭﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻨﺪ ﻧﻈﺮﺍﺗﻪ ﺍﻟﺜﺎﻗﺒﺔ ﻣﺎﺩﺓ ﻟﻠﺘﺄﻣﻞ، ﻣﺎﺩﺓ ﺗﺤﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺮﺍﺟﻌﺔ ﻭﺗﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﻤﺎﻝ ﺳﻼﺡ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺗﺠﻨﺒﺎ ﻟﻠﻔﺴﺎﺩ ﺍﻟﺸﺎﻣﻞ ﻭﺍﺟﺘﻨﺎﺑﺎ ﻟﻠﻬﺮﻡ ﻭﺍﻟﻈﻠﻢ ﺍﻟﻠﺬﺍﻥ ﻳﺆﺩﻳﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺧﺮﺍﺏ ﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ.
* كاتب واكاديمي مغربي/”مجلة التاريخ العربي”