ملخص:
إن الخبرات والدروس التاريخية المستخلصة من جعبة الماضي والحاضر تؤكد أن القدرات الدفاعية وقوى الأمن السيادي، ونجاحها في المناورة وتطويق التهديدات تتوقف على عوامل اليقظة الإستراتيجية وشروط تفعيلها، والذكاء الممزوج بفن عسكري منظوماتي. وحتى الجيش المدرك جيدا لمسؤولياته كجيش نظامي محترف يجب عليه أيضا أن يستفيد من مزايا اليقظة الأمنية إلى أقصى حد ممكن. لأن الإستمرار في تحديث وتطوير وسائط المراقبة والهيمنة على مصادر التهديدات المطلقة وغير المطلقة، هي عوامل أخرى قد تؤثر على النرجسية السلبية لوضع سمعة وهيبة القوات المسلحة.
إن الصراحة العملياتية التي تتجلى الآن في مجال العمل والتنظير الإستراتيجي توفر إمكانات جديدة لإجراء مشاريع الرصد والإستشراف الأمني تنفذها وحدات نخبة الأمن القومي، ترفع من مستويات الجاهزية واليقظة الميدانية، بالتالي من معدلات عوامل الضبط والتحكم القومي السيادي.
يجب أن نعرف دائما، وبشكل دقيق، ما نعرفه وما نجهله. إياك أن تخطئ بين الإثنين!إذا اختلط علينا ما نعرفه فقد نتسبب في موت الكثير من الرجال ” الجنرال جورج باتون” كنا نعرف في الجيش الجزائري ما الذي تتوقع القيادة منا، وكنا نعتقد أننا إذا قمنا بما تتوقعه فإننا سوف نكسب. وهذا معناه أن يكون المرء يقظا، وذلك من تمام القيادة” ضابط في القوات الخاصة الجزائرية الموضوع: منذ قرابة نصف قرن كتب المفكر الإداري الكبير “بيتر دراكر” أول كتاب منهجي حول “الوعي والإدراك الإستراتيجي”، هو الذي كتبه بتلميحة عسكرية “زينوفون” منذ ما يزيد على 2000 عام، ما زال أحد أفضل الكتب العسكرية والسطور التي كتبت حول فن الحرب. وقد كان “زينوفون” جنرالا يونانيا، وكانت كتاباته حول قيادة المعركة[1].
ماذا في اليقظة الإستراتيجية:
في الوقت الذي تصور معظم مسارح العمليات من على خطي السلم والحرب نظم الرصد والإنذار الإستراتيجي ببساطة الجري هنا وهناك والصياح بأوامر يلبيها الآخرون بلا تردد. إلا أن قادة وضعيات الحسم السيادي ومهندسي المعارك الحقيقية يعرفون ما تعني. فالدفاع الوطني في أسوأ حالاته يعبر باختصار عن خطوط مصيرية تعكس أحيانا أو في الغالب الحال الأكثر سوءا، حيث المخاطر جسيمة، والشك كبير، والصعاب وظروف العمل المكانية لا يعرفها أي حقل آخر من حقول السعي البشري.
كما أن شؤون الدفاع الوطني قد تكون بيئة القيادة الوحيدة التي يفضل القادة والمرؤوسون فيها أن يكونوا قي مكان آخر.
في حقبة من الأوضاع البالغة الخطورة تساعد نظم اليقظة والرصد الإستراتيجي قادة الفضاء الأمني العملياتي الناجحون أولئك الذين يقودونهم لتحقيق أعمال بطولية فذة لدرجة الإستحالة ويدفعونهم إلى الأداء بمستويات من الإنتاجية العسكرية تفوق طاقة البشر. وفي الوقت الذي يقومون فيه بذلك فإنهم يحملون المسؤولية عن أرواح الشعوب التي يذودون من أجلها في خط سيادي مندفع. ” .. عندما ينتابك الشك أقدم.”
معنى اليقظة الإستراتيجية، أو الرصد الإستراتيجي:
أنظر إلى هذه العبارة البسيطة المضللة التي كان “الجنرال فوللر” كثيرا ما يرددها. إنها تبدو بسيطة، ماذا يفعل رجل الدولة وقائد الدولة السياسي والعسكري؟ إنهما يقودان. لكن تعريف اليقظة الإستراتيجية لا يتوقف عند تصميم القيادة الميدانية العسكرية، بل يتوازى ومضامين التفاعل مع المبادأة كمبدأ إستراتيجي هام[2].
بالتالي تنحصر اليقظة في عمل من يقود. وإذا لم يفعل فإنه ليس بقائد. أول قاعدة في القيادة هي أن تتصرف من موقع الحس واليقظة الإستراتيجية. فالقائد الجيد لا يعبر أبدا عن الموقف السيادي والمصيري لدولته بمجرد رأي!، فالقائد يعرف لكونه يقظ. وليس هناك من يهتم بوجهة نظرك!لذلك لا مجال لاستخدام كلمات مثل:” أرى، أو أعتقد، أو أظن، أو أرجح، أو لا أظن”. قد لا يكون هدف استراتيجيات القوى العسكرية مواجهة تهديد ما، بقدر التفطن وترصد ومواجهة العقل الذي يقف وراءه. إذا فهمت القيادة كيف يعمل هذا العقل، امتلكت مفتاح المبادأة والخداع والسيطرة. ” درب نفسك على قراءة الناس، وانتقاء الإشارات التي يرسلونها بطريقة غير واعية حول أفكارهم ونواياهم الداخلية. إن جبهة صديقة ستسمح لك بمراقبة عدوك والحصول على معلومات عنه. إحذر من كشف عاداتك العقلية والعاطفية له، حاول أن تفكر كما يفكر. حين تعثر على نقاط الضعف النفسية لدى خصومك يمكنك العمل على تفكيك عقولهم.. حينها يمكن لك أن تجرهم إلى مقصلة الشلل الإستراتيجي!!.”
إن معادلة اليقظة الإستراتيجية تقضي بأن: ذلك الذي يعرف العدو ويعرف نفسه لن يعرف الخطر ولو في مئة معركة. فحكمة الرصد والحس الأمني هي وحدها من تحفظ لليقظة بعدها وفوقيتها النرجسية، على أن لا تسمح لهذه الأخيرة أن تلعب دور الشاشة بين الدولة موضوع الفوقية العسكرية وبين الدول الأخرى، حتى لا تسيئ قراءتهم وتفشل إستراتيجيتها[3].
والوعي بذلك أمر ضروري، فكل دولة وقوتها العسكرية في فوضى التوحش العالمي المزمن هي أشبه بثقافة غريبة. لذا من دواعي اليقظة والحس الإستراتيجي أن تدخل إلى جوهرها العقل الدير والمدبر للشؤون السيادية المصيرية في الدولة، لا كممارسة للحساسية الأمنية بل انطلاقا من الضرورة الإستراتيجية الدفاعية[4].
فقط بمعرفة الخصوم يمكن أن نأمل بشلهم العجز الإستراتيجي. الذكاء العسكري كمدخل استخباري لليقظة الإستراتيجية: بعد أن غزت قضايا الأمن والدفاع الوطني كل ميادين النشاط السيادي الوطني، وأضحت تستخدم مختلف المقاربات العملياتية لتحقيق أغراضها، أصبحت مهنة الإستشراف الأمني والعسكري من أصعب المهن وأشقها. وبرهنت على اتسامها بصفة عدم الإستقرار، وتعرضها للتبدل والتنوع، وتعتبر هذه الصفة هي التي تصنع صعوبة التفكير الإستراتيجي وعظمته. إذ يضطر الذكاء العسكري إلى سبر أغوار المجهول في هذا المجال، وإلى القيام بمحاكمات تخرج عن السبيل المألوف لحل المعضلات التي تفاجئ صناع القرار الأمني والعسكري، إذ ما يكاد الذكاء العسكري ينكب بالطرق المألوفة على حل بعض المشكلات الميدانية، حتى تفاجئه بعض التفاصيل “فيرى عنصرا من عناصر المعضلة الدفاعية يفلت منه أو حدثا من الأحداث يخيب أمله[5].
ولا يستطيع مصباح الذكاء الإستراتيجي أن يلقي على الأسباب المتعددة الغامضة إلا بعض الضوء الخافت، ولا يجد منطقة نقطة صلبة يمسك منها جميع التأثيرات المتشابكة، وينساب سيل التهديدات المتحركة المضطربة من شباكه كما ينساب الماء من شبكة الصياد”.
إن التهديدات التي تواجهها الدولة هي عوامل متبدلة، تتطور باستمرار، وما يعرفه صانع القرار الأمني والعسكري في اللحظة السيادية المصيرية والحرجة قد يتغير ويتبدل خلال ساعات. ولا يمكن للذكاء العسكري مهما كانت أهميته أن يكشف بكل دقة وتأكيد ماهيتها وشكلها وأفعالها الحالية والمتوقعة. ولهذا تلجأ قيادات أركان الجيوش باستمرار إلى التحليل المشترك، وإلى التركيب كتقدير للجاهزية ومستوى اليقظة كمدخل استخباري الذي يشترك فيه عدد كبير من ضباط مختلف إدارات الجيوش بعد معاينة ومراقبة كل تحركات ولا منطق التهديدات، وجمع كل المعلومات عنها، لكي تخرج بمحصلة وقائية تسمح بتطويق الإنتشار العمودي والأفقي للتهديدات، وتعوض النقص الذي لا يمكن للذكاء العسكري أن يتلافاه[6].
فقد يقدر الذكاء العسكري أن التهديد لن يصدر أو يناور في ظرف معين لأسباب عديدة يبني عليها فرضيته. غير أن الذكاء العسكري في هذه الحالة لا يستطيع أن يعتمد على التحليل المنطقي، إذ قد يلجأ التهديد إلى المناورة بفعل ظروف عديدة أخرى غابت عن الإعتبار أثناء المحاكمة المنطقية. ولهذا تستمر أعمال الجاهزية واليقظة الميدانية مراقبة التهديدات واستطلاعها باستمرار في كل نقاط وتموضع القوات وعلى كل المستويات، وتستمر عملية جمع المعلومات وتحليلها لكي لا يفقد الذكاء العسكري عنصر من العناصر الأساسية لمحاكمته”.
ولهذا السبب أيضا نرى أن أكثر القادة العسكريين العظام الذين عرفهم التاريخ كانوا لا يندفعون نحو مصادر التهديدات إلا بعد معرفة الكثير عنها وعن عاداتها، وعن مساراتها، وعن صفاتها الجغرافية وأساليب مناوراتها وخطها اللاأمني: “فلقد حابه هانيبال الرومان في معركة كان وهو يعرف الكثير عنهم، وكان يعرف الشكل العادي لقتالهم، ويعلم أن جيشهم يعمل داخل نظام متراص جدا وعلى ثلاثة أنساق. وأن قوة هذا الجيش تكمن في التنسيقوأن تحطيم ذلك التنسيق يعني تحطيم تلك القوة”.
وللوسائط في اليقظة الإستراتيجية أهمية خاصة، لا تستطيع القيادات الأمنية والعسكرية على وجه الخصوص تجاهلها أو التقليل من قيمتها. ولابد للخطة الدفاعية الناجحة من معرفة حدود التهديدات المحيطة بالدولة وإمكاناتها[7].
ولا تكفي القيادات معرفتها بامكانات وسائط التهديدات وحدودها، بل ينبغي أن تمتد معرفتهم إلى إمكانات بيئة التهديدات ووسائطها السلبية والإيجابية.
إن أفضل أسلوب ينبغي اتباعه في أعمل الحيطة والحذر الإستراتيجي هو الأسلوب الذي اقترحه الفيلد مارشال مونتغمري– أحد الضباط الأمريكيين البارزين[8]:
1ـ طريقة واضع النظريات الذي يمعن الفكر بالتجارب، ويستخرج منها قواعد عامة ويشارك في إعداد العقيدة.
2ـ طريقة الطبيب الذي يحلل ويناقش ويزن المعطيات لحالة خاصة محددة.
3ـ طريقة رجل العمل الذي يستنتج ويقرر وينفذ.
4ـ ومما يتميز به العصر الحديث: وجود مجموعة كاملة من العوامل الاجتماعية الجديدة. وأمتنا اليوم تتعرض لنكبات أمنية مصيرية، وتواجه “غزوا بشريا مستوردا” اغتصبت السيادة في عرين الخيانة وأدخلت عقيدتنا الأمنية في غرفة الإنعاش في غفلة إستراتيجية، نحاول من خلالها بشتى الأساليب والطرق الإفادة من الدروس التي تعلمناها من الهزائم التي منينا بها نتيجة الأخطاء العديدة المرتكبة في كل المجالات.
فلقد بنينا عقيدتنا العسكرية في الماضي على أساس دفاعي، وكنا نحاول ردع التهديدات التي تحيط بنا بالحواجز والسدود والتحصينات التي أقمناها، في حين كانت التهديدات والخصوم يتبنون استراتيجيات دفاعية – هجومية ممزوجة بضربات الإستغفال السيادي، تليها عمليات نفسية تشربنا من خلالها قيم الدونية والإستسلام بعدما ألفنا دوس الأقدام، في غياب لأي مضمون سياسي مشترك لاستراتيجية شاملة تجاه قضايا الوعي واليقظة الأمنية.
وكان لغياب هذه الرؤية واليقظة الإستراتيجية الشاملة السبب الرئيسي لكل النكسات التي حلت بنا، وفي حين افتقرنا إلى استراتيجية واضحة المعالم خاصة في المجالين الأمني والعسكري. إن اليقظة الإستراتيجية ليست مبدئا جامدا، إنها دراسة العمل الحاضر على ضوء معطيات المستقبل، وهي العمل المعاصر الذي يستمر في التنفيذ ضمن رؤية تنظيمية استشرافية للتطور المقبل بمجموعه، وبغرض ترجيح بعض الإمكانات أكثر من غيرها واختيار هذه الإمكانات لكونها ذات طابع أمني استراتيجي. وإننا هنا لا نعتبر أن هذا الأسلوب في نقد الذات أسلوبا جامدا. بل هو أسلوب يتسم بالمرونة، وبوسع القيادات الأمنية والعسكرية أن تضع لليقظة الإستراتيجية أسلوبها العقدي الخاص في حساب الإحتمالات ووضع الفرضيات.
فكثير من الإحتمالات الضعيفة تحققت في التاريخ، مع أن هناك احتمالات أكثر وأقوى توقعا، واكتملت لها كل شروط التنفيذ، ولكنها لم تتحقق. ولكن هذه المداخلة هي في الحقيقة دعوة عقلانية لفهم آلية عمل اليقظة الإستراتيجية، ومحتويات بناءاتها على أسس علمية. ونحن لا ندعو من خلال هذا المبدأ الهام إلى وضع جهاز عسكري أمني “كلباس مفصل على المقاس” بل إن هدفنا من هذه المجموعة من السطور إيجاد جهاز عسكري وأمني قادر على التلاؤم والتطابق مع كل الأوضاع. وتنظيم دفاعاتنا إزاء التهديدات المتعاظمة في زمن نظام التوحش العالمي على أسس علمية، لأن التاريخ يحكم بإدانة كل الحكومات التي امتنعت عن استخدام كل الوسائل للدفاع عن شعوبها وعن أراضيها. “ففي يقظة الأمة العسكرية المهم هو تدمير مراكز التهديد العصبية.. وليس تدمير جوانبه الفيزيقية” اليقظة الأمنية اليقينية… والإستعداد للفوضى القادمة: خلافا لأطروحة هنتجتون تكمن قوة أطروحة الفوضى في كونها تأخذ في الإعتبار القطيعة مع الماضي والإختلاف بين التهديدات القديمة والجديدة.
إن كتاب روبرت د. كابلان The Ends of the Earth: A journeyat the Dawn of the 21st Century مثال طيب على هذا النوع من التفكير. إنه ضرب من كتب الرحلات العسكرية والأمنية يحتوي على وصف آسر للحياة السيادية كما هي موجودة الآن في زمن النكاية والتوحش. واستنتاجاته مستمدة من التجربة المباشرة للوقائع الأمنية المعاصرة. يلفت كابلان الإنتباه إلى تآكل سلطة الإكراه وقوة الدولة في العديد من أنحاء العالم وقصر النظر الذي تولده نظرة مركزية الدولة إلى العالم[9]:
ماذا لو لم يكن ثمة فعلا كيانات أمنية كما توحي الحسابات العسكرية لحماية خطوط السلام واستقرار الدول؟… ماذا لو كانت الأراضي التي تحتلها قوى التهديد هي أراض لا تظهر أبدا على الخرائط – أهم من الأراضي التي تدعي السيطرة عليها عدة قوى نظامية لدول معترف بها؟ ماذا لو كانت جيوشنا أبعد بكثير عن مصادر التهديد مما تظهره الخرائط؟. ففي دول أفريقيا عموما اكتشف كابلان إنهيار احتكار الدولة للعنف المنظم لتنهار معه أطر الأمن والدفاع الوطني، ليتضاءل معه التمييز بين الجيوش والمدنيين، بين الجيوش والعصابات الإجرامية.. بين الأمن والتهديد[10].
في فوضى الشرق الأوسط الدامي، أكتشف جسما جغرافيا في حال التفكك، يعتمد على الأنشطة الإجرامية أكثر من اعتماده على الحوكمة الأمنية والإستراتيجية الفعالة. نحن نتكلم هنا عن “الفوضى القادمة” من مدخل يتيح لنا وصف عالم يحيط بنا انهارت فيه نظم الأمن والوقاية السيادية والإنسانية على وجه العموم.. هي عودة إلى حال الطبيعة والفوضى الهوبزية التي تستبق صورة المستقبل في نواح أخرى من العالم.
لن تكون خريطة العالم مستقرة. خريطة المستقبل – أي “الخريطة الأخيرة” بمعنى ما – ستكون تمثيلا متحولا باستمرار للفوضى الأمنية الخرائطية: حساسة في بعض المناطق، أو حتى مجازفاتية، وعنيفة حادة في مناطق أخرى. ونظرا إلى كون الخريطة الجيوسياسية ستظل متغيرة فقد تخضع للتحديث بفعل الحراك الأمني واليقظة العسكرية السيادية. ” حين يتم استدراجك للوقوع في فخ أو مصيدة.. ينبغيأن تتمتع بالحصافة فلا تصدق الأمور البسيطة ما لم تكن متوافقة مع المنطق.
على سبيل المثال، إذا وضع التهديد في دربك غنيمة ما فعليك أن تحتسب أنها قد تحتوي على حيلة ومصيدة. وإذا ما فرت قوى التهديد أمام قوى الأمن السيادي، وإذا ما ولى التهديد الأدبار فجأة.. فعليك أن تخشى وجود خدعة ما. ولا يجب أن تصدق أبدا أن التهديد لا يجيد تدبير أوضاعه، بل إذا كنت تأمل ألا تكون قابلا للخداع.. وأقل عرضة للخطر.. قياسا إلى ضعف التهديد، وقياسا إلى قلة يقظته، فعليك أن تكون أكثر احتراما له”.
اليقظة العملياتية وإدارة الخطر الإرهابي من منطق اقتصاد قوة العنف المنظم:
تفرض الطبيعة السرية للمنظمات الإرهابية والتخريبية، والأسس التنظيمية والتكتيكية لهذه المجموعات مشكلات ذات صعوبة خاصة بالنسبة لأجهزة الأمن والدفاع الوطني، فلكي تتمكن السلطات الأمنية من اتخاذ إجراءات وقائية ضد نشاط المنظمات الإرهابية، أو تضع خططًا هجومية لإجهاض التدابير الإرهابية، ولكي تتمكن من التصدي بنجاح للمواقف الإرهابية، وضبط الجناة فيها، وإقامة الأدلة قبلهم في المحاكمات فإنه يجب أن تتوافر لديها القدرة المناسبة من اليقظة الأمنية وقدر كافي من المعلومات حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهام[11].
ومستوى اليقظة الأمنية التي تحتاجها أجهزة الأمن ليست متاحة بسهولة، والطريقة الوحيدة للحصول عليها هي استخدام الأساليب الفنية لجمع المعلومات، وسنتعرض هنا للخطوط العامة لملامح الإرهاب التي تجعل من المعلومات ضرورة أساسية لمواجهة العمليات الإرهابية، كما سنوضح باختصار الأنماط الفنية لليقظة العملياتية التي تستخدم في مكافحة الإرهاب.
أهمية عنصر المفاجأة في النشاط الإرهابي:
يتوقف بقاء التنظيم الإرهابي المشكل وفق أسس جيدة من القواعد التنظيمية، على القدر الكبير من السرية الذي يتيح لذلك التنظيم أعلى درجات الفاعلية المستفادة من توافر عنصر المفاجأة، ويجب ملاحظة المبدأ الذي يقول: إن فاعلية المفاجأة لا تعتمد فقط على كونها شاملة، وإنما يكفي في ذلك الاعتماد على درجة المفاجأة، فيمكن إذن استخدام عنصر المفاجأة بفاعلية إذا كانت تلك المفاجأة كبيرة حتى ولو اقتصرت على موقع واحد أو موقف معين[12].
وهناك تعريف لعنصر المفاجأة وضعته كلية الحرب الأمريكية يوضح هذا المفهوم ومضمون هذا التعريف: أن المفاجأة هي الضربة الموجهة للعدو في وقت ومكان وبطريقة لا يتوقعها ولا يكون مستعدًا لها، وليس من الضروري أن يكون العدو غير متنبه تمامًا، ولكن يكفي أن يأتي انتباهه متأخرًا بدرجة تجعله غير قادر على الرد بفاعلية.
وتركز المنظمات الإرهابية على تملك عنصر المفاجأة لتحقيق الأهداف الآتية[13]:
1ـ خلق موقف تكون سلطات الأمن غير مستعدة له، وإذا لم تكن السلطات قد توقعت مثل هذه المواقف بصفة عامة، فإنها لن تستطيع وضع خطط قوية ومتماسكة ومنسقة، وإعداد الأجهزة التكنولوجية المضادة، وتنفيذ الاستجابات المناسبة، وانتقاء وتدريب الأفراد المناسبين. وغير ذلك. وكل هذه العوامل قد تسهم في حيرة وتردد السلطات الأمنية وتخبط السياساتوالإستراتيجيات الدفاعية وضعف التنسيق، مما يجعل التصدي للموقف الإرهابي مشكلة صعبة.
2ـ إجبار سلطات الأمن على القيام بعمليات متعجلة وغير مدروسة، وهذا الهدف يرجع تمامًا إلى الافتقار إلى الجاهزية اليقظة والاستعداد للتعامل مع العمليات الإرهابية، فإذا لم يكن لدى السلطات سياسات متماسكة وراسخة ومتدرجة، فإنه من المحتمل أن تكون القوات المعدة للتعامل مع الموقع الإرهابي غير مدربة تدريبًا كافيًا أو غير مجهزة بالعتاد المناسب، او غير موجهة توجيهًا سليمًا، ومن المهم بدرجة خاصة أن تكون السياسات الحكومية متطورة ومترابطة حتى تكون فعّالة في المواقف الإرهابية. وغياب مثل هذه السياسات يشكل خطورة بالغة لما يخلقه من تردد يؤدي إلى الحيرة، وفقدان الثقة بالنفس بين القوات المعدة لذلك، مما يسهل مهمة الإرهابيين ويؤثر بشدة على قدرة وفعالية عمليات مجابهة الموقف الإرهابي.
وفضلاً عن ذلك، فإن من بين الأهداف الأولية للمنظمات الإرهابية دفع الحكومات إلى اتخاذ تدابير وإجراءات عنيفة وقمعية، أو بمعنى آخر دفع الحكومات إلى اتخاذ ردود أفعال تتجاوز احتياجات الموقف Over React بحيث تبدو في صورة الحكومة المستبدة، وهذا الوضع يمكن أن يحدث في غياب الفكر الواضح المؤسس على سياسات محددة للاستجابة المتدرجة للموقف.
3ـ تشتيت قوات الأمن أو تفرقها في مواقع غير سليمة، فمن خلال السرية تسعى المنظمات الإرهابية إلى أن تجعل قوات الأمن تنتشر انتشارًا واسعًا لتغطي حراسة كل الأهداف المحتمل مهاجمتها، وتفقد بذلك تركيز القوات على الهدف الذي ستهاجمه المنظمة.
4ـ القدرة على القيام بعمليات إرهابية باستخدام أعداد كبيرة من العناصر الإرهابية، بتركيز غير متوقع، فمن الأمور الدقيقة والحرجة بالنسبة للمنظمات الإرهابية، استطاعة المنظمة زيادة أعداد القوة الإرهابية المهاجمة بدرجة غير متوقعة، وبذلك يُفقدون قوات الأمن توازنها، سواء بالتغلب عليها تمامًا في موقع واحد، أو بمهاجمة عدة مواقع في وقت واحد، ولما كان إعداد الكوادر الإرهابية يحتاج إلى وقت طويل نسبيًا، خاصة إذا ما كان التدريب والتثقيف العقائدي ضروريين، فإنه من الواضح أن عنصر السرية يصبح ضروريًا، حتى يمكن من خلال الفترة الزمنية المناسبة بناء الكوادر المطلوبة، لكي تصبح المنظمة قادرة على تنفيذ عملياتها.
5ـ القدرة على المهاجمة من اتجاه غير متوقع، وبصفة خاصة ما دامت السرية مكفولة، فإن التنظيم الإرهابي يكون قادرًا على الاستفادة من ميزة التكتيكات أو نوعيات الأهداف. ومع متابعة العمليات الإرهابية وتحليلها بصفة دائمة، يصبح من الصعب مقاومة الانطباع الذي يتولد بأن الإرهابيين يتبعون أسلوبًا معتادًا أو نمطًا دائمًا في اختيار عملياتهم، لذلك فإنه في فترة معينة من الزمن يصير الاعتقاد بأن الاغتيال هو السمة السائدة في النشاط الإرهابي، وفي وقت آخر يصبح احتجاز الرهائن هو النمط الشائع، وفي أحيان أخرى تكون الفكرة مركزة على اختطاف الطائرات.
وهناك بالطبع أسباب واقعية لمثل هذا التقلب، وأهم تلك الأسباب أن يلاقي ذلك التكتيك نجاحًا وعندئذ فإن مزيدًا من المنظمات تلجأ إلى استخدامه ولكن عندما يركز الإرهابيون على ذلك النوع أو ذاك من العمليات، فإن سلطات الأمن تركز هي الأخرى على اتخاذ وتطوير الإجراءات وتدريب الأفراد واستخدام المعدات التكنولوجية لمجابهة هذا النوع بالذات من الأنشطة الإرهابية. واليقظة العملياتية الأمنية في هذه الحالة يجب أن يركز على متابعة تصاعد الأنشطة الإرهابية للمنظمات التي تجري متابعتها، وذلك من أجل تحليل هدفين[14]:
الأول: التنبؤ بالعمليات المستقبلية للمنظمة. الثاني:إثبات نسبة عمليات سابقة مجهولة الفاعل إلى تلك المنظمة. وكقاعدة فإن هذا التنبؤ وذلك الإثبات للصلة بالعمليات السابقة هي أمور ممكنة لأن تصاعد أنشطة المنظمة يتبع نمطًا مميزًا.
وعلى أية حال، فإن المنظمة الإرهابية إذا كانت قادرة على أن تقرر تغيير تكتيكاتها بدرجة غير محدودة مثال التحول من زرع المتفجرات إلى التهديد باستخدام أسلحة نووية وكانت أيضًا قادرة على الحصول على السلاح والمعدات، ووضع التنظيمات اللازمة للقيام بتلك التغييرات، دون أن تتنبه السلطات إليها، أو تفطن إلى ما يصيب المنظمات من تحول فإن تلك السلطات تصبح عرضة لمشكلات غاية في الصعوبة.
ملامح التنظيم الإرهابي:
من أجل تحقيق الأهداف التي أشرنا إليها آنفًا، تفرض المنظمات الإرهابية على نفسها سرية مطلقة، وتضع قواعد تنظيمية لأفرادها بطريقة تكفل أقصى درجة من أمن الاتصال داخل المنظمة، وأكثر المنظمات نجاحًا في ذلك هي تلك المنظمات قليلة العدد، أو تلك التي تقسم نفسها إلى خلايا تضم كل منها عددًا قليلاً من الأفراد عادة ما يكون ما بين 3 إلى 10 أفراد، وتوزع الخلايا على مجموعة في نظام للأعمدة بحيث يخصص كل عمود منها لمنطقة معينة أو مهام محددة[15].
وهذا النظام العمودي قد تم تنفيذه بنجاح تام في عدد كبير من المنظمات أشهرها منظمة توباماروس في أورغواي وجيش التحرير الكوبي. وفي هذا الهيكل التنظيمي يتم التركيز على أمن الاتصال والحصول على أقصى قدر من السرية والمرونة وسرعة الحركة، وفي نفس الوقت تصبح سيطرة قيادة المنظمة على كل خلاياها أمرًا ممكنًا وفي أحيان كثيرة تتحكم القيادة تحكمًا تامًا في عمل كل الخلايا على الرغم من أن كل خلية تملك قدرًا معقولاً من الاستقلال في العمليات. وبعض المنظمات تسمح للمجموعات الصغيرة باتخاذ مبادرات ذاتية في اختيار الأهداف وتوقيت العمليات، في نطاق الإطار والأهداف العامة للمنظمة، ولكن هذا التفويض يكون ممكنًا فقط في المنظمات التي تقوم بحملة إرهابية واسعة النطاق مثل منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي في بريطانيا أو منظمة الباسك في إسبانيا وجنوب فرنسا[16].
وعندما يكون الوضع كذلك أي عندما تصبح للخلايا أو المجموعات حرية نسبية في اتخاذ القرار، يصبح الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للقائمين على جمع المعلومات والتحريات، لأنه يصبح من اللازم اختراق عدد أكبر من المجموعات أو الخلايا الإرهابية أكثر مما هو مطلوب في حالة ما إذا كانت عملية تحديد الأهداف والتوقيتات موكلة تمامًا للقيادة المركزية. وهناك ملامح أخرى للتنظيم في بعض المنظمات الإرهابية تشمل إتباع النظام العسكري كما هو منفذ في الجيوش النظامية وأيضًا قد تشكل المنظمة قوات تخصص للنظام والأمن الداخلي قد تمتد إلى حد تخصيص مجموعات للأمن الداخلي تقوم بإعدام من يشتبه فيهم من أعضاء المنظمة أو من يخالفون قواعدها المقررة.
وتتطلب قواعد الأمن داخل المنظمات بأن يصبح فردًا واحدًا داخل كل خلية هو الذي يعرف حلقة الوصل بخلية أو أكثر، أو يعرف نية أعضاء تلك الخلايا وهذه التجزئة والفصل بين الخلايا قد يستخدم لإنجازه بكفاءة أكثر أسلوب النقاط الميتة Dead Drops مثل كابينة الهاتف أو صندوق البريد، أو دولاب حفظ أدوات في مكان عام مثل محطات القطار أو المطارات. وهكذا حيث يمكن تبادل الاتصال من خلالها دون أن يتقابل المرسل والمستلم. ويمكن أيضًا زيادة فعالية نظام الأمن بإتباع وسيلة القطع CutOuts وهذا الاسم يطلق على شخص من أعضاء المنظمة تكون وظيفته الوحيدة توصيل الرسائل دون أن يعرف شخصية مُصدرها أو شخصية متلقيها[17].
ومزايا هذه الأبنية التنظيمية قد عبر عنها أحد الباحثين بالعبارة الآتية: إن التنظيم العمودي للخلايا في المنظمات السرية، يلائم بصفة خاصة المنظمات واسعة الانتشار أو كبيرة العدد، لأن حجمها يفرض عليها الحذر من اختراق أجهزة الأمن لها، إذ أنه عندما يسقط أحد أفراد الخلايا في أيدي السلطات فإنه يمكن أن يمدها بمعلومات قد تؤدي إلى القبض على باقي أعضاء المنظمة، وبالإضافة إلى هذا فإن نظام القطع يضمن ألاّ يعرف الإرهابيون بعضهم البعض وأن الاتصال بين الخلايا المختلفة يكون في أقل قدر ممكن بحيث يتضمن فقط التكليفات بالمهام وأوامر العمليات وبذلك تصبح المنظمة آمنة نسبيًا.
وبالإضافة إلى هذه المبادئ التنظيمية، فإن الكثير من المنظمات الإرهابية قد أصبحت على وعي كامل بأكثر الأساليب التي تستخدمها سلطات الأمن وأعقدها، وأصبحوا خبراء في تطوير أساليب التخفي وتزوير الأوراق واتخاذ إجراءات أكثر تعقيدًا لتلافي اختراق أجهزة الأمن، وأكثر من ذلك فإن بعض المجموعات الإرهابية قد تنتهج أسلوب الكمائن Sleepers وفيه يلجأ الأفراد أو الوحدات إلى الاستقرار في مكان استراتيجي، والامتناع عن أي نشاط إلى أن يحين في المستقبل الفرصة لارتكاب عمليات مؤثرة وذات قيمة عالية[18].
وهذه الأساليب جميعًا تشكل معًا أسلوبًا لزيادة تأمين المنظمة إلى أقصى حد ممكن ولكنها في نفس الوقت لا تخلو من صعوبات: ففي حالة اشتباك الخلية في عملية مشتركة مع خلايا أخرى، وتصادف لسبب أو آخر أن تصطدم إحدى هذه الخلايا بعائق مؤقت مثل تدخل التغييرات الجوية أو الشرطة أو اختلاف في مواعيد التقابل أو غيرها، فإنه من الصعب على باقي الخلايا أن تعيد السيطرة على الموقف لأن الإرهابيين من الخلايا المختلفة لا يعرفون بعضهم البعض، كما أنه في ظل هذا النظام من الخلايا المتضمنة يجب أن يكون كل الأعضاء لهم ولاء مطلق وطاعة عمياء لزعيم لا يعرفونه وأن يخططوا لعمليات لا يستطيعون القيام بها إلا بإذن من القيادات الأعلى، كما أن المنظمات الإرهابية لا تستطيع أن تكون فعالة إلا بتنسيق تام وتعاون بين كافة أعضائها، لذا فإن نظرية التجزئة هذه وإن كانت تضمن استمرار حياة المنظمة من ناحية، فإنها من ناحية أخرى تمثل عائقًا كبيرًا بالنسبة لأنشطتها وعملياتها.
وبالإضافة إلى هذا النمط من التنظيم العمودي، هناك أيضًا تنظيمات أخرى أشد تعقيدًا تلجأ إليها المنظمات الإرهابية عندما تتعرض لضغوط قوية من سلطات الأمن، فهناك مثلاً ما يسمى بالتنظيم العنقودي الذي لجأت إليه بعض التنظيمات الدينية المتطرفة في مصر، والذي نقلته عن بعض المنظمات في أمريكا اللاتينية وأشهرها منظمة مونتينروس التي وجدت نفسها – عندما ضيقت سلطات الأمن الخناق عليها – مضطرة إلى أن تقطع الاتصال بخلاياها المنتشرة في البلاد وتترك لهذه الخلايا حرية العمل كاملة بحيث تدبر تمويلها وتسليحها وأماكن اختفائها بمجهوداتها الذاتية، وتختار أهدافها وأساليب عملياتها وفق مبادراتها، ذلك لأن تلك الخلايا تدرك الأهداف النهائية للتنظيم الإرهابي وتعمل على تحقيق تلك الأهداف وفق ما تراه مناسبًا من أساليب.
ويمكن وصف التنظيم العنقودي بأنه خلايا متفرقة ومنتشرة على نطاق جغرافي واسع أو في أماكن مختلفة داخل مدينة واحدة يربطها معًا الانتماء لمنظمة واحدة وتؤمن بفكر واحد وتسعى لتحقيق أهداف واحدة،ولكن لا يربطها مع بعضها البعض أي نوع من أنواع الاتصال، ويضمن هذا التنظيم تأمينًا مطلقًا لأعضاء المنظمة بحيث إذا سقطت خلية تبقى باقي الخلايا آمنة لأنه لا صلة بينها، وبين الخلية التي سقطت، وتلجأ المنظمات الإرهابية إلى إتباع هذا التنظيم في حالتين:
الأولى: عندما تتعرض المنظمة لخطر الاختراق أو يضبط بعض عناصرها أو تقع تحت ضغط مؤثر من السلطات بعد قيامها بعملية كبيرة وهو تقريبًا ما اتبعته منظمة الجهاد الإسلامي بعد حادث اغتيال الرئيس السادات.
الثانية: عندما تبدأ المنظمة في القيام بعملية إرهابية واسعة النطاق في وقت لم تكن مستعدة تنظيميًا فيه لذلك ولكن اضطرتها الظروف إلى القيام بهذه العملية[19].
إن ملامح التنظيم الإرهابي التي تعرضنا لها آنفًا تبرز بوضوح الأهمية والقيمة العالية للمعلومات والتحريات كقاعدة لكل إجراءات منع وقمع الإرهاب، إذ أنه يمكن فقط عن طريق التحليل الشامل والمعلومات الدقيقة والمتابعة اليقظة، لسلطات الأمن أن تتخذ إجراءات فعالة حيال الأنشطة الإرهابية بإجهاضها قبل وقوعها أو بضبطها بعد قيامها بعملياتها والقضاء على تلك الأنشطة في المستقبل.
وتشمل المعلومات أساسًا الأفكار التي تعتنقها المنظمة ووسائلها في تجنيد أعضائها وطريقتها في بناء التنظيم الداخلي لها وعدد الأعضاء المحتمل انتماؤهم ومصادر تمويل أو تسليح الأفراد وأماكن التدريب ونوعيتها، والأهداف المحتملة ومهاجمة المنظمة لها، وأساليب الانتقال والاتصال، وغيرها.
إن عنصر المفاجأة هو محور نجاح العمليات الإرهابية، إذ أن قوات الأمن هي دائمًا أقوى من تلك العناصر الإرهابية، فإن الأخيرة تحاول أن تحد من قدرات أجهزة الأمن، بأن تستحوذ على عنصر المبادأة باختيار الوقت والمكان وحجم المهاجمين وشدة الهجوم والأسلوب أو التكتيك المستخدم في العملية وذلك لأن المجتمع الصناعي والمدني الحديث يضم أعدادًا بالغة الضخامة من المنشآت والأهداف التي يحتمل أن تكون عرضة للعمليات الإرهابية، ومن ثم لا يمكن سواء من ناحية التكلفة الاقتصادية أو من ناحية الأعداد البشرية تأمينها تأمينًا كاملاً ضد احتمالات تعرضها للعمليات الإرهابية، وإذا ما استطاع التنظيم الإرهابي ضمان عنصر السرية، فإن عنصر المبادرة الذي من المفروض أن تملكه سلطات الأمن يتلاشى.
وكما يقول الأستاذ (Kerstetter) عن اعتراض الإرهابي وإيقافه قبل قيامه بالهجوم هو المحور الأساسي لأي اعتراض إرهابي وإيقافه قبل قيامه بالهجوم هو المحور الأساسي لأي رد فعل رشيد للتهديد الإرهابي، وهذا الاعتراض يتطلب حدوثه معلومات كافية وفي وقت مناسب عن أنشطة هؤلاء الذين هم متورطون مباشرة في العمل الإرهابي، ويوازي ذلك تمامًا في الأهمية، المعلومات عن شبكة المناصرين لهم الذين يعضدونهم بتوفير المأوى والأسلحة والعتاد وغير ذلك من مساعدات[20].
المعلومات والتحريات:
إن الانتقاد الذي يوجه إلى الأجهزة الموكلة بجمع المعلومات، وفي كل الأحوال انتقاد واهٍ وضعيف، إذ أن المعلومات هي خط الدفاع الأول ضد الإرهاب السياسي، وعلى الرغم من الحملات التي تثار ضد نشاطات جمع المعلومات في دول ديمقراطية مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وكندا، فإن هناك اهتمامًا قويًا من أغلب قطاعات الرأي العام يؤيد أجهزة الأمن في نشاطاتها المحلية والدولية لجمع المعلومات الحساسة والحيوية، فمن الواضح أن واجب الحكومات الديمقراطية المنتخبة من الجماهير، أن تجمع وتحلل أكبر قدر من المعلومات عن الجماعات السياسية المتطرفة، لأن أغلب هذه الجماعات تهدف علنًا إلى الإطاحة بنظام الحكم المختار من الجماهير، ومثل هذه الحكومات إنما تمارس حقًا بل وواجبها في الدفاع عن النظام الديمقراطي، وهذه الإجراءات الوقائية المتمثلة في جمع المعلومات هي إجراءات مبررة ما دامت تتم في حدود القانون.
ولا تثير مثل هذه الحالات الواضحة قلقًا لدى الرأي العام، ولكن يثور النقاش حول عمليات جمع المعلومات وتحري أنشطة الجماعات أو المنظمات التي لا تعتنق أو تناصر الأساليب الإرهابية، والتي لا يبدو بوضوح وجود ارتباط بينها وبين النشاط الإرهابي، وفي هذه الحالات يرى “كوبرمان” Kupperman أنه من المستحيل عملاً القول أو معرفة متى ستتحول مجموعة غير نشطة أو مغمورة فجأة إلى نشاط مثير للغاية، ومن أمثلة ذلك منظمة التكفير والهجرة التي تحولت فجأة للخطف والقتل، ومنظمة “الحنفيون المسلمون” في الولايات المتحدة الأمريكية التي قام أفرادها فجأة في مارس 1977م باحتلال ثلاثة مباني حكومية واحتجزوا 134 رهينة لمدة 39 ساعة، وأثاروا الرعب في مدينة واشنطن، ولم يكن لهذه المنظمة أي نشاط سابق ولم يسبق متابعة أو جمع معلومات كافية عنها[21].
لذلك فإن هناك رأيًا يحض على ضرورة متابعة أنشطة المجموعات التي يظن أنه ليس لها ارتباط أو تورط مباشر في الأنشطة الإرهابية، ولكن مخاطر الأخذ بذلك الرأي تخلص في الاحتمالين الآتيين:
الخطر الأول: هو احتمال اتخاذ ذلك مبررًا لوضع أي شخص أو أي مجموعة تحت الملاحظة والتصنت، وأحيانًا باستخدام أساليب تقنية معقدة، وفي ذلك إهدار للحريات العامة، وتضييع للجهود وتشتيت لها.
الخطر الثاني: وهو الأهم أن المعلومات التي يتم جمعها تحت هذا المبرر قد تستخدم لأغراض أخرى غير ملاحقة النشاط الإرهابي حيث يساء استخدامها في أغراض سياسية أو شخصية أخرى[22].
على الرغم من هذه التحفظات المثارة في الدول الغربية، إلا أن القاعدة الأساسية في التعامل مع المعلومات، أن من يملك المعلومة يملك القوة Knowledge is power، والتعامل مع المنظمات التخريبية يتوقف نجاحه على درجة النجاح التي تحققها سلطات الأمن في معرفة المعلومات الكافية، وفي الوقت المناسب، وهي أكثر وسائل المكافحة أهمية، ويمكن القول إن إجهاض الأنشطة التخريبية، هو السبيل الوحيد لتفادي الخسائر المحتملة تفاديًا تامًا، لأن أية عملية أخرى من عمليات الشرطة تحمل قدرًا من المخاطرة والتكلفة لابد من التضحية به في مكافحة التخريب.
خلاصة:
تقضي اليقظة الإستراتيجية وضعا سياديا شبيها بوضع الأسد العجوز والثعلب: حيث قرر أسد في طور الشيخوخة لم يعد قادرا على تأمين طعامه بنفسه أن يلجأ إلى الخداع، فتمدد في كهف زاعما المرض، وكلما جاء حيوان لزيارته كان يفترسه. وحين اختفى الكثير من الحيوانات أدرك الثعلب ما الذي يجري.
فذهب لزيارة الأسد لكنه بقي على مسافة منه خارج الكهف وسأله عن أحواله؟
أجاب الأسد: “آه، لست على ما يرام”، ” لكن لماذا لا تدخل؟”.
فأجابه الذئب: “كنت دخلت لو لم أر الكثير من آثار الخطوات الداخلة إلى الكهف، دون أي خطوات خارجة”.
فكذلك الحكماء الإستراتيجيون يلاحظون علامات الخطر ويتفادونها.
الهوامش:
[1]- Freedman, Lawrence. Strategy: A History 2013- excerpt. p.51
[2]- Gartner, Scott Sigmund, Strategic Assessment in War, Yale University Press, 1999. P. 122
[3]- Heuser, Beatrice, The Evolution of Strategy: Thinking War from Antiquity to the Present Cambridge University Press, 2010), p.12
[4]- Holt, Thaddeus, The Deceivers: Allied Military Deception in the Second World War, Simon and Schuster, June, 2004, hardcover, 1184 pages, p.211
[5]- Matloff, Maurice, ed.), American Military History: 1775-1902, volume 1, Combined Books, 1996. P. 74
[6]- May, Timothy. The Mongol Art of War: Chinggis Khan and the Mongol Military System. Barnsley, UK: Pen &Sword, 2007. P.30
[7]- Tomes, Robert R., US Defense Strategy from Vietnam to Operation Iraqi Freedom: Military Innovation and the New American Way of War, 1973–2003, RoutledgePress, 2007. P.156
[8]- Wilden, Anthony, Man and Woman, War and Peace: The Strategist’s Companion, Routledge, 1987. P.155
[9]- Black, Jeremy, Introduction to Global Military History: 1775 to the presentday, Routledge Press, 2005. P. 82
[10]- Carpenter, Stanley D. M., Military Leadership in the British Civil Wars, 1642-1651: The Genius of This Age, Routledge, 2005. P.160
[11]- Chaliand, Gérard, The Art of War in World History: FromAntiquity to the Nuclear Age, University of California Press, 1994. P. 19
[12]- Aguilar, G.C., Napoleon’s Military Maxims, free ebook, Napoleon’s Military Maxims. P. 147
[13]- Roger Faligot ; Les services spéciaux de sa Majesté, Messidor/ Temps Actuels, 1982. P.11
[14]- Kim Philby, Ma guerre silencieuse, Éditions Robert Laffont, 1968. Les mémoires du célèbre agent double MI6-KGB). P. 196
[15]- Robert Boucard, Les dessous de l’espionnage anglais, 1929. P. 1104
[16]- Colonel David Smiley, Au cœur de l’action clandestine. Des Commandos au MI6, L’Esprit du Livre Éditions, 2008 traduction de Irregular Regular ـ 1994). Les mémoires d’un officier du SOE en Albanie en 1943-44 puis du SOE en Asie du Sud-Est et enfin du MI6 après-guerre Pologne, Albanie, Oman, Yémen). Le colonel David Smiley assura la formation militaire à Malte des commandos albanais les Pixies- infiltrés soit par la côte, soit par le Nord de l’Albanie. P. 55
[17]- John Prados, Guerres secrètes de la CIA, Éditions du Toucan, 2008. traduction de Safe for cracy: The Secret Wars of the CIA ـ 2006). P. 101
[18]- Stephen Dorril, MI6: Inside the Covert World of Her Majesty’s Secret Intelligence Service, The Free Press, New York, 2000. P. 18
[19]- Anthony Cave Brown, La guerre secrète titre original : Bodyguard of Lies), éditions Famot 1975. P. 09
[20]- Smiley, Colonel David 1994). Irregular Regular. Norwich: Editions Michael Russell
[21]-Tomlinson, Richard; Nick Fielding 2001). The Big Breach: From Top Secret to Maximum Security. Mainstream Publishing. P. 19
[22]- Walton, Calder (2012). Empire of Secrets. London: Harper press. P. 415
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية/”المركز الدبلوماسي”