نشأة الفن المعاصر المغربي

بقلم: طوني مرايني

ظهر قبل الاستقلال بعامين في المغرب كتاب صغير الحجم بعنوان ” ميلاد الرسم الإسلامي بالمغرب”. تعرض مؤلفه “سانت – إينيان” في فصل من فصوله إلى بعض الرسامين الشباب المسلمين الذين اكتشفوا انفتاح العالم التشكيلي في وجوهم”. فلقد قسمهم إلى نوعين، رسامين درسوا الرسم وآخرين عصاميين، في الصنف الأول، ذكر أسماء عبدالسلام الفاسي وحسن الكلاوي ومريم مزيان وعمر مشماشة وفريد بلكاهية، وفي الصنف الثاني ذكر أسماء محمد بن علال وأحمد بن إدريس اليعقوبي ومولاي أحمد الإدريسي والحمري. وبما أن هذا المؤلف أشاد بالاستعمار الثقافي، فإنه نسب فضل نهضة الرسم المغربي إلى ما قامت به الحماية من أعمال. غير أن تحليلنا الموثق لهذه المرحلة يناقض ما أثبته هذا المؤلف. فعند قراءتنا لكتابه، نخرج منه بانطباع أن المؤلف عوض أن يبحث عن بداية تاريخ الرسم المغربي في فترة الاستقلال، حاول أن يردها إلى فترة الاستعمار، وكان ذلك مفاجأة غير منتظرة على أنه إبان فترة الاستقلال، أنجز رسامون آخرون عبر أبحاثهم أعمالا متنوعة وخصبة، فرضت نفسها على أنها ظاهرة مغاربة، الشيء الذي جعل البورجوازية تتذوقه ومثلها المثقفون والإيديولوجيون أيضا، كل فئة تعكس عليه رغباتها وآمالها وغاياتها. ولدى اكتشاف الغرب لصحوة العالم الثالث، قبلت المعارض الدولية الكبرى عرض بعض النماذج لرسامين منتمين إلى البلدان الحديثة العهد بالاستقلال، (ومنها المغرب) تلك التى رأت في الرسم نوعا من الخطوة، في حين أن الرسامين أنفسهم خم وحدهم الذين تحملوا عبْ هذه المهمة الشاقة في هذه المرحلة التاريخية.
وحين نتحدث عن البداية لا ينبغي نسيان المخاض الطويل الذي تفرضه كل ولادة. فالرسم ليس طفلا، إنه سيرورة حية. هكذا كانت بداية الرسم المعاصر في المغرب عميقة الجذور في حقبة تمتد على مدى طول النصف الأول من القرن العشرين. بداية أساسها في رسم يعزى إلى حقبة الاستقلال، رسم أكد نفسه بعد ذلك باعتباره باعثا على استيقاظ الوعي النظري ابتداء من السنوات الستين.
أما اللحظة الحاسمة لهذه السيرورة التاريخية، فقد تحققت حين اعترف للرسم في المغرب بأنه ظاهرة ثقافية تتسع للأحلام وللرؤي وللمواهب، وتجعل الأسلوب والكيفية يختلفان من فنان إلى آخر، غير أن المهم يبدو في أن الرسم مطالب به على أنه تعبير فردي وعلى أنه نوع من اللغة يدخل في نطاق مشروع ثقافة معربية معاصرة. هكذا بدأ حضور محتشم لبعض رسامين مغاربة ابتداء من سنة 1951 في صالونات رسامين أوروبيين في المغرب. وفي سنة 1952، في صالون الشتاء بمراكش، عرض فريد بلكاهية، وعمر مشماشة، والطيب لحلو، وحسن ا لكلاوي، ومولاي أحمد الإدريسي، ومحمد الحمري، ومحمد بن علال. واقيم أيضا بين نهاية السنوات الأربعين وسنة الاستقلال، بعض أوائل المعارض الفردية (الحمرى، ومريم مزيان، (أول رسامة مسلمة في المغرب) وفريد بلكاهية مثلا) ثم إن معارض شخصية دشنت في الخارج، (الجلاوي والإدريسي وأحرضان والبايز واليعقوبي) وبعد الاستقلال أي في السنوات الخمسين، أقيمت في المغرب معارض فردية، من بينها معارض المكي مورسيا والمكي مغارة والجيلالي الغرباوي وكريم بناني ومحمد المليحي ومحمد عطا الله وسعد السفاج وأحمد الشرقاوي. وأقيم على الخصوص عدد من المعارض الجماعية، مما ساهم في إعطاء نظرة أولى عامة عن الرسم المغربي لهذه الحقبة. وبين المعارض التي أقيمت في الخارج يمكن ذكر مساهمة المغرب في بينالي الأسكندرية الثاني سنة 1957، (شارك فيه بالإضافة إلى الرسامين الذين ذكروا، بل من حسداي الموزنينو وبنهاييم ومريس أراما وحسين) وفي معرض الفنانين المغاربة في سان فرانسيسكو ميزيوم أوف ارت سنة 1957، وفي رواق المغرب في المعرض الدولي ببروكسيل سنة 1958، أو في واشنطن d.c ولندن وفيينا إلخ.
وأخيرا ففي سنة 1959 شارك المغرب في أول بينالي للشباب في باريس، حيث وقع الاختيار على الغرباوي وكريم بناني وبلكاهية وحسين والمليحي والباز كان باريس لهذه الفترة مركزا للفن المعاصر في أوروبا. على أن هذه المشاركة لم تكن لتمر في خفاء. فمن بين زائري هذا البينالي فينتوري الذي كتب في المجلة إيطالية إكسريسو “بأن الاكتشاف الحقيقي بالنسبة إليه كان في باريس حيث السحر اللامنظر للرسم المغربي ثمارا معترفا بها خارج حدوده، وفي هذه الأثناء فإن مصالح الفنون الجميلة والمتاحف المغربية (التي تولت إدارتها نعيمة الخطيب) نظمت في المغرب عدة معارض جماعية متجولة، أصبح معها الرسم المغربي الوليد ذا وجود شعبي حقيقي. وابتداء من سنة 1960، نشر غاستون ديبل في إطار المركز الثقافي سلسلة كتيبات صغيرة مزينة عبارة عن دراسات عن كل من الغرباوي والإدريسي واليعقوبي وأحرضان والشرقاوي وبن علال وبلكاهية.
فهل كل هذا كاف ليدل على أن الرسم حصل في المغرب على جميع احتياجاته ومطامحه؟ لا. ذلك أنه بمناسبة معرض “رسامي مدرسة باريس والرسامين المغاربة” الذي دشن في الرباط سنة 1962، فإن الناقد الفرنسي ميشيل راغون الذي أعجب بتنوع وحيوية شباب الرسامين الأهالي (سماهم أيضا رسامين شبابا مغاربة حقيقيين) فكتب :”الرسامون الشباب المغاربة الحقيقيون هم اليوم أبعد من أن ينالوا نجاحهم ، فهم مدينون بالتعريف بهم إلى كل من غاستون دييل ونعيمة الخطيب مديرة المتاحف المغربية. “(بستان الفنون رقم 114، ص 29) وعندما استعمل راغون صيغة الرسامون الشباب المغاربة الحقيقيون”، كان لفظة حقيقيين تعني قياسا إلى بعض الرسامين الأجانب المقيمين في المغرب، (فبركة لوحات بشكل آلي من أجل تصديرها، جمال ونخيل ورقصة البطن إلخ). هؤلاء الرسامون الذين لم يجرؤ أي غاليري في باريس على عرض أعمالهم، كانوا طيلة أيام الحماية متصدرين ولايزالون. إن أعمالهم بالنسبة إلى بعض بورجوازيي المغرب(..)المنبهرين بالحكاية، هي الرسم المغربي الحقيقي”، وفعلا، فإنه بالرغم من المساعي المحمودة التي قام بها أولئك الذين دعموا الرسم المغربي الوليد، فإن الوضع عراه التباس تجاري وثقافي وأخذ على أنه رسم مغربي حقيقي. ولطمأنة الجميع، فإن المعارض الجماعية الجوالة انتهت بالحصول على مواد مرسومة من كل نوع. وبدون أي عمل يراهن على الكيف، وبدون تحدي أصول تاريخية ثقافية، وبدون تعمق في النظرية وفي الفكر، فإن الخطر تبدى في الوصول إلى الباب المسدود. وازدادت خطورة هذا الالتباس بتأكيد بعض الملاحظين الأجانب ومنهم سانت – إينيان أن الرسامين المغاربة انطلقوا من فراغ ثقافي عوضوه بالمثاقفة. حتى ميشيل راغون روج لهذه الفكرة حين أكد:”إن الرسامين الأهالي يبنغي أن ينطلقوا من صفر، لأن رسمهم التقليدي كان ليس غير سم تزييني، ولذا كانوا عالة على الرسم الأوروبي.(نفس المصدر ص 26) إنا نعرف أنه ماعدا بعض المقلدين وأمثالهم في كل مكان، فإن الرسامين الأوائل المغاربة لم يأخذوا دروسهم في مدارس الرسم التي لم يستطيعوا حتى حدود السنوات الخمسين) الالتحاق بها، ولكنهم أخذوها فيما هو أكثر فائدة، وهو ما يمكن أن نسمييه روح العصر. ومن جانب آخر، فإن إرادة القطيعة والميل إلى التعبير الذاتي عند الرسامين المغاربة، مصدرهما هو القلق الناتج عن توجه نحو الأحلام والخرافات والألوان والعلامات والرموز، تلك التي يزخر بها عالم جواني مرتبط بتاريخهم نفسه، إن حالات اليعقوبي والإدريسي وأحرضان دليل على ذلك، ويمكن سرد أسماء أخرى. إن الرسم الشعبي والثقافة التقليدية لم يكونا فراغت تزيينيا، وحتى الرسم المعاصر ذلك المفرق منه في التجريدية غير عاكس لحركة البحث عن ألصول، وهذا ما تمركزت حوله المعايير الثقافية في السنوات الستين.
وفي سنة 1962، أكد راغون تقسيم اتجاهات الرسم المغربي إلى اربعة رئيسية : الاتجاه الذي يستلهم الفولكلور، (يعني بذلك الفنون الشعبية) والاتجاه الغرائبي (السحري) والاتجاه التجريدي والاتجاه الفطري، غير أننا أخذنا برأي سانت – غينيان، فاختصرنا هذه الاتجاهات في اثنين رئيسيين فقط. وبعد أقل من عامين، لم يكن البحث ليعثر على غير هذين الاتجاهين .. والتزاما للدقة، ففي سنة 1964، أشار بيير جوديبير (في كتابه : الرسم المغاربي) على عدد من اتجاهات التجريد المعاصر في أقطار المغرب، ومنها المغرب (الانطباعية والهندسية واللاشكلية والغنائية) توازي هذه تشخيصية حلمية مؤسلبة فطرية أو انطباعية وبعيدا من أي تأثير أكاديمي رسمي أو أي مدرسة أسلوبية، فإن الرسم المغربي انعكست عليه عدد من الاتجاهات والشخصيات والعوالم الرؤيوية. وعبر السنين وقع الانصراف إلى البحث عن منابع تتوخى استرجاع الذاكرة وهي تنحو في نفس الوقت نحو الأزمنة المعاصرة. لقد عبر الشاعر الجزائري م. عبدون عن هذا التصور بعبارة قريبة من عبارة أطلقها م. خيرالدين، وهي :” الذاكرة المستقبلية”(أنفاس 10-8-1968، ص 13). على هذا الحد، فنحن لا نزال في السنوات الستين، أي في عمق فعل جمعوي وفي نقاش مستقل اتخذ موقفا إشكاليا حتى بالنسبة إلى حقبة البداية. وبعد انصرام حقبة الغبطة بصحوة العالم الثالث، كان على الرسامين أن يواجهوا كثيرا من الصعوبات المتعلقة بعرض أعمالهم في جو من احترام المتطلبات المعنية والفنية، من أجل الحصول على تغطية صحفية ملائمة، ومن أجل متابعة أبحاثهم متحررين من أغلال بلاغة فولكلورية حكائية وتماثلية. وأيضا ،أصبح عسيرا عليهم اقتحام المجال الدولي الذي أصبح منذ الآن فصاعدا سوقا لا يروج فيه غير رسم كله غربي. هذا وإن التفكير والنقاش اللذين دارا حول أبحاث هؤلاء الرسامين وفي مدة عشر سنوات، كانت الوضعية الدولية قد تغيرت كثيرا ووجد لهذا التغير صدى في المغرب، مما دفع بعجلة سنوات البداية إلى تطور وتجديد جذريين.
لنعد إذن إلى السنوات الخمسين أي إلى المرحلة التي سبقت الاستقلال ثم تلته، أي مرحلة بداية الرسم المعاصر في المغرب، فهي كما يقال مرحلة الربط المعقدة الهجينة. فلقد مرت حقبة الحماية وفتح أما الرسامين عهد جديد. ذلك أن الذين سبق لهم أن أنتجوا أعمالا في سنوات الاستعمار شاركوا في العرض رسامين شبابا ولدوا في عهد الحماية وطرقوا مجالات أخرى. فإن أعمالا تشخيصية أو فطرية عايشت أعمالا تجريدية. وكان هنا رسامون مختلفون لكل سوقه وجمهوره أو رسامون لا جمهور لهم ولا مستهلك لأعمالهم، اتخذوا كممثلين للرسم المغربي الوليد. ولأنه في دوامة الغبطة بالبحث عن الإنقاذ والشرعية حيث يتعذر وجود التصنيف، فإن المعارض ضمت بين رحابتها كل من حمل في يده فرشاة وزعم أنه رسام. وحين يقارن بين الرؤي التجارب تسترجع فقرات من تاريخ تمت معرفته بشكل سيء عبر أعمال معروضة سيئة البناء، يقدم كل ذلك على أنه من الرسم الوطني. ومن الشمال إلى الجنوب كان على الرسامين أنفسهم وعلى الجمهور بصفة أكثر، أن يجدوا فعلا في هذا الرسم وجودهم المتبادل. إن الرسم المعاصر في المغرب بحث عن روحه وعن سبب وجوده وعن وحدته المادية. أما حماسة الرسامين والجمهور فلقد كانت بمثابة تقريظ له، فماذا يعني هذا الرسم؟ إن هذه الخطوات الأولى ضرورية لفتح حوار ومحاولة الإجابة عن هذا السؤال. إن الأجيال الشابة الراهنة لا تقدر صعوبة وضعية الرسم المغربي في حقبة البدايات البعيدة. فغالبا ما ينسون ما أحدثه الاستعمار من تأثير في المهمة التي قام بها من أجل بناء ثقافة تشكيلية وطنية. الصحافة والنقاد وغاليرات العرض والمشترون والجمهور والمجلات الثقافية والعلاقة بين المؤسسات والرسامين ومعرفة الماضي واستعادة الميراث التشكيلي الوطني، كل ذلك بدا كما لو أنه إشكالية يجب أن تحل بأي ثمن كان ولو بفراغ بنيوي كبير، لعل هذه الأجيال عرفت كم كان صعبا ودراميا معنى أن يصبح الإنسان رساما يمتلك الأدوات الضرورية، ويفتح نافذة على العالم، ويقطع الصلة مع زمن مضى. كانت الاستعدادات كثيرة، ولكن حظوظ التكوين الفني البعيد عن مجال العصامية بل حتى حظوظ الدراسة نفسها كانت جد محدودة. على أن الاحتكاك بالرسامين الأجانب الذي سهل إمكانية استعمال أدوات الرسم والتردد على ورشاتهم كان حاسما بالنسبة إلى بعض الرسامين المغاربة(بن علال واليعقوبي والأدريسي مثلا) وإذا عرف شمال المغرب مدرسة تطوان تلك التي كونت رسامين مغاربة في السنوات الأربعين، فإن بقية المغرب كما ذكر سانت – إينيان كانت قد عرفت سنة 1954، ندوات خاصة بالتدريب على التخطيط الفني وعلى الرسم استفاد منها الشبان المسلمون من الجنسين. هذه الندوات أنشأتها مصلحة الشباب والرياضة.
وبهذه المناسبة، يجب أن نشير إلى الدور الخاص الذي لعبته جاكلين بروتسكيس، تلك التى نشطت أحد معامل هذه المصلحة في الرباط حيث رعت موهبة كل من الأبيض ميلود والجزولي. ولقد قامت بعض العائلات بتضحيات كبيرة حين أرسلت أبناءها إلى الخارج للتكوين في معاهد الرسم ومن هؤلاء في هذه الحقبة من أصبح علامة بارزة ذات ذات شأن في الرسم المغربي(المليحي والشرقاوي وشبعة وكريم بناني والغرباوي) وكان أيضا أمام هؤلاء الرسامين الشباب إمكانية الاستفادة من بعض المنح للدراسة في بلاد أجنبية مختلفة. مما كان سببا في تنوع التجارب التي حصل عليها هؤلاء الرسامين المغاربة( في أسبانيا وإيطاليا وفي بلدان أوروبا الشرقية وفي فرنسا وفي الولايات المتحدة الخ) تنوع التجارب هذا ساهم في إثراء مجالات الأبحاث الفردية. لكن ن فإذا كان شباب الرسامين المغاربة اليوم يملكون في الغرب علامات مرجعية فإن الرسامين المنتمين إلى مرحلة البداية خاضوا في ميدان مجهول. لذلك، فليس سرا أن نذكر الجمهور بهذه المسائل المتعلقة بمغرب تغير اليوم جذريا، إن كل ما يدعو إلى تحريك الذاكرة لا يكون إلا مفيدا.
وأخيرا فيمكن عند مواجهة رسامي هذه الحقبة ألا ندرك اليوم إدراكا حقيقيا فائدة بعض التجارب المتعلقة بالمواد والرموز والعلامات والصور. إن الأعمال الهشة في الزمن وفي القاعدة المادية، تحدثنا عن شئ خارجي في تصورية متخيلة. أما ما يبقى من طور فني على مقاس سيرورة حية، فهو ما أقحم في هذه الرغبة. إن التجارب إن كانت في لحظة ما هادفة إلى التجديد، لمن الممكن أن تفقد جدتها الأصلية إن وقع الاقتصار فيها على لوحات قليلة. غير أنها إذا انتهجت طريق التنويع: كتعبيد طريق واكتشاف شكل وتدقيق رمز، فإن المكتسبات من خلالها تبقى راسخة في المحصول التاريخي، وبعكس ذلك فإن حكم التاريخ سيقحم عنصرا زائدا في عملية إدراك الحقبة.
ينبغي أن ننظر بعين التقدير الكبير إلى المجهود الضخم الذي قام به هذا الجيل الذي انطلقت به أولى بوادر التشكيل المغربي، (1955-1965) ذلك أنه عانى كثيرا من العوائق والإحباطات. تجلت العوائق في انعدام ثقافة بصرية لدى المغاربة آنذاك (إلا ما كان خاصا بالفسيفساء والزليج والقيشاني)، وفي وقوف التقاليد دينية أو عرفية في وجه كل محاولة يقصد منها إدماج البصري في التذوق الجمالي. وتجلت الإحباطات في أن مستهلك التشكيل المغربي أجنبي وليس محليا، ولذلك، كان استغلال الإمكانيات التشكيلية المحلية يكاد أن يكون ضعيفا. يضاف كل هذا إلى أن جيل الانطلاقة عانى من سلطة الآباء الواقعين تحت تأثير فكرة حرمة التصوير التي جهر بها الفقهاء وأشاعوها في الناس، فكان أن منع الآباء أبناءهم من ممارسة الرسم تعلما وتعليما وهواية واحترافا. ولم يصمد في وجه هذه الفكرة إلا الرسامون الذين ذهبت بهم الجرأة إلى أبعد مدى، أو الذين كان لهم آباء متنورون، وحتى العامة، ما كانوا يرون في الرسام سوى إنسان يشغل وقته بما لا يليق به.
في هذا المناخ المضطرب، مارس جيل الانطلاقة التشكيل الذي كان آنذاك عبارة عن اتجاهين رئيسين هما التشخيصية على اتجاهين هما الانطباعية والفطرية، بينما اشتملت اللاتشخيصية أي التجريدية على الغنائية والمفارقية والعلامية والإلصاقية والهندسية والسوريالية والتلفيقية.
ويلاحظ أن التشخيصية الفطرية قامت على العصامية، والتشخيصية الانطباعية على الدرس الأكاديمي، على حين امتازت اللا تشخيصية بكون أغلب ممثليها تخرجوا من كبريات المدارس الفنية الغربية. يستثني منهم أحمد اليعقوبي، فلقد كان عصاميا شجعه على الرسم رسامون غربيون أقاموا في طنجة في السنوات الخمسين.

التشخيصية الإنطباعية

يمثل جيل التشخيصية الانطباعية كل من محمد السرغيني وحسن الكلاوي ومريم أمزيان، ويجمع بين هؤلاء جميعا أنهم اتخذوا لرسوماتهم موضوعا خاصا بكل واحد منهم، فالمكان للسرغيني والفرس للكلاوي والمرأة لأمزيان ، كما جمع بينهم وفاؤهم للأساليب الأكاديمية ولعكس أعمالهم على مظاهر مغربية.

محمد السرغيني والمكان

لقد انفرد محمد السرغيني (1923) في تشخيصيته بدراسة المكان على أساس الحالة أو المعمار أو التاريخ، المكان باعتباره فضاء للوحة. إن الأبواب المتمركزة في بعض لوحاته لتعكس أول ما تعكس تراثا طاله الإهمال، يؤكد ذلك أن الألوان والخطوط والمسافة التي تنجز بها هذه الأبواب تكتسب تعبيريتها من إقصاء الآلي لصالح توحيش بسيط. وفي إطار المعمار تنصب كل رؤية الرسام على تحديد هيكل مزدحم لمنازل تتجاور على رأس ربوة في إطار فضاء يشكل حدود المساحة المرسومة، كما هو الشان في تلك اللوحات التي تشخص بعض أحياء تطوان هناك طراز قوطي أندلسي من حيث شكل هذه المنازل، وهناك طراز محلي تطواني يدل على بياض الجير وسطيح قرميدية حمراء هي ميراث أندلسي؟ وفي إطار التاريخ يبدو المكان المرسوم بمحتويات في لوحات الأبواب والمنازل عبارة عن شهادة مزدوجة أولها نشوء وآخرها أيلولة، ويعني هذا تسجيلا لأوضاع كانت على غير ماهي عليه حاضرا. وهذا ما يؤكد أن سيرورة التاريخ في مخيلة الرسام عكسية إذ تنطلق من الكمال وتؤول للنقصان، إنها رؤية إدانة. وعليه، فالمكان عند الرسام طبيعة ميتة حينا وحينا آخر موضوعة Le theme وحينا ثالثا تعبير لوني ذو نكهة مغربية شمالية، وحينا رابعا توحيش شفاف. أمن الخطوط والإيقاع والحيز والمسافة فلكها ذاتية لانطلاقها من هاجس مغربة التشكيل.

حسن الكلاوي والفرس

قامت تشخيصية الرسام حسن الكلاوي (1924) على مقولة الفرس في أوضاعه المختلفة، فهو كينونة وهو في نفس الوقت كائن. هو كائن من حيث أنه موضوع خصب للتحليل التشكيلي، وهو كينونة من حيث إظهار نبله واقفا وكبريائه متأودا ونفوره مسرعا.
الكائن مادة والكينونة حركة. وهنا يمكن أن نتساءل، هل هذه الكينونة لا تتكامل إلا باجتماع صفاتها المختلفة الموزعة على لوحات، أو أنها يمكن أن تلتقط كلها في لوحة واحدة، وتكون في اللوحات الأخرى تنويعات على الأصل ؟ الجواب أن هذه الصفات موزعة على ماهو أكثر من لوحة، مما يعني أن مقولة الفرس هذه تتدرج تصاعديا من لوحة إلى أخرى. وهناك تساؤل آخر، وهو هل تشخيص كينونة الفرس بهذا الشكل تشيييء له؟ لعل الأمر لا يعدو أن يكون وسيلة لتدريب اليد على نقل ما تشاهده العين اللاقطة من تقاطيع جسده المختلفة الدقيقة.
رأى الرسام في الفرس كائنا تشريحياً وجمالياً وفروسياً. فهو كائن تشريحي من خلال بروز تقاطيع جسده في حالة وقوف أو سباق أو جموح أو استعراض، وهو كائن جمالى من خلال تناسق هذه التقاطيع، وهو كائن فروسي من خلال حركات فانطازيا مغربية. كل ذلك بتشفيف الألوان في الجسد، وتعتيمها في فضاء اللوحة حتى ليكاد الفضاء أن يصبح ظلا للمرسوم فيه. ولا تأخذ الخطوط منحى تجريديا بل منحى عاديا لأن غايتها أن تعبر بالحقيقة لا بالمجاز. وإذا كان الإيقاع في لوحات الرسام أكثر بروزا فلأنه الوسيلة الوحيدة لتصوير الواقع حرفيا، وما لمسافة إلا فضاء فيه يتحرك هذا الايقاع. إن توقف الرسام عند الفرس في أغلب أعماله، لا ينافي أن بعض أعماله الأخرى شخصت المادة كطبيعة ميتة، والإنسان كحياة وكأوضاع نفسية مختلفة. مما دل على وفرة المرجعيات التي استقى منها الرسام تأثيراته التشكيلية.

مريم أمزيان والمرأة

أوقفت الرسامة مريم أمزيان (1930) أغلب أعمالها على تحليل المظهر الخارجي للمرأة في الجنوب المغربي، لما تتيحه للنظر من تماوج ألوان في أزيائها بما ينعكس عليها بهذه الأزياء من ظلال شمس الغروب وصفاء زرقة السماء. على أن بعضا من أعمالها الأخرى إن كانت تعكس نفس الحنين إلى المنابع المغربية الأولى، فإن انطباعيتها لم تهمل بقايا الأشياء التي يتكون منها هذا الجنوب، ذلك أنها تقتنص كل ما هو نموذجي فيه كالمعمار البدائي القائم على عنصر الطين المتمز بقصوره وقبابه. أما في خصوص المرأة الجنوبية فقد رسمت لها الرسامة صورة جانبية لوجهها (Portrait) كما لو كانت تلح على إبراز خصوصياتها في الزي وفي الزينة وفي صفاء الملامح وفي خشونة البشرة، كما رسمتها في حالة حركة جماعية وهي تؤدي رقصة أحيدوس، كما اهتمت بتصوير المظهر الخارجي للعرائس وهن يتحلين بأنواع الزهور وفي آذانهن الحلي الفضية الأمازيغية.
إن لوحاتها التي ينتقل فيها اللون الواحد بتدرج عبر ما يتناسل منه ألوان، لتعكس قدرتها على استيلاد الألوان إما بالمزج الكامل وإما بالجزئي، وعلى تبسيط التعبير من حيث المعطي الصوري وتكثيفه من حيث الدلالة اللونية، ذلك أن هذا التدرج المنجز بعناية تنتظم فيه التلوينات التي تبلور الموضوعة في أوضاع مختلفة، كما تجعل الشكل مصاحبا لهذه الأوضاع. ولعل اللون الأزرق الغامق الذي يتشكل منه نقاب النساء الجنوبيات هو ما يلفت نظر الرسامة، يجد للأزرق الغامق في النقاب نوعا من الهرمنة مع زرقة سماء الجنوب وسطوع شمسه. وهنا نتساءل: هل ما في لوحات الرسامة من محلي باعثه الانتماء والحنين إلى الانتماء، أو أنه بحث عن الغرائبى ؟ الحق أن هناك فرقا بين رؤية سياحية وأخرى تأصيلية، إذ أن شمس الجنوب وزرقة سمائه لاتسير غورهما إلا رؤية جنوبية حقيقية.

التشخيصية الفطرية

تمثل التشخيصية الفطرية اتجاهات خمسة : عجائبية مع محمد الحمرى، وطفولية مع احمد الأدريسي ، وحكائية مع أحمد الورديغي، وحدسية مع محمد بن علال، ومشهدية مع الطيب لحلو.
على أن الجامع بين هذه الاتجاهات الفطرية الأربعة، هو أنها انطلقت من محلية مغربية فضاؤها هو المدينة أو القرية الجنوبية أو بعض المناطق البحرية، كما اتفقت في توزيع ألوان لا يهيمن أحدها على الآخر، وفي تشغيل فضاء اللوحة كله، فلا فراغ فيه، وفي الاستفادة من التراب الفني التقليدي المغربي.

محمد الحمري والعجائبية

تبدو فطرية الرسام محمد الحمري (1932) عجائبية، لأنها تستمد نسغها من الوهمي حينا ومن الخارق للعادة حينا ثانيا، على أنها في كلتا الحالتين تتخذ من اليومي موضوعا لها، تعريه من مظهره المنطقي الواقعي، وتزج به في إطار العجيب والمدهش، حتى لكأن الحقيقي وهو والعادي رتيب، مما يجعلها تقترح على المشاهد عالما جوانيا ساخرا توحيشيا تتكوم فيه المرئيات والمحسوسات. وتتوسل هذه العجائبية إلى ذلك باستعمال الألوان المضيئة المصممة تصميما دقيقا لكي تعبر عن المحلي في المدينة أو القرية الجبلية. المدينة عبارة عن قباب خضراء تشير إلى عالم الولاية والأولياء، والقرية وهدة أو منبسط من الارض ليست ذات كثافة سكانية.
ولعل ما رسمه من هذه المشاهد واقع تحت تأثير المكتسب مما تعلمه الرسام من مجتمع الأجانب في طنجة، ولذلك فاليومي عنده متحرك وموسمي، متحرك بما فيه الشخوص، وموسمي بما فيه من انبهار هذه الشخوص بالإجتماع في محيط واسع من المدينة. والحق أن شخوصه واقعية أو غير واقعية، كالعرائس التي يلح على ربطها بموضوعة اللوحة، في علاقة متخيلة بينها وبين البشري. أما طريقة الرسام في إنجاز رسوماته فمعتمدة على الألوان الفاتحة إن تعلق الأمر بالشخوص الحية أو المتخيلة، وعلى الألوان الغامقة إن تعلق الأمر بتحديد فضائية المكان. وتلعب الفرشاة دورا أساسيا في خلق نتوءات في أرضية اللوحة لتدل بذلك على أن مرحلة اللون الخام لا تزال مستمرة عند الرسام ولم تصل بعد إلى تعبيريتها النهائية.

أحمد الإدريسي والطفولية

وتقوم فطرية الرسام أحمد الإدريسي (1923-1973) على الاغتراف من عالم الطفولة الذي هو المتخيل البديل عن العالم الراهن الذي ليس سوى معاناة مريرة. وعذا ذلك، فهذا العالم المتخيل الطفولي تتقاطع فيه الأعمار، رجال برانسهم تخفي وجوهم، رجال محاطون بأشجار يابسة أشكالها غير طبيعية، رجال مصحوبون بحيوانات كالحمير والخيول، كأن الماضي الطفل هذا محدود ومقصور على هذه المخلوقات. كل ذلك في إطار فضاء محفوف بمشاهد تحددها خطوط لا تشي بما بين هذه المشاهد من تقارب، مما يبرر اغتراف الرسام من لا وعيه الذي يقوم مقام الذاكرة.
إن مضمون هذا التصور الطفولي الذي هو رسالة الرسام المبثوثة في اللوحة، توازيه رمزية لا تغيب عن ذهن الناظر المتفحص، رمزية تتدرج فيها الألوان إلى مقاماتها المختلفة، وكلما وصل اللون إلى آخر مدى من مقاماته، توصل إلى طريقة بها يسهل مهمة سطوع لون آخر عليه، إلى أن يتقلب هو الآخر في مقاماته. هذا والوشيحة التي تجعل الارتباط بين لون وآخر هي انبثاق اللونين معا من نفس الفصيلة. ولذلك تخصبت ا لرمزية التعبيرية للألوان حتى أصبح البني رمزا لتراب الأرض ورمالها، والأخضر رمزا للخصوبة المتجلية في استمرار الحياة، والأصفر رمزا لغياب الحوار وحضور العنف، والأحمر رمزا للدم السائل الذي هو نذير الموت. ومهما يكن الأمر فما عاناه الرسام من إحباط في طفولته أصبح مثار تأمل في يفاعته وشيخوخته.

أحمد الورديغي والخرافية

وتقوم فطرية الرسام أحمد الورديغي (1928-1974) على الحكي الذي يمرر الرسام من خلاله خرافات جلها مستوحى من أجواء ألف ليلة وليلة. أما مواضيع هذه الخرافات التي تتراوح أهدافها بين الأخلاقية والوعظية والتزهدية الجامعة بين الفرحة والمحكي والمشخص فمستوحاة من تقاليد شعبية مغربية (الفداوي). ومن عجيب الأمر أن فضاء اللوحة يتسع لكل هذه العناصر حتى وإن كان متوسط الحجم.(للرسام لوحات كثيرة من الحجم الكبير). إن إزدحام لوحات الرسام بكل ما يتطلبه الحكي من شخوص وحركات وتداولية زمان واختلاف مكان، جعل كثيرا من مستهلكي اعماله ينبهرون بما فيها من تزيينية تلتقي فيها قباب المساجد بنوافذ القصور المنيفة التي صمم لها الرسام معمارا خرافيا حين جعلها أفقيا وعموديا تلتقي بشكل عشوائي، ولأن الحكي يستلزم وجود شخوص فإنها هي الأخرى خزافية النموذج مبثوثة كيفما اتفق لها في فضاء اللوحة، متساكنة مع أنماط من الحيوانات التي تكاد أن تكون أسطورية، مما دل على مخيلة خصبة. ولولا حضور تقاليد شفوية واحتفالية في أعماله، لأمكن القول بأنه يستلهمها من عالم صمم هو بنفسه جغرافيته المتخيلة.

محمد بن علال والحدسية

وتقوم فطرية الرسام محمد بن علال 11924 على احتفاء كبير برؤية الحاضر الراهن في صيغة أشكال صورية تحدث ولا تعاش أي تتخيل محدوسة. وكان من المنتظر من فطري مثله أن يرتكز أساسا على الذاكرة التي تميز بين مجرد حاضر راهن وبين آخر. هو قيد الواقع. ولما لم يتحقق ذلك، صح أن يقال : إن هذه الأشكال الصورية تقيم بين هذا الواقع وبين فهمه حاجزا، فالرسام بهذه الأشكال لا يلتقط غير ظل الصورة. هكذا يبدو الواقع الراهن كما لو أنه مشاهد وهمية – وربما هلامية – حيث إنها مكدسة في لوحاته بشكل بعيد عن الانسجام. هذه هي الصيغة المحدوسة اللائقة بالعالم المثالي المنشود كما تصوره هذا الرسام. إن شخوص الرسام بشرية (الفران والمعلم والمرأة العاملة) دالة على احتفائه بالعنصر المهم في هذا الحاضر حاضره، وما اختلافها من حيث وظائفها إلا دلالة على أن الواقع ذو وجوه مختلفة لولا اختلافها لأمكن أن تكون الرتابة هي ما يعكس التشكيل. على أن هذه الشخوص تكاد تكون مستوحاة من المنمنمات الفارسية، في دقة الخطوط وتداول الألوان وازدحام الفضاء بها كل هذا لم يمنع الرسام من تأثيث بعض رسومه بطير الحباري ونبات خبازي، وذلك حين تعلق الأمر بلوحات فضاؤها هو الجنوب المغربي، مما قرب هذه اللوحات إلى تزيين جغرافي منها إلى فضاء مؤهل لاستقبال نماذج مرسومة عليه.
والذي جعل من رؤية الرسام للحاضر الراهن رؤية ساخرة هو توحيشه لبعض مظاهر الحياة اليومية توحيشيا لا يتورع عن المبالغة في استعمال اللونين الصلصالي والبنفسجي تلوينا لنموذج أو تعميرا لفضاء أو تفصيلا لمجمل في اللوحة.

الطيب لحلو والمشهدية

ارتبط الرسام الطيب لحلو (1919) برسم مشاهد من الجنوب المغربي، لكنه كان شديد التعلق بالضوء الناصع الممزوج بظل وارف واضح وهو يضع التصميم البنائي لهذه المشاهد بصيغة تركيبات أفقية منفصل بعضها عن بعض بجبال أو بربوات، تركيبات قائمة على أساس من اللون الصلصالي الذي يغشي جدران القصبات الجنوبية.
هذا ولا تقتصر مشاهده على الشكل الثابت للأبنية، بل تتجاوزه إلى رسم شخوص يتحركون في فضاء اللوحة. إنهم رجال في حالة عمل، ونساء متبرجات بخمر وبحلى ذات ألوان حية، عبر الرسام عن إيقاع حركاتهن الراقصة بالألوان الغامقة. هذه الحركية هي ما يكسر رتابة المشاهد البنائية الثابتة في مقارها، وهي ما يؤكد هيمنة التقاليد العريقة التي هي النسيج البكر لكل لوحات الرسام، ذلك أن المشهد عنده بتوازي فيه المتحرك والراكد بشكل يوحي بقيام هذا الفضاء على أساس المفارقة.
إن الميزة الأولى التي تلاحظ في أعماله محاولته إغداق الدفء على ألوان مندمجة في إيقاع محكم منشرح، حيث يهيمن الأحمر والأزرق والرمادي، وحيث تحدث هذه الألوان مجتمعة نوعا من التناغم والثراء التعبيريين يتجددان من لوحة إلى أخرى.

اللاتشخيصية واتجاهاتها

لا يمكن الجزم بأن الاتجاهات التي سنشير إليها فيما يلي هي اتجاهات غالبة على أصحابها ممن يمثلون جيل الانطلاقة، ذلك أنهم لم ينطلقوا منها منذ أول عهدهم بمغامرة الرسم، بل انتهوا إليها بعد أن قاموا بجولات في مختلف الاتجاهات التي سادت التشكيل المعاصر ابتداء من الانطباعية والوحشية والتكعيبية، وحين حطوا رحالهم على عالم التجريد الفسيح انبهروا بثرائه الذهني وقدرته على استبصار المرئيات متحركة أو جامدة، وتوغله في عالم اللا وعي المفسر لكثير من الغوامض. كان التجريد في عرفهم طريقة انتماء إلى المعاصرة، والبحث عن مناطق نفوذ عذراء بحثا عن التفرد والخصوصية. إنه تخصيب الظاهر بالباطن.
وهكذا فهناك تجريدية غنائية مع الغرباوي، وتجريبية مع بلكاهية، ومفارقية مع كريم بناني، وعلامية مع الشرقاوي، وإلصاقية مع المكي مغارة، وهندسية الأشكال مع المليحي، وهندسية المفاهيم مع شبعة، وسوريالية مع أحرضان، وتلفيقية مع اليعقوبي.

الغنائية

تبدو التجريدية الغنائية عند الرسام الجيلالي الغرباوي (1930-1971) في الضوء الذي يهب المادة حركية ونصاعة وفي اللون الواحد منسدلا على ألوان أخرى، وفي الإيقاع الذي يموضع المرسوم في فضاء اللوحة موازيا للضوء واللون وللألوان المتصاقبة. وبالطبع، فهذه الغنائية أكثر تعبيرية من الانسجام، لأنها هي التي تجعل موقعه في اللوحة مريحا. وتلعب الخطوط المتشابكة في بؤرة اللوحة والمنفرجة في أطرافها دوراً أساسيا في هذه الغنائية. اللون في فضاء اللوحة بكر وليس خاما، لأن الخام في حاجة إلى المزج على حين أن البكر يولد جاهزا للتعبير التشكيلي.
هذا وتعرب الحركة من خلال هذه الغنائية عن وجدان الرسام الذي يتفاءل مع رسومه باعتبارها وسيلته المعربة عن كوامنه. والذين عرفوا الرسام كثيرا ما أشادوا بما بينه وبين رسوماته وحالاته النفسية. لكن هذه الحركة التي تميز أكثر أعماله لا شكلية، بسبب من أنه يشعرنها إذ يمنحها دلالة جوانية لا تعكس غير القلق والميل إلى الوحدة، فعن طريقها يعلن ولاءه إلى عالم يفهمه وينفر منه في نفس الآن.

التجريبية

إن الرسام فريد بلكاهية (1934) لم يصل إلى التجريدية التجريبية إلا بعد أن جرب أساليب عديدة لرسامين غربيين معاصرين. كانت هذه الأساليب كلها تستقي وحيها من موضوعة الإنسان. وما تخلص من ذلك حتى انصرف إلى تجريدية تجريبية كان مدفوعا إليها بسبب من تهافت زملائه في جيل الانطلاقة عليها. تتميز هذه التجريدية من حيث اللون بالميل إلى الغامق وتهميش الناصع، وهذا ما حذا بالرسام أولا إلى اللجوء إلى الأقنعة التي تخفي الوجوه وراءها، رامزا بذلك إلى ما يخالجه من الشك في صفاء السرائر لدى الإنسان الساعي إلى إخفاء هويته. ثم مر من الأقنعة إلى استغلال ما في النحاس من قابلية تشكيلية أساسها التجسيم. وكان في ذلك عالة على الصناعة التقليدية المغربية التي لم يستطع النفاذ إلى جوهرها، كما لم يستطع تطويعها إلى المعطيات التشكيلية المعاصرة، ثم انساق إلى التجريب في مادة الجلد، وبما أن هذا له محيط من نفسه، فإن الرسام لم يكن ليضع له إطارا، كأنه رسم جداري وليس لوحة. وفي كل من النحاس والجلد كانت الموتيفات تقوم مقام الشخوص، وكان النقش في الأول والوشم في الثاني هو ما فيهمها من أثر تشكيلي. وفي إطار الألوان عمد إلى استغلال صفرة الزعفران وحمرة الحناء وسواد الصمغ لرسم الأيدي المنتصبة، كل ذلك من أجل اكتساب هوية خاصة. ولعله استفاد – في إطار التجريب ايضا – من علم الفلك الإسلامي حين اصطنع في بعض رسوماته الأبراج وفضاء المزولة.

المفارقية

إن الرسام كريم بناني (1938) في بدايته وقبل أن يستقر على التجريدية المفارقية قضى وقتا يسير في رسم الوجوه البشرية ذكورا وإناثا رسما يخفي في طياته نزوعا حكائيا نفذه بألوان مكثفة، وبعد ذلك انصرف إلى الاهتمام بالخط العربي مستغلا ما فيه من إمكانيات زخرفية وهندسية، وكان ينجزه بخطوط كثيفة تشي بما في هذا الخط من رمزية أصلية، كل ذلك بأسلوب النتوء والنقش على الخشب، ثم بعد ذلك انصرف إلى الزرابي حين اكتشف زخرفيتها الخالصة. من هنا ابتدأ اهتمامه بملاحظة المفارقة في المرئيات من الأشياء ومدى ما يمكن أن تسهم به في صقل عدسة العين المجردة، وفي تزويد الحساسية بالقساوة اللازمة.
وتميزت هذه التجريدية من حيص المضمون بانعدام الموضوعة وبالبحث عن صلة الماضي بالحاضر بحثا انتهى بأن قطع الرسام صلته بالفنون التقليدية مغترفا من ينابيع تعبير تشكيلي حداثي. أما من حيث الشكل، فقد التمس الرسام بالمفارقة الجمع بين الجامد والمتحرك من أجل إعطاء الحركة بعدا آخر لا يقوم إلا على أساس خداع العين، من ذلك كان إلحاحه على تحميل اللون صورة ضده بما يفيئه عليه من تغميق بالمزج، ومن ذلك أيضا تطعيم المادة حية بما يوحي بموتها والعكس بالعكس. وكان الرسام في كل هذا المنعطف واقعا تحت تأثير كثير من الإتجاهات التجريدية التي سبقه إليها كل من الغرباوي والشرقاوي.
العلامية : ومن البداية، اتخذت تجريدية الرسام أحمد الشرقاوي (4391-7691) طريق البحث عن العلامة في الخط العربي وفي الفن التقليدي البريدي. وحين عمق بحثه فيها، أصر بشكل حاسم على عرضها في لوحاته بمهارة دلت على تمكنه من النفاذ إلى عمقها بحساسية تصل بين الماضي والحاضر. وكان أن انصرف بدافع تعلقه بالعلامة هذه إلى البحث عنها في مجال آخر هو مجال الوشم على بشرة المرأة. ولعله بذلك كان مفتونا بالبحث عن الأصول الأسطورية للوشم، تلك الأصول الراجعة إلى ماض سحيق اجتمعت فيه الجمالية بالطقوس الدينية، موائمة بين الدنيوي والديني، فأصبح لها بذلك مدلالوت متشابكة باعتبارها عنصرا تزيينيا. وسع الرسام بحثه عنها في الفخار وفي الحلي وفي الزرابي وفي الجلد وفي بشرة الإنسان، فجردها من مظهرها القار ووهب لها حركية محكمة دلت على حضورها الشامل في حياة الانسان الاجتماعية.
ولقد عرض الرسام العلامة هذه عبر وسائل تشكيلية بأسلوب شصي لم يجاره فيه أحد من الرسامين المغاربة الذين اهتموا بها. عرضها عبر بروز ألوان أعطتها بعدا جديدا انعكست عليه تأملاته وروحيته وإحكامه للخطاب التشكيلي المعاصر. ولعل نظر الفنان فيه قاده إليه ما عرفت هذه في أميريكا من تحليل على يد بيرس، قبل أن تصبح عنصرا مهما عناصر السيميولوجيا، ولذا فموقف الرسام منها أنها لغة بالإشارة أولا وبالحروف ثانيا، هي تاريخ فعلي وأسطوري، وهي تزيين فوق ذلك.

الإلصاقية

ابتدأ الرسام المكي مغارة (1932) يرسم المشاهد المختلفة التي تساعد حاسة الرؤية على دقة الالتقاط وقدرة اليد على مجاراتها، وتلت هذه المرحلة مرحلة رسم الوجوه البشرية رسما يكاد يكون آليا، الشيء الذي دل على أنه استطاع أن يطوع العين لليد واليد للعين. ولعله كان في هذه المرحلة شديد الالتصاق بالأسلوب الأكاديمي الذي هو أول الطريق. تلت هذه مرحلة التعبير التشكيلي الذي إن دل على غنائية عامة فإنه مال إلى إقصاء الأشكال من اللوحة، والاستعاضة عنها بالموتيفات التي تحيل عليها ذاكرته، وهي موتيفات في أغلبها شبحية غير كاملة التكوين، وهذا ما جعله يستغل قماش الخيش الذي بث فيه لواعج رسام دائم الترحال. وتم له ذلك عبر الصمغ وعبر ألوان يهيمن عليها الأزرق والأحمر والأبيض المشهب، مما يعطي انعكاسا لمظهر التهابات من جهة، ولنتواءات من جهة ثانية. وكان هذا هو مفهومه للشفافية.
بعد هذه المرحلة اتخذت اللوحة عنده في الغالب فضاء مقسما إلى جزئين جزء هو الأيمن منجز بشكل عادي ، وجزء أيسر جعله في الغالب كذلك مرتعا لأطياف شخوص أو لبعض أعضاء بشرية مكبرة بشكل مسخي. وكذا هذا ما قربه من عملية الإلصاق التي أدخلت إلى اللوحة عناصر غير تشكيلية من المواد الجامدة المختلفة، كالخيوط والخرق وقطع اللدائن أو الحديد، وكان هدفه من ذلك مزدوج الغاية، فهو يريد خرق العادة بخروجه عن المألوف، وهو في نفس الوقت يؤكد أن كل ما في الكون صالح لأن يستغل تشكيليا.

هندسية (الأشكال)

ظهر الرسام محمد المليحي (1936) أول ما ظهر في الساحة التشكيلية المغربية تجريديا هندسيا واستمر على ذلك إلى الآن، فدل اختياره المبكر هذا على أنه لم يقم في المرحلة الأكاديمية إلا مدة يسيرة. ومحصل تجريديته أنه يستغل الأشكال الهندسية لا بقصد توأمتها بشكل زخرفي، بل بأشكال متنوعة هي خلاصة قراءته لقدرتها التعبيرية. هذا ولكي يبعد عنها النمط الزخرفي الرتيب فقد اختار لها أوضاع ليست لها في الغالب : قارن المثلث بالمستطيل والأفقي بالعمودي والدوائر بالخطوط المائلة، وقدم كل ذلك في إطار ألوان أبكار تعبيرها أكثر إشعاعا مما لو كانت ممتزجة. وكان أول ما اهتدى إليه الرسام أن غير سمات الخطوط الأفقية والعمودية والمائلة فجعلها متمرجة أكسبها تعبيرية هندسية متناسقة وهي منضدة أو متراكبة أو متوازية. وكان أن اتخذ من هذا التموج شعارا خاصا بأعماله أحادي اللون. شعارا أصبح فيما بعد وسيلة لانبثاق عدة نظريات مجازية تقرأ اللوحة من خلالها على أنها فقرة متراصة حركتها لا تنقطع.

هندسة (المفاهيم)

كذلك، كان الرسام محمد شبعة (1935) مثل زميله المليحي منطلقا من آخر ما توصل إليه بحثه في اللغة التشكيلية، حيث حط الرحال منذ بدئه على تجريدية هندسية تتعيى المفاهيم دون الأشكال، وملخص هذا الاتجاه أنه يتحرى تحقيق حركية غنائية يسودها اللون الأسود والأبيض، هي طريق الرسام المعبد الرامي إلى تأسيس مفاهيم للغة التشكيلية، مفاهيم لا تهمل المكتسب الغربي، كما لا تفرط في الاثيل التقليدي، مفاهيم تحدد مجال الهوية الخاصة بالرسام جامعة بين الأصالة والمعاصرة المنبثقة من ثقافتين، وذلك عبر صفاء اللون وتوزيع الضوء توزيعا نسبيا وتحييدية المادة وهندسية أرضية اللوحة وحضور الإيقاع الذي يحدث توازنا بين الممتلىء والفارغ.
والرسام فوق ذلك يستلهم الهندسة العربية القديمة فقد قدم منها أشكالا وخطوطاً وتعاريج إلا أنه لم يسقط في فخ الزخرفية، بل كان قصد إلى استنطاقها وتحليلها لا إلى محاكاتها. لقد طوعها لمتخيله بطريقة دلت على رؤية صقليه تسعى إلى تحقيق تواصل مع الماضي انطلاقا من إعادة صياغة المادة في قالب هندسي.
لم تكن كل أعمال الرسام تصب في الاتجاه الهندسي المفاهيمي، بل إن صاحبها بين الحين والآخر جال في آفاق تجريدية أخرى جمعت بين الممكن واللا ممكن، بين الحلم اليقظ والحلم النائم، ولكنه سرعان ما يعود إلى اختياره الأول لأنه ملاذه الأول والأخير. أما ابتعاده عنه فليس إلا ظرفيا أي استجماما يفرضه على المبدع إدمانه الاتجاه الواحد.

السوريالية

يختفي الرسام المحجوبي أحرضان (1924) وراء تجريدية سوريالية ذات تعبيرية تشكيلية ملتبسة، يطغى عليها الحدسي، حتى ليجعل منها عالم حلم يحرر الرسام من سلطة هواجسه. إنه بهذه المواراة خلق عالما غاصا بالنزوات، عالما إذا كان لا يشبه عالمه المعيش الواقعي، فإنه مع ذلك ترك فيه شيئا من جوهره، جوهر الباحث عن هوية في مزدحم يعج بالهويات المختلفة.
إن السوريالية في هذه التجريدية تتكىء على مجالي الطبيعة حيث يجري الماء من اللا بداية ويركض نحو اللانهائية، وحيث الحيوانات ذات التكوينات العجيبة، والنباتات المتشابكة الأغصان كما لو أنها نباتات أدغال، وحيث الغنائية اللونية والضوئية تشير إلى لطخات فرشاتية شعثاء، وحيث الشخوص ذوو ملامح غريبة ومحاصرون لا صلة لهم بالعالم الخارجي إلى من خلال كوي ضيقة، مما تصبح معه الرؤيا الواضحة على جانب كبير من القساوة. هذه السوريالية في لوحات الرسام الأخيرة دالة على نظرته الثاقبة الذكية العميقة التي هي رؤيا شاعر أكثر مما هي لرسام. ولأن هذه السوريالية على هذا النمط، فإنها لم تستق من دالي الاعتماد على الحدس واللاداعي، وينقصها ما امتاز به هذا الإسباني الفذ من ثقافة شاملة.

التلفيقية

تعكس لوحات الرسام أحمد اليعقوبي (1932-1987) تجريدية مستوحاة من أهم اتجاهات التشكيل المعاصر الذي عرفه الغرب منذ السنوات الثلاثين فتجد لفي لوحاته ملامح انطباعية مرة وتقويرات تكعيبية مرة أخرى، وأثرا توحيشيا مرة ثالثة. ولكن ما يميز أعماله الأخيرة أنه مال إلى تجريد تلفيقي Eclectrique استفاد من كل ما ذكر، وقام على ثراء المخيلة التي تضخم الحجم الصغير وتقلص الحجم الكبير إما للتعرية وإما للمسخ، وذلك بحثا عن جمالية غير مألوفة، كما قام على الخرافي من الأحداث مستمدا إياها من الذاكرة ومن الطفولة ومن الحلم صياغة ورؤية ومعيشا. والحق أن المخيلة والخرافي والذاكرة والطفولية تعاونت على ابتكار هاجس يؤرق ذهنية الرسام، ودليل ذلك أن كل هذه العناصر حاضرة في أعماله كلها بنسبة تقل أو تكثر، يقدم الرسام كل هذه العناصر بطريقتين : طريقة الشخوص وطريقة الموتيفات : شخوصه الحيوانية أسطورية، وموتيفاته مستفادة من مشاهداته التي خصبت ملاحظاته. هاتان الطريقتان عرضتا عبر مزج لوني محكم، غير أن الرسام إذا آثر فضاء اللوحة بالعتمة وكانت ربتات الفرشاة فيه صريحة، فإنه بربتات لونية ناتئة، أفاء على الشخوص والموتيفات نصاعة كأنه جعلها المقصودة بالذات، إذ لا يهم هذا الفضاء بالقياس إلى أهمية الشخوص والموتيفات. إن هذا دليل آخر على عصامية الرسام التي لا ترى التصويرية والتشكيلية إلا على هذا المنوال.

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *