يعتبر مفهوم السلفية من المفاهيم التي يعسر ضبطها لفرط استعمالها في سياقات مختلفة ومتباينة، إذ غدا بسبب التوظفيات المتعارضة التي يتعرض لها، لغما إيديولوجيا معرضا للانفجار في أي لحظة ليلحق بالباحث أضرارا بالغة. ليس أقلها سوى الانسياق وراء المسلمات الضمنية التي قد يكتسبها المفهوم عند القوى الاجتماعية التي تتبناه.
في مواجهة هذا العائق الأولي، يفضل العديد من الباحثين توسيع الحقل الدلالي للمفهوم للتمكن من إدخال مختلف السياقات التي يستعمل فيها في مجالات دراساتهم، ومثل ذلك، التعريف الذي ينظر إلى السلفية على أنها «دعوة سياسية إيديولوجية تستهدف صياغة الحاضر والمستقبل وفق صورة مثالية متقطعة من الماضي، الذي يعتقد أنه أفضل العصور الإسلامية وأولاها بالإقتداء»[1].
ومنها، أيضا، من ينظر إلى المفهوم على أنه يحمل «مشروعا للإصلاح العقائدي والاجتماعي، تبلور في البداية مع ابن تيميه وابن القيم الجوزية كرد على ما اعتبر انحرافا في فهم العقيدة الإسلامية وفي تأويل النصوص المقدسة. وبعد ذلك بقرون، استعادت حيويتها على يد محمد ابن عبد الوهاب لتقاوم ما اعتبرته تسربا لأشكال الوثنية في العقيدة وقواعد التعبد، ثم تحولت إلى أرضية فكرية لمعظم حركات الإصلاح الفكري والسياسي التي شهدتها المنطقة السنية للعالم الإسلامي».[2].
ويتضح من التعريف الأخير أنه يضع السلفية في مصاف أحد الأنساق الفكرية الموجودة في التعامل مع الإسلام يمكن تسميته ب”النسق النصي” ، بدأت في شكل اجتهاد فردي لتتحول إلى مدهب ديني ثم إلى مدرسة فكرية تعتمد النص القطعي في مقاربة الظواهر والأشياء متمايزا في دلك على الانساق الفكرية الأخرى وهي:
-النسق المقاصدي ( الاسلاميون)
-النسق التأويليي(المتصوفة والشيعة)
– النسق التاريخي (المفكرون الجدد)[3].
رغم حذاقة التعريف السابق وفائدته في تمييز السلفية باعتبارها نسقا فكريا عن باقي الأنساق الأخرى، فإنه يسبب مشاكل عديدة بالنسبة للدراسة السوسيولوجية الجزئية بسبب ما يحمله من تعميم الحساسية. لذلك، فإن التقليص من معنى مفهوم السلفية يعد خطوة منهجية أساسية، ليس بغرض حصره في بعد وحيد، وإنما مجرد التقليل من مداه بشكل يستبعد من حقله الدلالي، قدر الإمكان، كل ما قد يرتبط به من مضامين لا تدخل في مجال اهتمام الباحث. وباختصار، يتعلق الأمر، إذن، بنوع من الانكماش المفهومي الذي سنسلكه لصياغة تعريف براغماتي Définition pragmatique) ( يروم التحديد الدقيق والمباشر للسلفية التي ستكون محل الدراسة، وذلك اعتمادا على مضمونها الأكثر بروزا، تعريف تقاس مرورديته حسب قدرته على تيسير تناول الموضوع من الوجهة السوسيولوجية.
انطلاقا من هذا الحذر المنهجي، تنظر هذه الدراسة إلى مفهوم السلفية على أنه يرمز إلى نزعة احتجاجية على التطويرات التي طرأت على مستويين من المستويات الأساسية للدين، وهي المستوى الفكري والتعبدي، فقد تهتم بعض هذه النزعات السلفية بعملية إعادة تقنين الدين على المستوى العقدي ، هادفة إلى الترشيد الميتافيزيقي والأخلاقي للعقائد كما هي موجودة بالفعل، وقد تنصرف نزعات أخرى إلى إعادة تقنين الشعائر الدينية، بتوحيد نماذجها، كلماتها، إشاراتها وإجرائاتها، لكي يحافظ على النشاط الشعائري الأصلي في مواجهة البدع المستجدة.
وقد وضع ماكسيم رودنسون نموذجا مثاليا لنشأة النزعة السلفية يقول: ” يحصل برود وفتور في الإيديولوجيا الدينية بين حين وآخر، وذلك بسبب اصطدام النظرية بقساوة الواقع، ولهذا السبب يجد القادة والكوادر والكثيرون من أفراد القواعد أنفسهم مدعوين إلى إحداث نوع من “المراجعة المستمرة” التي يخفونها تحت ستار الإصلاح، وعندما يصبح التفاوت كبيرا جدا بين هذا التعديل أو المراجعة وبين المنطلقات الأولية للدين، فإنه يوجد دائما بعض المؤمنين الذي ينهضون ضد هذه الخيانة“.[4]
على أن أصوتا كثيرة تعالت عبر التاريخ الإسلامي حاملة لهذا المشروع، وبرز مصلحون متعددون على مدى حقب هذا التاريخ، كما برزت حركات اجتماعية عديدة حاولت إحداث تغيرات في الفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية بناء على هذه الرؤية (محمد عبده، الأفغاني، علال الفاسي…)، كما أن هناك مجموعة التنظيمات الدينية المعاصرة التي تستغرق هذه الأهداف جزءا من مشاريعها الإصلاحية، لكن سقف البناء الإيديولوجي وأفق العمل الميداني عند أولئك المصلحين و تلك التنظيمات لا يتوقف بالضرورة عند تلك الأهداف، بل يتعدى ذلك بكثير لتمتد إلى اهتمامات أخرى، فلا تكون الأهداف السابقة سوى نشاطا من بين مناشط أخرى أكثر أهمية في تحديد الهوية الإيديولوجية لمختلف الناطقين باسم السلفية.
وعلية فإن الحقل الدلالي الدي نتوقف عنده هي الحركات التي يتوقف فهمها للسلفية عند التعريف الذي استعرضناه مستعبدا غيرها من الحركات وكذلك المصلحين الذين يمارسون الدعوة باسمهم الخاص وبدون أي انتماء تنظيمي.
لكن الأمر مازال مفتقدا إلى الإطار الضابط، بدليل وجود كثيرين من المنتسبين للسفلية تختلف مواقفهم من الواقع إلى درجة التناقض أحيانا. كما قد يختلف مجموعة من الدعاة في مسالكهم الدعوية ومناهجهم الحركية مع تبنيهم جميعا للسلفية.
المراجع:
[1] – صلاح الدين الجورشي، التأثيرات السلفية في التيارات الإسلامية المعاصرة. ضمن المؤلف الجماعي، إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر.(مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى، 1991)، ص 207[2] – المرجع نفسه، ص 205-206
[3] – يندرج تحت المقاربة التاريخية أسماء عديدة لعل من أهمها: كرييم سورش ، محمد أركون، فضل الرحمان، أمين الخولي، محمد خلف الله، نصر حامد ابو زيد، عبد المجيد الشرفي…. حول هدا التيار من الفكر راجع:
Benzine (R), Les Nouveaux penseurs de l’Islam”,(Paris : Collection , “L’Islam des Lumières” Albin Michel Spirituaاités). 2004
[4] – ماكسيم رودنسون، ظاهرة التزمت الإسلامية والمحافظة في كل مكان، محاولة إيضاح.ترجمة هاشم صالح، (بيروت:مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، العدد 22، 1985)، ص31. ولعله من المفيد التذكير بالتمييز الذي يجريه رودنسون بين السلفية أو المحافظة المحدودة المرتبطة بالنصوص، ولكنها لا تستطيع إبعاد التغير تماما، وبالتالي إعادة أفكار المؤسس أو المؤسسين كما كانت في الأصل، وبين المحافظة الذكية وهي نوع من التجديد المموه –كما يقول- إذ تدخل رغم محافظتها على النصوص والرموز عناصر جديدة تتوافق مع العناصر المقدسة في البناء الإيديولوجي. انظر مؤلفه،الماركسية والعالم الإسلامي، ترجمة كميل داغر (بيروت، دار الحقيقة، 1984)، ص 77-79.
* مركز جاك بيرك في العلوم الانسانية والاجتماعية – الرباط