توطــئة:
تعد الترجمة (Traduction) حلـْـقة وصل بين الحضارات، ووسيلة تحاور بين الثقافات. ومن هنا فهي نشاط مهم في حياة الأمم قديما و حديثا. كما أن الترجمة عملية صعبة ومعقدة؛ إنها ذلك الإبحار إلى الشاطئ الآخر على حد عبارة الأستاذ سعيد علوش(1). ويبدو أن الترجمة – في الوقت الحاضر- تُطرح باعتبارها “مفتاح الحداثة و مبتدى كل تطور حقيقي يتيح للغة أن تثبت وجودها وتتحول من أداة للتواصل إلى مصدر فكري وثقافي هام”(2)… هذه العوامل – وغيرها – هي التي دفعتنا إلى تدبيج هذا المقال في موضوع الترجمة.
وسنقسم بحثنا هذا إلى محاور أربعة؛ بحيث سنفرد أولها للحديث عن حقيقة الترجمة – بصفة عامة – وعن بعض القضايا المرتبطة بها، وسنخص المحور الثاني بالكلام عن أنواع الترجمة، والمحور الثالث برصد بعض ضوابط الترجمة “الجيدة” ومشاكلها، وسنقف في المحور الأخير عند واقع الترجمة – ترجمة المصطلح خاصة – في الوطن المغاربي، وذلك من خلال المَعاج على مجهودات الباحث الجزائري الكبير عبد الملك مرتاض في ترجمة المصطلــح الأجنبي وتعريبه.
المحور الأول: في الترجمة
يراد بالترجمة في المعاجم اللغوية معانٍ عدة، منها : التفسير والنقل والإيضاح. يقول ابن منظور المصري (ت 711 هـ): “الترجمان والترجمان : المفسر، وقد ترجمه وترجم عنه، … ويقال قد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر”(3). وجاء في “المعجم الوسيط” : “ترجم الكلام : بينه ووضحه. وكلام غيره، وعنه : نقله من لغة إلى أخرى. ولفلان : ذكر ترجمته.” (4)
و يقصد بالترجمة في اصطلاح النقاد نقل نص من لغة ( لغة المصدر) إلى أخرى ( لغة هدف). يقول كاتفورد (J.C.Catford) معرفاً الترجمة: “أن يستبدل بمحتويات نص في لغة (لم) ما يقابلها من محتويات نص في لغة أخرى (له)”. (5) ويعرفها جون دوبوا (J.Dubois) و رفاقه في ” dictionnaire de linguistique” بما يأتي: (6)
“Traduire c’est énoncer dans une autre langage (ou langue cible) ce qui a été énoncé dans une autre langue source, en concervant les équivalences sémantiques et stylistiques.”
و يحدد الإنجليزيون مصطلح الترجمة بما يأتي: (7)
“Translation is the replacement of a text in one language by a representation of an equivalent text in a second language”.
و يهِمنا في هذا البحث أن نعرف ” بترجمة المصطلح” باعتبارها صورةً من صور النشاط الترجمي التي حظيت باحتفاء عدد من الباحثين في الوقت الحاضر. يقول الدكتور علي القاسمي: ” الترجمة هي نقل المصطلح الأجنبي إلى اللغة العربية بمعناه لا بلفظه، فيتخيّر المترجم من الألفاظ العربية ما يقابل معنى المصطلح الأجنبي.”(8)
و عمومًا يمكن أن نقول إن للترجمة مدلولين اثنين، مدلولا عاما/ واسعا، و مدلولا خاصا/ضيقا. فأما المدلولُ العام فيراد به ما ذكرناه سابقا؛ أي النقل من لغة إلى أخرى، و أما المدلول الخاص فهو ما ذكره الدكتور محمد مفتاح حين قال : “إن الترجمة- في معناها الخاص- تعني النقل من لغة منطلَق (أو مصدر) إلى لغة مستهدَفة (أو هدف) لإشباع حاجات معينة و بشروط خاصة”. (9)
إن الترجمة إلى العربية نشاط قديم. إذ عرفها العرب في جاهليتهم بفعل احتكاكهم بالأمم الأخرى، و في صدر الإسلام برزت باعتبارها حاجة دينية و سياسية. وشهد عصر بني العباس حركة نشطة على مستوى النقل و الترجمة، وخاصة من الأغارقة و بواسطة السريان النصارى. و قد بلغت أوْجها على عهد المأمون- الذي كان معتزلي الاتجاه – منشئِ ” بيت الحكمة” ببغداد … و احتفل العرب احتفالا واضحا بالترجمة في عصر النهضة ( ق19) الذي سماه بعض الدارسين “عصر الترجمة” ، ولكنه في الحقيقة عصر الترجمة “الوظائفية” التي تستجيب لحاجيات أجهزة الدولة العصرية و عمودها الفقْري / الجيش.”(10) و في الوقت الحاضر، تزايد الوعي بأهمية الترجمة و خطورتها، و تم ابتناء عدد من المراكز الخاصة بهذا الشأن، و ظهرت أعداد كبيرة من المشتغلين بالترجمة في المشرق و المغرب معا.
إن الترجمة ظاهرة عامة؛ لا تقتصر على أمة دون أخرى. فهي حاضرة في الغرب كما في الشرق، و في الشمال كما في الجنوب. و لكن الثابت أن ثمة تفاوتا بين الجهات في الاحتفال بالترجمة و ممارستها، و ذلك لاعتبارات عديدة لا يسع المقام لذكرها هنا… و من الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا المجال ما يأتي:
1- ما طبيعة الترجمة ؟
2- هل الترجمةُ ممكنة أم متعذرة ؟
هذان سؤالان مهمان و وجيهان سنحاول الإجابة عنهما فيما يلي من الأسطر. و يبدو أن الدارسين قد اختلفوا اختلافا واضحا في تحديد طبيعة الترجمة؛ فمنهم من عدها علما، و منهم من نظر إليها باعتبارها فنا، و رأى آخرون أن الترجمة نظرية.
يرى باحثون أن الترجمة علم محكوم بقوانين و أصول معينة. و منهم محمد ديداوي، و فوزي عطية محمد صاحب كتاب “علم الترجمة : مدخل لغوي”، والأمريكي أوجين نايدا (Eugene nida) مؤلف كتاب “toward a science of translation” . يقول ديداوي: ” إن الترجمة في نظرنا علم مازال لم يكتمل بنيانه” . (11) و يقول – كذلك- في الدعوة إلى “علْمنة” الترجمة العربية و جعلها خاضعة لمبادئ العلم: “لا بد أن تتجاوز الترجمة العربية نطاق الفن، و ألا تكون مجرد هواية يلتمسها البعض لمتعة الفكر أو للربح التجاري الرخيص الذي قد يسمم العقول و يفسد الأخلاق. و لقد بدأت بالفعل تتبوأ منزلة العلم، إذ تدرس أصولها في الجامعات وتوضع لها النظريات و تحدد التقنيات كما أنها تتداخل مع فروع أخرى منها المعرفة.” (12)
و هناك دارسون ينفون نفيا قاطعا صفة “العلمية” عن التـــــرجمة ، ومنهم بيتر نيومارك (Peter Newmark)الذي يقول : ” ليس هناك ما يمكن أن ينعت بأنه علم للترجمة و لن يكون هناك أبدا شيء كهذا”.
و تذهب طائفة من الدارسين إلى أن الترجمة فـنّ، و خاصة الترجمة المتعلقة بالأعمال الأدبية. ذلك بأن هذه الأعمال التي يستوجب تأليفها موهبة فنية تقتضي من المترجم أن تكون له هو أيضا مقدرة فنية. و ممن قال بفنية الترجمة نذكر تيودور سافوري (th. Savory) صاحب كتاب ” The art of translation” ، وصفاء خلوصي مؤلف كتاب “فن الترجمة”، و محمد عبد الغني حسن صاحب كتاب “فن الترجمة في الأدب العربي”.
ويؤكد دارسون كُثر أن الترجمة نظرية قائمة بذاتها. يقول الناقد الإنجليزي رودا روبيرت (R.P.Robert) معرفا نظرية الترجمة بأنها “تشكيلة منظمة من المفاهيم تحاول تفسير ماهية الترجمة و كيف تتم، عن طريق بحث شتى العناصر التي تنطوي عليها هذه العملية.”(13) و يقول كاتفورد عن موضوعها: ” تهتم نظرية الترجمة بنمط معين من العلاقة بين اللغات، و من ثم فهي فرع من اللغويات المقارنة.” (14) ويقول روجر بيل عما يجب أن تكون عليه نظرية الترجمة: ” بصفة واضحة، لكي تكون نظرية الترجمة مفهومة و مستعمَلة، يجب أن تحاول وصف و تفسير النشاط و النتاج معا”.
و إذا كان من المؤكد أن ثمة “نظرية ” للترجمة عند الغربيين ، فهل نملك – نحن- مثل هذه النظرية ؟ الواقع أن العرب لا يملكون-إلى حد الآن- نظرية علمية خاصة بالترجمة، و كل ما في الأمر أفكار و معلومات متناثرة هنا و هناك، وتفتقر إلى رابط أو منظم يلم شتاتها في إطار نظري عام. و لتحقيق نظرية في الترجمة خاصة بنا، يقترح الباحث التونسي محمد عجيبة الأخذ ببعض الشروط الإجرائية، حيث يقول:”إن البحث عن تأسيس نظرية في الترجمة يقتضي اعتبار المواقف المختلفة بل والمتناقضة دون تلفيق، و لكن ضمن عملية استيعاب جدلية في رؤية شاملة كلية نهتم بالبحث فيها عن أبرز قضايا الترجمة، حتى نتمكن من معرفة آفاقها و حدودها في ظل شروطها و ملابساتها التاريخية و الحضارية- الثقافية و المعرفية و المتغيرة”. (16)
و بصفة عامة، فالترجمة- في العصر الحاضر- علم قائم بذاته، ولاسيما في الديار الغربية. إذ إنه يقوم على ضوابط معرفية محددة، و ينبني على جملة من المفاهيم و المبادئ. و يمكن الكلام عن الترجمة- باعتبارها فنا – في مجال الأدب والفن بخاصة . و نرى من المجانب للصواب الحديث عن نظرية ترجمية عربية في الوقت الحالي ، و من الممكن جدا أن تقوم هذه النظرية مستقبلا إن توافرت لها الشروط و الظروف اللازمة.
هذا ما يتعلق بالإشكال الأول. فماذا الآن عن الإشكال الثاني؟
لقد انقسم الدارسون في الإجابة عن السؤال الثاني قسمين متقابلين ؛ يرى أحدهما أن الترجمة عملية مستحيلة ( أو شبه مستحيلة)، و يرى الآخر أنها نشاط ممكن إلى حد مّا. و لكل فريق أدلته و حججه التي يستند إليها في إثبات زعمه و دحض ادعاء غيره.
ذهبت طائفة من الدارسين إلى أن الترجمة مستحيلة ، وذلك لاعتبارات لسانية و حضارية و فلسفية. إذ يرى بلومفيلد (Bloomfield) في كتابه ” le langage” أن الترجمة غير شرعية نظريا ومتعذرة عمليا، و ذلك راجع إلى اختلاف الثقافات و الحضارات و اللغون .
إن بعض المفردات قد تكون موجودة في لغة ما، و لكن ليس لها مقابل في لغة أخرى؛ و هو ما يسمى ” المحلات الشاغرة” (Cases vides)، الأمر الذي يدفع المترجم إلى اقتباس تلك المفردات و نقلها حرفياً. و مثال ذلك كلمة (الدولار) التي ترجمها العرب ترجمة حرفية، لعدم وجود مقابل لها في لغتهم. و تدعى هذه العملية” الإدخال”، و يسمى المصطلح الذي ينقل بهذه الطريقة دخيلا. ويعد بعضهم هذه العملية علامة عجز و قصور في أحايين عديدة، إذ يقول محمد عجيبة: “وليس الدخيل أو إدخال الكلمة برمتها إلى اللغة المنقول إليها في بعض الحالات سوى دليل على عجز المترجم”.(17)
وإذا كان الفرنسي يستعمل كلمتيْ (Fleuve) و (Rivière) للدلالة على شيئين، فإن المترجم العربي يستعمل لفظا واحدا لترجمتهما (نهر). ومن الواضح أن الفرنسي يضع فارقا دقيقا بين اللفظين؛ إذ يرى أن الأول منهما ( يصب في البحر)، في حين إن الثاني (لا يصب في البحر). و لدينا في العربية مفردتا (عم) و(خال) ، في حين ليس للفرنسي إلا كلمة واحدة يستعملها في ترجمتهما (Oncle). و لتدقيق الأمر، يضطر الفرنسي إلى تقييد كلمة (Oncle) ، عن طريق ربطها بالأم (خال) أو بالأب (عم). و تطرح صعوبة الترجمة بحدة في قضية الألوان.
و يترجم الفرنسي الكلمة (Pater) بمصطلح (Père)، في حين يترجمها العربي بكلمة (أب). و الحق أن “قيمة” كل منها مختلفة؛ لأن مشمولات الأب اللاتيني غير مشمولات الأب الفرنسي، وغير مشمولات الأب العربي.
لا شك أن ثمة صعوبة بالغة في ترجمة النصوص الإبداعية ( قصص- روايات- مسرحيات – قصائد) و نقلها من مجالها المعرفي و اللغوي إلى آخر. و قد نبه أبو عثمان الجاحظ (ت255هـ/868م) إلى هذا الأمر قديما، فأكد أن الشعر “لا يُستطاع أن يترجم و لا يجوز عليه النقل و متى حول تقطع نظمه و بطل وزنه و ذهب حسنه وسقط موضع التعجب منه، و صار كالكلام المنثور”. و من الصعوبة بمكان –كذلك- ترجمة الأمثال و الصيغ المسكوكة (Expressions figées).
و مقابل هؤلاء الدارسين، يرى كثير من الباحثين أن الترجمة عملية ممكنة إلى حد ما. و يثبتون أن اللغات يأخذ بعضها عن بعض للتعبير عن مفهومات جديدة أو للتدقيق في مفهومات قديمة. و من ذلك أن العربية- عبر تاريخها المديد- أخذت كثيرا من الاصطلاحات من اللغون الأخراة. و قد سرد الأب رفائيل نخيلة اليسوعي في كتابه “غرائب اللغة العربية” مئات المصطلحات التي اقتبستها العربية من غيرها، مع ذكر أصولها سواء أكانت آرامية أم فارسية أم يونانية أم عبرانية أم تركية أم فرنسية أم إنجليزية أم غيرها. فلفظة (بستان) – مثلا- اقتبستها العربية من الفارسية، و (فصح) من العبرية، و (قنبلة) من التركية، و (ترجمان) من الآرمية…كما أن العربية أثرت في لغات كثيرة (إيطالية، إسبانية، فرنسية…).
إن الترجمة نشاط ممكن جدا، بل إنه في الوقت المعاصر ضروري للتنمية و للإقلاع في مختلِف المجالات. و خصوصا إذا علمنا أن العالم يعرف آلاف المصطلحات سنويا و في شتى الحقول المعرفية؛ مما يدعو إلى ضرورة مسايرة هذا التقدم و التراكم، و ترجمته إلى العربية للإفادة منه.
المحـــور الثاني: أنـــواع الترجمة
تقسم الترجمة إلى أنواع متعددة ومتنوعة بتنوع المعايير والاعتبارات المعتمَدة في تقسيمها. وقد عولج هذا الأمرُ في القديم و الحديث معا، و لدى العرب والعجم على حد سواء .
عرف المترجِمون العرب القدامى طريقتين رئيستين في الترجمة، ذكرهما صاحب “الكشكول” عن الصلاح الصفدي الذي قال: ” وللترجمة في النقل طريقتان؛ إحداهما طريقة يوحنا ابن البطريق و ابن ناعمة الحمْصي و غيرهما، وهي أن ينظر إلى كلمة مفردة من الكلمات اليونانية و ما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك، حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه… الطريقة الثانية في التعريب طريقة حنين بن إسحاق و الجوهري و غيرهما، وهي أن يأتي بالجملة فيحصل معناها في ذهنه، ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها .” والطريقة الأولى – في نظر الصلاح- رديئة، وذلك لأمرين: ”أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية؛ و لهذا وقع في خلال التعريب الكثير من الألفاظ اليونانية على حالها.[و الأمر] الثاني أن خواصّ التركيب و النسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، و أنه يقع الخلل من جهة استعمال المجازات، وهي كثيرة في جميع اللغات.” في حين إن الطريقة الثانية أجود و أحسن، و لهذا ” لم تحتجْ كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية، لأنه لم يكن قيما بها . بخلاف كتب الطب و المنطق الطبيعي و الإلهي، فإن الذي عرّبه لم يحتج إلى إصلاح”.
و يقسم كاتفورد الترجمة إلى أنواع عدة، أبرزها:
– الترجمة الصوتية : و هي “ترجمة محددة يستبدل فيها بنص صوتي في (لم) ما يكافئه في نظام ( له) الصوتي . و يبقى النحو و المفردات المعجمية في نص (لم) ثابتة ما خلا بعض الشواذ المعجمية و النحوية التي تنطوي عليها العملية”(18).
– الترجمة الشكلية أو (الخطية): و هي ” ترجمة محددة يستبدل فيها نص في ( لم) بما يقابله في شكل (له).و إن مبدأ التكافؤ هنا هو العلاقة بالمادة الشكلية نفسها.” (19)
– النقـــحرة: و قد تطرق كاتفورد إلى هذا النوع الترجمي في الفصل العاشر من كتابه “Linguistic theory of translation” .و ذكر أن عملية بناء نظام نقحري تضم – في الناحية المبدئية- خطْوات ثلاثاً، كالآتي:
1- تبدل أحرف (لم) بوحدات صوتية في (لم) . و هذه الطريقة الأدبية العادية التي يتم من خلالها التفكير في الوسيلة المحكية.
2- تترجم الوحدات الصوتية في (لم) بوحدات صوتية في (له).
3- تحول الوحدات الصوتية في (لم) إلى أحرف أو وحدات خطية أخرى في (له).” (20)
و يذكر كاتفورد نفسُه في موضع آخر من كتابه المذكور نوعين آخرين من الترجمة، يختلفان فيما بينهما من حيث الإطلاق و التقييدُ، و هما:
– الترجمة الكاملة: و هي التي تشمل النص رُمَّتَــه، و تنصب على جميع جوانبه.
– الترجمة المقيدة: و معناها ” أن يستبدل بمواد نص في (لم) ما يقابلها من مواد في مستوى واحد فقط؛ أي ترجمة تنفذ على المستوى الصوتي أو الخطي، أو على أحد المستويين: القواعد أو المفردات المعجمية.”(21)
و يقسم أوجين نايدا الترجمة إلى نوعين متقابلين؛ و هما :
– الترجمة الشكلية: و ترتبط بالجانب الشكلي أو “المَبْـنَوِي” إن صح هذا التعبير.
– الترجمة التأثيرية: و يطلق عليها كذلك ” ترجمة المعنى”، و هي – حسب نايدا- ” مقابل طبيعي للبلاغ في لغة الأصل/ المرجع.”
ويتحدث فيناي (J.Vinay) و داربيلني (A.Darbelnet) في كتابهما المشترك “Stylistique comparé du français et de l’anglais”، عن ضربين من الترجمة؛ أحدهما ” الترجمة المتعددة”؛ و معناها أن يترجم النص الواحد ترجمات عدة بتعدد شخصيات المترجمين و تباين طرق الترجمة. أما ثاني الضربين فهو ” الترجمة المعكوسة”؛ و معناها نقل نص من لغة (أ) إلى لغة (ب)، و من لغة (ب) إلى لغة (أ). و من مزايا هذا الضرب الترجمي التأكد من مدى دقة الترجمة ومن أن كل عناصر النص قد تم نقلها بلا زيادة و لا نقصان.
و يرى ذ. محمد عجيبة أن للترجمة ثلاثة مظاهر ( أو أنواع)، كالآتي:
– الترجمة في صلب اللغة الواحدة (Intralinguale) : و تتم إطار اللغة الواحدة، فلا يكاد يشعر بها الإنسان. و مثال ذلك من يحقق نصا من النصوص القديمة، فينقله من لغة في حال معينة إلى هذه اللغة نفسها ولكن في حال أخراة.
– الترجمة من لغة إلى أخرى(Interlinguale): و تتم بين لغتين مختلفتين، كأن تقع بين العربية و الفرنسية.
– الترجمة من نظام سيميوطيقي إلى آخر (Intersémiotique) : و تكون من نظام عَلاَمي إلى آخر، كأن ينقل مخرجٌ رواية من صورتها اللغوية إلى نطاق السينما أو المسرح (بعض روايات نجيب محفوظ و غسان كنفاني و الطاهر وطار و أحمد التوفيق نماذجَ.)
هناك نوع آخر يسميه البعض “الترجمة الذهنية” (Traduction mentale) ، و تتم في ذهن الإنسان المتكلم بلسانين فأكثر، و عادة ما يكون ثمة تجاذب و صراع بين هذه الألسن. يقول الجاحظ: “و متى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين علمنا أنه أدخل الضيم عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى و تأخذ منها وتعترض عليها”.
و تقسم الترجمة – بالنظر إلى صاحبها- إلى ترجمة بشرية و ترجمة آلية. فأما الأولى فيقوم بها الإنسان، و أما الثانية فيضطلع بها الحاسب الإلكتروني، وقد نادى باحثون عديدون باستعمال هذا الجهاز في الترجمة لتعويض الإنسان. يقول القاسمي: “و أنا إذْ أدعو المعنيين في الأمة العربية إلى استخدام الحاسب الإلكتروني في خزن المصطلحات العلمية و التقنية، و ترجمتها، و تنسيقها، و توحيدها، إنما أفعل ذلك إدراكا مني أهمية توفير المصطلح العلمي و التقني في لغتنا العربية بوصفه من متطلَّبات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية التي نطمح إليها، و إدراكا مني بأن ذلك سيتم بصورة أفضل باستعمال الحاسب الإلكتروني.” (22)
إن الترجمة- باعتبار المعيار الزمني- إما فورية وإما تعاقبية. كما أنها تنقسم – من زاوية أخرى- إلى شفوية و كتابية. و من هنا، ميز العرب بين لفظي (مترجم) و (ترجمان)، على أساس أن اللفظ الأول يشير إلى الناقل كتابة، و يجمع على ( مترجمون). في حين يقصد باللفظ الثاني الناقل شفاهًا و يجمع على ( تراجمة). ويميز بعض الدارسين بين الترجمة الأدبية (23)، و بين الترجمة العلمية (24).
إذاً فالترجمة أنواع عديدة جدا. و يمكن أن نتحدث عن نوعين كبيرين في هذا الإطار؛ أحدهما “الترجمة الحرفية”، و الآخر “ترجمة التصرف” . فأما النوع الأول فيقوم على نقل نص من النصوص بحذافيره و حرفيته بدون تصرف في صيغه و مفرداته ومعانيه. و الملاحظ أن كثيرين يستهجنون هذه الترجمة المباشرة و لا يأخذون بها في ترجماتهم، و ذلك بالنظر إلى تعدد أخطائها و مزالقها و سلبياتها. يقول محمد ديداوي:” إن الترجمة الحرفية تظل ناقصة، و قد تكون سببا في تخريب اللغة و إفسادها، و قد تساعد الترجمة الحرفية على الاحتفاظ “بالنكهة” الأصلية”. (25) و أما النوع الثاني فيتصرف فيه المترجم بما يتلاءم مع لغته و سياقه الحضاري، و لا يتقيد بحرفية النص قيدِ الترجمة. و قديما قال إيتيان دولي (Etienne Dollet) – الذي أحرق بسبب ترجمته الحرة لأحد نصوص أفلاطون في ق 16-: ” على المترجم ألاّ يكون عبدا وفيا للنص الأصلي”.
و هذا النوع – في نظرنا- أجود، و أكثر فعالية و جدارة على تحقيق الإقلاع و التنمية المنشودة.
المحور الثالث: ضوابط الترجمة ومشكلاتها
لتكون الترجمة جيدة و موفقة- إلى حد ما- يلزم توافر جملة من الضوابط و الشروط. وقد سبق للجاحظ أن ألمّ ببعض هذه الشروط في حيوانه… ولما كان استقصاء جميع الشروط أمرا عسيرا، فقد ارتأينا أن نأتي على ذكر بعضها فقط، كالآتي:
ينبغي للمترجم أن يكون عارفا باللغة المصدر و اللغة الهدف معاً. (و لا بد للترجمان أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علم في نفس المعرفة. و ينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة و المنقول إليها حتى يكون فيهما سواء و غاية.) وإذا كان بصدد ترجمة مصطلح من المصطلحات، فإنه يتعين عليه أن يفهمه فهما دقيقا و شاملا آخذا في الحسبان جانبي الشكل و المضمون معا. يقول فلاديمير بروتشاسكه (V.Prochazka) إن من الواجب على المترجم الجيد” أن يفهم الكلمة الأصلية موضوعا و أسلوبا، و عليه أن يتغلب على الفوارق بين البنيتين اللغويتين، و أن يعيد في ترجمته تركيب البنيات الأسلوبية للعمل الأصلي.” و في هذه القولة إشارة إلى شرط آخر من شروط الترجمة ، سنأتي على ذكره لاحقا. إن الترجمة الجيدة هي التي تتعامل مع النص أو المصطلح – قيد الترجمة- باعتباره وحدة قائمة على الترابط بين المعنى والمبنى. يقول ديداوي : ” إن المترجم يهتم عادة بالمعنى أكثر من المبنى، ولا يلجأ إلى الشكل إلا ليفهم فيفهم غيره و يبلغ. و لذلك، فهو في حاجة إلى وحدة لا تكون شكلية تماما. هذه الوحدة إذن ستكون وحدة عقلية أو فكرية، بما أنه ترجمان للأفكار والخواطر و العواطف، لا للكلمات و الحروف، التي هي مجرد أدوات .”(26)
و يقول الرجل عيْنُــه :” إن المعنى هو أهم عنصر في الترجمة، على العموم، كما أن الشكل مهم لأنه وسيلة الإفهام. و كلما اقترب من الأصالة كانت الترجمة التأثيرية (المعنى) أروع و أقوم. و فضلا عن ذلك فإن التطابق الشكلي مستحسن ، بل ولازم ، من حيث أنه لا بد للمترجم من أن يحافظ على شكل النص : فهناك النص القانوني و النص الأدبي و النص العلمي… و أن يحافظ أيضا على الأسلوب المتبع”. (27) يقول د.صلاح فضل:” إن الترجمة ترتبط بالبنية الثقافية بأكملها”.(28) و من هنا يجب على المترجم أن يأخذ في الاعتبار الكامل السياق العام للنص المترجَم و الظروف المختلفة المحيطة به. و يجب عليه أن يحرص على ملاءمة النص (أو المصطلح) المنقول للغة المنقول إليها؛ اتقاءً لتنافر الناس منه، و ضمانا لسيرورته و تقبل الناس له. يقول عبد السلام المسدّي: “إن المصطلح النقدي تزداد حظوظ مقبوليته في التداخل و التأثير كلما توفرت فيه مقومات المواءمة الإبداعية.”(29)
إن الأمانة شرط مهم في الترجمة، لأنها تضفي على المترجَم مصداقية ومشروعية. و إن كان بعض الباحثين يذهب غير هذا المذهب، و منهم سعيد علوش الذي يرى أن “الأمانة في الترجمة ادعاء لا يسلم من القوادح، ما دامت تقوم على مقاييس خيانتها وانزياحها عن مستوى المماثلة إلى المغايرة .”(30) و لا شك في أن علوشا يريد بالترجمة ها هنا ” الترجمة الأدبية ” التي هي عسيرة للغاية. و إذا كانت تمت صعوبة في التزام الأمانة التامة لترجمة نص أدبي ، فإن التزامها في المصطلح العلمي و التقني أمر متيسر و متاح جدا في نظرنا .
إن هناك شروطا كثيرة تتصل بالشخص المترجِم، و قد أورد ديداوي في كتابه المذكور سابقا عددا منها. يقول مثلا: “يشترط في الترجمة خفة الروح وحضور البال، و اتساع مجاري الخيال، مع القدرة على السبك و الحبك ، والتعبير الفصيح السليم ، و المطالعة المستمرة، و المران الذي لا يعرف الكلل و لا الملل .” ( 31) و من أبرز شروط الترجمة الجيدة أن يكون ممارِسها ذا ثقافة موسوعية ، خبيرا بلغته وباللغة التي ينقل عنها. ذلك بأن الترجمة-كما يقول أحدهم- “نشاط ابستمولوجي بامتياز.”(32) و يقول الأستاذ المصطفى شادلي: “الترجمة عملية ذهنية و إدراكية تتطلب ثقافة موسوعية و اجتهادا خاصا و ممارسة فعلية.”(33) و لا سبيل إلى توفير المترجمين المجيدين الذين يستطيعون الإسهام في نهضة أمتنا و الرقي بها في مدارج المَدَنية إلا بالعمل على إعدادهم إعدادا علميا متكاملا. و قد نص “المؤتمر العلمي الأول للمترجمين العرب” الذي انعقد في بغداد أيام 28-29-30 مارس 1988 – في توصية السادسة- على هذا الإجراء الإعدادي .(34)
لا مناص للترجمة الجيدة من ” منهجية ” جيدةن لأن “المنهجية نصف المعرفة ” (35) و الضابط المنظم لها. يقول مجدي وهبة:” و الترجمة في جملتها لا تقتصر على نقل آلي من مجموعة من الرموز إلى مجموعة أخرى، بل هي منهج للبحث عن نقل مفهومات إلى مفهومات مقابِلة لها في اللغة المنقول إليها.”(36) و إلى جانب المنهج، تحضر “المراجَعة” (مراجعة الترجمة) بوصفها عنصرا مهمًّا لضمان ترجمة جيدة و موفقة. و ظاهرة مراجعة الترجمات و تقويمها قديمة في تراثنا. ففي عصر هارون الرشيد – مثلا- تم إصلاح بعض الترجمات المنجَزة أيام المنصور ، و في عهد المأمون وقعت مراجعة بعض الكتب المترجمة زمن الرشيد. و تعد المراجعة عنصرا ضروريا في الوقت الحالي الذي تعددت فيه الترجمات، و تنوعت مابين جيدة و رديئة.
لقد خرجت ندوة توحيد منهجيات وضع المصطلح العلمي العربي ،المنظمة من قبل مكتب تنسيق التعريب أيام18-19-20 فبراير 1981 بالرباط، بمجموعة من التوصيات و المبادئ التي حَوَتْ جملةً من المواصفات التي يلزم توافرها في المصطلح الموضوع مقابلا للمصطلح الوافد أثناء التعريب أو الترجمة. و من هذه المواصفات:
– تفضيل المصطلح العربي الفصيح المتواتر .
– تفادي المصطلحات العامّية إلا عند الاقتضاء، و بشروط معينة.
– تفضيل الصيغة الجَزْلة الواضحة.
– تفضيل المصطلح الدقيق .
– تفضيل الكلمة الشائعة… إلخ.
تلكم هي بعض شروط الترجمة الجيدة التي استنبطناها من خلال استقراء جملة من النصوص لعدد من المهتمين بالشأن الترجمي. ثم إن هذه الشروط أو المعطيات – و غيرها- هي الميزان الذي يجب أن تعرض عليه الترجمات ، قبل الإقرار بجودتها أو رداءتها. يقول الحمزاوي في هذا الصدد: “فلا يمكن أن نقر على العموم وجود ترجمة صائبة و ترجمة خاطئة إلا إذا تقيدنا بمعطيات، و قوانين جماعية، تستوجبها التجربة و التطبيق.”(37)
و رغم هذه الضوابط و الجهود المبذولة في مجال الترجمة، فإن الترجمة إلى العربية مازالت محدودة، و مازالت ثمة صعوبات جمة تقف في طريقها و تعرقل سيرها. و من هذه الصعوبات ما أشارت إليه الأستاذة نجاة المطوع في قولها: “إن الترجمة إلى العربية لا تزال تفتقر إلى البرامج على المستويين القطري و القومي، كما أنها لم تُـبْـنَ على دراسة الواقع الراهن بلغة التطور الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي، والآفاق المستقبلية في الوطن العربي ، ولم تتسع لتلبية متطلبات العصر، ودرجة النضج عند القارئ .” (38)
و لعل من أبرز المشاكل التي تتخبط فيها الترجمة العربية (و خاصة ترجمة المصطلح الأجنبي و تعريبه) تعدد المصطلحات العلمية الموضوعة للمفهوم الوافد الواحد. و من ذلك مثلا مصطلح (Frein) الذي ترجمه مجمع اللغة العربية بالقاهرة بكلمة (كماحة)، و ترجمه بعض العرب بــ (موقف)، و وضع له معجم عسكري عربي مقابلا آخر؛ هو (مكبح)، و هو في المعجم العربي التجاري ( لجام)، وفي أحد الكتب الصناعية ( الميقف)، و هو على ألسنة كثيرة من الناس (الفْرَانْ) … ومن الأمثلة الواضحة على هذه التعددية نجد مصطلح (Phonème) الذي وضع له المترجمون العرب المقابلات الآتية: فونيم، و صَوْتِم، وصوت، وصوتيم، وصوت مجرد، ومستصوت، ولافظ، وفونيمية. ومن ذلك كذلك مصطلح (Sémiologie) الذي أحصى له المسدي في كتابه “المصطلح النقدي” – وخاصة في الفصل الذي عنوانُه ” تجريد المماثلة” – عددا من المقابِلات العربية مبرزا طرق توليدها ، و مشيرا إلى مستعمِليها …ويحصر الدكتور محمد ممدوح أهم أسباب هذه التعددية المصطلحية في العوامل الآتية:
– تعدد الجهات الواضعة للمصطلح.
– تعدد مناهج التعريب
– تعدد مصادر المصطلح.
– عدم الالتزام بمصطلحات السابقين.
– بطء الاستجابة للمصطلحات الجديدة .(39)
المحور الرابع: إسهام المغاربيين في الترجمة (عبد الملك مرتاض نموذجاً)
إن للمغاربيين إسهاما واضحا في حقل الترجمة ، سيما ترجمة المصطلح الأجنبي. و يتبوأ المغاربة الصدارة في هذا الشأن، يليهم التونسيون فالجزائريون، وسنقف في هذا المحور الختامي- بصفة خاصة- عند بعضٍ من جهود الباحث الجزائري المرموق الدكتور عبد الملك مرتاض في ترجمة المصطلح الأجنبي (الفرنسي خاصةً).
يلمس متصفح كتابات مرتاض و مقالاته – من كثبٍ- أن الرجل كثير الاجتهاد في صوغ المصطلح وتوليده و ترجمة المصطلح الوافد. ولتبيان هذا الأمر، نورد بعضا من المصطلحات التي صاغها مرتاض لتكون مقابلا للمصطلح الأجنبي:
* مصطلح “حيـِّـز” :
يترجم بعض الدارسين العرب مصطلح (Espace) بكلمة (مكان)، ويترجمه آخرون بمصطلح (فضاء) ، و يعرّبه بعضهم بلفظ ( حقل) أو ( مجال). ولكن مرتاضا آثر مصطلحا آخر هو (حيز)، و دافع عنه. وفي المقابل، انتقد اجتهادات المترجمين الآخرين الذين تطرقوا إلى ترجمة المصطلح (Espace). يقول مرتاض إن مصطلح (الفضاء) الموضوع مقابلا للفظ الأجنبي المذكور “قاصر بالقياس إلى الحيز؛ لأن الفضاء من الضروري أن يكون معناه جاريا في الخواء و الفراغ؛ بينما الحيز لدينا ينصرف استعماله إلى النتوء، و الوزن ، و الثقل، و الحجم، والشكل…” (40) ويقول عن مصطلح (المكان): “إننا نريد أن نقفه ،في العمل الروائي، على مفهوم الحيز الجغرافي وحده.”(41) و يرى مرتاض نفسه أن مصطلحي (الحقل) و (المجال) “ضيقا الدلالة بحيث لا يكادان ينصرفان إلا إلى مدلولات محدودة بالجغرافيا و الاستعمال.” (42) و يقول عن المصطلحين الأولين معا : “و ترجمة (Espace/Space) بالفضاء في حال، و المكان في حال أخرى… ترجمة غير سليمة و لا دقيقة التمثل للمعنى الأصلي الأجنبي، في رأينا على الأقل. ” (43) إذاً، فمرتاض يفضل ترجمة اللفظ الأجنبي (Espace) بمصطلح (حيز)، بل إنه يدافع عنه، و يحرص- في المقابل- على إبراز نقائص المصطلحات الأخرى المقترحة في ترجمته و مواطن قصورها. و لعل الذي حدا مرتاضا على تفضيل هذا المصطلح هو كونه شاملا ، بحيث “يستطيع أن ينصرف إلى اليابس و المائي، و إلى الملموس من المكان، و الأبعاد و الأحجام، والأثقال، و القامات ، و الامتدادات،و الأشكال على اختلافها…” (44)
* مصطلح “رَكْبَرَة”:
من أبرز المصطلحات المستعملة في اللسانيات التركيبية مصطلح (Le syntagme) الذي يترجمه بعضهم بمصطلح (السانتام) … و هو تركيب يتألف من وحدتين لغويتين فأكثر. و يعد دوسوسير (1857-1913م) مبتكر هذا الاصطلاح حوالي عام 1910 . و يقترح مرتاض، لترجمة هذا المصطلح، مصطلحا يبدو غريبا؛ وهو (ركبرة)، معتمدا في ذلك تقنية “النحت”. يقول: “لقد اقترحنا للمفهوم الأجنبي (Syntagme)، الذي يعني في لغة دوسوسير (De Saussure)… كل عنصر مركب في سلسلة الكلام، مصطلح “ركبرة”، و قد نحتناه من فعلين: (ركب) بمعنى ألف الكلام، و(عبر) بمعنى بلغ الرسالة و وصلها إلى المتلقي. ذلك بأن المقصود من اللفظ الأجنبي هو تلاقي سلسلة من العناصر النحوية و اللغوية داخل جملة واحدة، حتى إن بالّي (Bally) الفرنسي عرف هذا المصطلح بكونه نَتاجا لعلاقة بين مرتبطات نحوية قائمة بين إشارتين (Deux signes) معجميتين تنتميان إلى صنفين ؛ أحدهما يكمل الآخر.”(45)
* مصطلح “تقويض”:
لقد شاع في المشهد النقدي العربي المعاصر ترجمة مصطلح (Déconstruction) بلفظة (تفكيك). و يقترح الباحث السعودي عبد الله الغدامي في كتاباته ترجمة ذلك المصطلح بكلمة (تشريح). و لكن عبد الملك مرتاض يقترح استعمال مصطلح ( تقويض) في هذا الصدد . يقول: “نقترح استعمال مصطلح “التقويض” مقابلا للمصطلحين الإنجليزي و الفرنسي Deconstruction) و(Déconstruction عوضا عن مصطلح ” التفكيك” الذي بدأ يشيع بين النقاد العرب لأنه لا يستطيع أن يحتمل، و لا أحد يستطيع أن يجعله يحتمل، دلالة المصطلح الأجنبي من الوجهة المعرفية .”(46)
* مصطلح “رسالات”:
الملاحظ أن أكثر الدارسين يترجمون اللفظ الأجنبي (Messages) بلفظ (رسائل). إلا أن مرتاضا يخالفهم في ذلك، و يرى أن أفضل ترجمة لذلك المصطلح اصطلاحُ (رسالات). ثم إن الرجل لا يكتفي بإطلاق الكلام على عواهنه، بل إنه يحاول أن يلتمس له التسويغ العلمي المناسب .يقول: “آثرنا اصطناع لفظ (رسالات) لنطلقه على المفهوم الألسني المعروف في اللغة الفرنسية تحت لفظ (Messages) عوضا عن (رسائل). لأن لفظ (الرسائل) ينصرف في العادة إلى جمع تكسير (رسالة) بمعنى كتاب يرسل من شخص إلى آخر ، على حين أن لفظ ( الرسالات) إنما هو جمع لرسالة بمعنى نبوة؛ أي بمعنى تبليغ أمر سماوي إلى أمةٍ بعينها. و قد ورد لفظ (رسالات ) بهذا المفهوم الديني سبع مرات في القرآن الكريم ، منها قوله تعالى: (( لقد أبلغتكم رسالات ربي و نصحت لكم )).(47)
* مصطلح “بَدْعَدَة”:
لقد ترجم عبد الملك مرتاض المصطلح الأجنبي (Récurrence) باللفظة العربية (بدعدة)، و ذلك بالاستناد إلى وسيلة “النحت”. يقول في أحد هوامش كتابه “شعرية القراءة”: “يطلق السيميائيون هذا المصطلح – أي- Récurrence على كل عنصر ألسني يتكرر، أو يعيد نفسه .فارتأينا أن ننحت هذا المصطلح- أي بدعدة- من بدأ و عاد: ( بَدْعَدَ يُبَدْعِدُ بَدْعَدَةً)؛ فكانت- إذن- البدعدة.” (49)
هذه – إذاً- بعض المصطلحات التي اقترحها د.عبد الملك مرتاض لتكون في مقابلة المصطلحات الأجنبية التي أتينا على ذكرها آنفاً. و لا شك في أن الرجل- بعمله هذا- يسهم في إثراء اللغة العربية، و إغناء ثروتها المعجمية.
و في الأخير، نقول إن من المفيد تخصيص أبحاث و دراسات لتتبع مجهود مرتاض في وضع المصطلح و تعريب المصطلحات الأجنبية. و هو أمر لن يتأتى إلا بالصبر، و الاجتهاد الدؤوب المتواصل، و تضافر مجهودات الباحثين…
هوامش المقال:
1- سعيد علوش: خطاب الترجمة الأدبية ، مطبعة بابل (الرباط)، ط 1 (1990)، ص 5.
2-عزيز الحاكم: ترجمة النص الأدبي من المساكنة إلى الانفلات، العلم الثقافي، السبت: 17 ماي 1997.
3-لسان العرب، دار صادر (بيروت)، ط 1(1997)، مج3، مادة (رجم)، ص 47.
4-المعجم الوسيط، ط 2، 1/83.
5-ج.س.كاتفورد: نظرية لغوية في الترجمة، تر: د.خليفة الغرابي ود.محيي الدين حميدي، مراجعة: د. عيسى العاكوب، معهد الإنماء العربي (بيروت)، ط 1 (1991)، ص33.
J.Dubois et Autresictionnaire de-6 linguistique,Libraire Larousse Paris,1973,P490.
و قد حاولنا ترجمة هذا التعريف بما يأتي : ” ترجمة [النص]؛ أي نقله من لغته الأم ( لغة مصدر ) إلى لغة أخرى (لغة هدف)، مع مراعاة التكافؤات السيميائية (أو الدلالية) و الأسلوبية.” (ترجمة بتصرف).
7-Hartman & stork ictionary of language and linguistics, ed AMSTRDAM, 1972,P713.
و قد حاولنا ترجمة هذا النص ترجمة حرة بما يأتي: “الترجمة هي تعويض (إبدال) مصطلح (تمثيل) من نص ينتمي إلى لغة ما بمصطلح آخر (معادل أو مقابل) من لغة أخرى.”
8-د. علي القاسمي : مقدمة في علم المصطلح، مكتبة النهضة المصرية (القاهرة)، ط2 (1987)، ص101 .
9-جماعة من الباحثين: الترجمة و التأويل ، أعمال المائدة المستديرة الثالثة ، منشورات كلية الآداب (الرباط)، سلسلة ندوات و مناظرات رقم : 47 ، 1995، ص131.
10-كمال قحة: مقال “الترجمة في العصر الحديث : تاريخها و قضاياها “، ضمن كتاب ” الترجمة ونظرياتها”، بيت الحكمة ( قرطاج)، ط 1989، ص 240.
11-محمد ديداوي: علم الترجمة بين النظرية و التطبيق، دار المعارف للطباعة و النشر (سوسة)، ط1(1992)، ص 380.
12-المرجع نفسه، ص 412.
13-R.P.Robert: Teatching translation theoty,World Congress Of Fit, Vienna,1985.
14-كاتفورد : نظرية لغوية في الترجمة، ص 33.
15- Roger T.Bell: Translation and translating : Theory and practice, Longman Group UK Limited, England, ed 1991, P:13 (ترجمة النص من اقتراحنا).
16- ذ. محمد عجيبة: مقال ” نظريات الترجمة”، ضمن كتاب ” الترجمة و نظرياتها”، م.س، ص 260.
17- د. محمد عجيبة : مقال” نظريات الترجمة”، ضمن كتاب ” الترجمة و نظرياتها، م.س، ص266.
18- كاتفورد: نظرية لغوية في الترجمة،م.س، ص79.
19- المرجع نفسه، ص 87.
20- المرجع نفسه، ص 96.
21- المرجع نفسه، ص36.
22- علي القاسمي : مقدمة في علم المصطلح، ص173.
23 -للاستزادة يمكن الرجوع إلى مقال المنصف النجار (الترجمة الأدبية)، ضمن كتاب ( الترجمة ونظرياتها)، م.س، من ص 83 إلى ص141.
24- للاستزادة يمكن الرجوع على مقال الباجي القمرْتي (في الترجمة العلمية و التقنية)، ضمن كتاب (الترجمة و نظرياتها)، م.س، من ص 83 إلى ص 105.
25- محمد ديداوي: علم الترجمة بين النظرية و التطبيق، ص 175.
26- المرجع نفسه، ص 153.
27- المرجع نفسه، ص 179.
28- د. صلاح فضل : إنتاج الدلالة الأدبية، مؤسسة (مختار) للنشر و التوزيع ( القاهرة) ، ط 1 (1987)، ص 103.
29- عبد السلام المسدي : المصطلح النقدي، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله للنشر و التوزيع ( تونس)، ط1 (أكتوبر 1994)، ص 21.
30- سعيد علوش: جمالية الترجمة الأدبية ، مجلة “علامات في النقد”، جُــدَّة، مج 12، ع45، ص 188.
31- محمد ديداوي: علم الترجمة بين النظرية و التطبيق ، ص162.
32- ذ. بناصر البعزَّاتي: مقال” الترجمة بين النص و المرجع”، ضمن كتاب (الترجمة و التأويل)، م.س، ص 39.
33- المصطفى شادلي: مقال” إشكالية التأويل و الترجمة في ضوء سيميائيات التلقي “، ضمن كتاب (الترجمة و التأويل)،ص49.
34- نص هذه التوصية هو: “يوصي المؤتمر بأهمية إعداد المترجم العربي إعدادا علميا جيدا و إعطائه قدرا أكبر من الاهتمام بما ينسجم و دوره الإبداعي في النهوض الحضاري للأمة العربية”. انظر كتاب ديداوي المذكور ، ص 485.
35- محمد رشاد الحمزاوي: المنهجية العامة لترجمة المصطلحات و توحيدها و تنميطها ( الميدان العربي)، دار الغرب الإسلامي (بيروت)، ط1 (1986)، ص 9.
36- مجدي و هبة : الأدب المقارن و مطالعات أخرى، مكتبة لبنان ( بيروت)، ط1 (1991)، ص 69.
37- محمد رشاد الحمزاوي: المنهجية العامة لترجمة المصطلحات و توحيدها و تنميطها ( الميدان العربي) ص: 47.
38- ذة. نجاة عبد العزيز المطوع: آفاق الترجمة و التعريب ، مجلة”عالم الفكر”، الكويت، مج19،ع4، 1989، ص 9.
39- للتوسع يمكن الرجوع إلى مقال محمد ممدوح القيم (إشكالية التعددية في المصطلح العلمي العربي: الواقع و الحلول)، مجلة (البيان)، الكويت، ع299، يونيو 1995 ، ص 12-13.
40- د. عبد الملك مرتاض : في نظرية الرواية ، سلسلة “عالم المعرفة ” ، الكويت ، ع 240 ، 1988، ص 141.
41- المرجع نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف.
42- د.عبد الملك مرتاض: شعرية القصيدة …، دار المنتخب العربي (بيروت)، ط1(1994)، ص 179.
43- عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية، ص ص141-142 .
44- عبد الملك مرتاض : شعرية القصيدة، ص 179.
45- عبد الملك مرتاض: “النص الأدبي : من أين؟ و إلى أين؟”، ديوان المطبوعات الجامعية ( الجزائر) ، ط1 ( 1983)،ص ص97 -98.
46- عبد الملك مرتاض: نظرية التقويض ( مقدمة في المَفْهَمَة و التأسيس)، مجلة “علامات في النقد”، مج9، ع34 ،1999،ص280.
47- سورة الأعراف، من الآية 92، برواية الإمام ورش.
48- عبد الملك مرتاض: “النص الأدبي: من أين؟ و إلى أين؟” ، ص 37.
49- عبد الملك مرتاض: شعرية القصيدة، ص 42، بتصرف.