العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا
العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية “سوخوي” في سياق طبيعة العلاقة التي حكمت البلدين لزمن طويل؛ فالتدخل العسكري الروسي في سوريا، وبشكل فجائي، رأى فيه الكثير مغامرة لن تمر دون أن تكون لها تبعات وتداعيات خطيرة على المشهد السوري والإقليمي. ولم يكن متوقعًا أيضًا أن تقف تركيا مكتوفة الأيدي والمقاتلات الروسية تدك مناطق سورية محاذية لها، هي أساسًا مناطق يفيض بعضها على البعض سكانًا وتاريخًا، تحتضن من السوريين العرب بقدر ما تحتضن من السوريين التركمان. كما ترى أنقرة في هذه المناطق المستهدفة بالصواريخ الروسية عمق أمنها القومي، فكيف تجرؤ عليها دولة قادمة من الشمال البعيد، لا شيء يبرر لها ما تفعله، غير رغبة في تعزيز نفوذها وتوسيعه على حساب الأمن القومي التركي.
عرفت العلاقات التركية-الروسية خلال القرون الأربعة الماضية حروبًا ونزاعات وتوترات كبيرة. وقد نشأ عداء كبير بين تركيا العثمانية وروسيا القيصرية بسبب الصراع على النفوذ، صراع عمَّقه تجاورهما الجغرافي، معطوفًا على التاريخ والثقافة والسياسة. روسيا التي كانت ترى في نفسها “روما الثالثة” وكان يراودها حلم استعادة أمجاد الماضي البيزنطي، لم تكن لتنسى أن العثمانيين هم من انتزعوا القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية “روما الثانية” في العام 1453 (1) لذلك كان عداؤهم لتركيا العثمانية تحرِّكه أطماع إمبراطورية وتغذِّيه نوازع دينية.
إلى جانب ذلك، أسهم الانتشار العِرقي للأتراك في الجمهوريات السوفيتية سابقًا وحتى روسيا الاتحادية (عدد المسلمين اليوم في روسيا يصل إلى 15% وسيصل إلى 30% في العام 2050 (2) حسب تقديرات الأمم المتحدة) في تنامي المخاوف الروسية من اختلال سكاني سيكون بالضرورة لحساب الأتراك في المدى المتوسط والبعيد. كما أنه وبسبب الموقع الجغرافي لم يتوقف الروس عن مساعيهم المستمرة لتأمين نافذة لهم على المياه الدافئة عبر بحر إيجه والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. وقد خاض الروس منذ العام 1677 ثلاث عشرة حربًا ضد الأتراك العثمانيين وافتكُّوا منهم مناطق كبيرة. وكان حرص الروس دومًا على السيطرة على المضايق التي تقع تحت سلطة تركيا العثمانية.
لم تتردد روسيا القيصرية في المشاركة في الحرب على الأتراك العثمانيين، بل وأسهموا إسهامًا أساسيًّا في فكِّ الحصار الذي ضربته الجيوش التركية على فيينا في 1683، وَوُجِه بتحالف قوى غربية. وقد كان إنهاء ذلك الحصار وصدُّ الجيوش العثمانية لحظة حاسمة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية ومستقبلها. لم تفعل قوة مثلما فعلت روسيا القيصرية في سعيها لإضعاف الإمبراطورية العثمانية ورؤيتها تتهاوى، ولم تخض روسيا القيصرية حروبًا ضد دولة مثلما خاضتها ضد تركيا العثمانية؛ فقد حاولت الجيوش الروسية مرتين “استرداد” إسطنبول، الأولى في العام 1829 والثانية في1877 -1878(3)، غير أن المحاولتين باءتا بالفشل. كما لم تفوِّت روسيا فرصة الحرب الحرب العالمية الأولى لتضم أراضي كانت تابعة لتركيا العثمانية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت علاقة تركيا بروسيا نوعًا من الاستقرار مع قيام نظام جديد في روسيا عقب الثورة البلشفية 1917 ونهاية الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية التركية في 1923 بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، وإن عادت العلاقات متوترة خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب ما رأت روسيا فيه تقاربًا تركيًّا اقتصاديًّا سياسيًّا مع ألمانيا النازية. وتعمَّق التباعد مع انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي “الناتو” في 1952، والذي كان بمثابة تخندقًا في المعسكر المقابل للسوفيت الذين كانوا يقودون حلف وارسو، في إطار الحرب الباردة. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي تباينت المواقف التركية والروسية بشأن قضايا إقليمية كثيرة على غرار مسألة إقليم ناغورنو كاراباخ والمسألة الجورجية والتقارب الروسي-الإيراني المثير لقلق أنقرة.
مع بداية الألفية الثالثة شهد التعاون الاقتصادي التركي-الروسي نقلة كبيرة، وصلت معها موسكو في سنوات قليلة إلى ثاني أكبر شريك تجاري بعد ألمانيا الاتحادية، وأصبحت تركيا وجهة السياح الروس بعدد لم يتجاوزه إلا عدد السياح الألمان (يُقدَّر عدد السياح الروس بحوالي 3,5 ملايين من بين 37 مليون سائح يزورون تركيا سنويًّا).
فمنذ نهاية الحرب الباردة حققت العلاقات التركية-الروسية تحولًا نوعيًّا، وصفه بعض المراقبين بالحلف الاستراتيجي الجديد، بين بلد روسي ينهض من بين ركام الاتحاد السوفيتي وآخر تركي يتلمس طريق نهضته خروجًا من سجن الأتاتوركية الصارمة ودون الارتهان المطلَق لعضوية مأمولة في الاتحاد الأوروبي لا يبدو أنها ستتحقق. أدرك مسؤولو البلدين مدى الحاجة للتعاون والشراكة، لما يجمعهما من مصالح بحكم التاريخ والجغرافيا، وشجَّع على ذلك النجاح التركي في ردم التفاوت بينه وبين روسيا إلى حدّ كبير، وعلى مستويات مختلفة، بما فيها القوة العسكرية والنمو الاقتصادي المتسارع. فتركيا التي كان إنتاجها القومي الخام في العام 1990 يمثِّل 10% من الإنتاج القومي الخام للاتحاد السوفيتي وصل في العام 1999 إلى 80% من الإنتاج القومي الخام لروسيا الاتحادية، والأمر نفسه ينطبق على القوات المسلحة التركية التي قفز عددها من 1/5 نسبة للقوة السوفيتية ارتفع إلى أكثر من 2/3 نسبة للقوات الروسية، وأصبحت أكثر تدريبًا وجاهزية. كما أدَّى استقلال جورجيا عن روسيا الاتحادية إلى اختفاء الحدود المشتركة بين البلدين: تركيا وروسيا؛ ما ساعد على تبديد المخاوف والحذر بينهما في ظل الخلافات التاريخية والامتداد العِرقي الذي كان عامل توتر بينهما في الكثير من الأوقات.
وخلال هذه الفترة دافع الكثير من المثقفين والخبراء الروس والأتراك عن حاجة البلدين لإقامة تحالف استراتيجي في مواجهة الغرب ومساعيه للهيمنة على المنطقة لاسيما آسيا الوسطى والبلقان، ولما يتيحه هذا التحالف من فرص للبلدين على المستوى الأمني والاقتصادي والاستراتيجي؛ فهما يواجهان بشكل أو بآخر موقفًا غربيًّا ينتهج مقاربة الاحتواء والاستغلال وليس التقدير لمثل هذه القوى التي لها مكانتها ودورها، وتتطلع أن تحقق نهضتها وتفرض نفسها في المشهد الإقليمي والدولي.
ازدهرت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا بشكل لافت نجحت فيه بالتغطية على الخلافات السياسية، وتحولت روسيا إلى أهم شريك تجاري لتركيا، متجاوزة في 2008 بذلك ألمانيا، لاسيما في قطاع الطاقة. من جهة أخرى، احتلت السوق الروسية المرتبة الثالثة بالنسبة للصادرات التركية، وكان من المتوقع أن يصل حجم المعاملات الاقتصادية بين البلدين إلى 100 مليار دولار في العام الجاري 2015 (4). وكان هناك توجه من الطرفين وتفاهم يتعلق ببناء أنبوب لنقل الغاز يمر عبر تركيا، بيد أن تركيا تراجعت في العام 2000 عن المضي في هذا المشروع والانضمام للتعاون مع الغرب في مشروع نباكو (Nabucco) الذي جرى إقراره من أجل نقل الطاقة من القوقاز إلى أوروبا عبر التراب التركي، محاذيًا لروسيا ثم إيران. وقد ردَّت روسيا بمشروع أنبوب الجنوب، الذي ينقل الغاز لأوروبا عبر البحر الأسود.
حرصت تركيا خلال 15 عامًا الماضية على “تصفير المشكلات” مع عمقها الاستراتيجي(5)، وضبطت سياستها الخارجية وعلاقتها مع روسيا على هذه المقاربة، متجنِّبة أي انزياح أو انحراف عن هذا المسار رغم بعض السياسات والمواقف الروسية المتناقضة أحيانًا والمضرَّة حينًا بالمصالح التركية، على غرار العلاقة بالجمهوريات الإسلامية في القوقاز، أو تجاه جورجيا والملف الأرميني. ونجحت أنقرة خلال السنوات الأخيرة في التحول إلى قوة إقليمية ولاعب أساسي في منطقة القوقاز، مستثمرة العلاقات التاريخية القديمة مع غالبية دول المنطقة، والحضور البارز لذوي الأصول التركية في هذه الجمهوريات، التي ما إن تفكك الاتحاد السوفيتي حتى نشطت علاقتها بتركيا بشكل ملحوظ. وبادرت تركيا إلى تفعيل حضورها الثقافي والديني والاقتصادي في هذه الجمهوريات، وأنشأت مدارس وجامعات، مستفيدة من الانتشار المثير لمدارس ومؤسسات فتح الله غولن، لتوسع من خلال ذلك نشاطها واستثماراتها الاقتصادية، التي توسعت وتنوعت وتعززت في كل المجالات، فتحولت إلى الشريك الاقتصادي الأساسي لهذه الجمهوريات بما أبدته من نجاعة وتميز في إنجاز المشاريع المستحقة، وباقتدار مثير، للإعجاب.
ولئن قبلت روسيا مبدئيًّا بهذا النشاط التركي، فإنها رسمت خطوطًا حمراء لهذا الدور، لتحصره في إطاره الاقتصادي الثقافي والحيلولة دون أن يتحول إلى تحالفات سياسية، لاسيما أن موسكو كانت تنظر للنشاط التركي باعتباره مدخلًا محتملًا للأميركيين لاختراق المنطقة والهيمنة عليها، أو تعزيزًا لتمدد حلف الناتو، الذي كما هو معلوم حرص على التوسع في تلك المناطق، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لذلك عملت موسكو على الحدِّ من الحضور التركي، ساعدتها في ذلك إيران والصين اللتان تحملان نفس الهواجس مع روسيا تجاه التغلغل الأميركي والحلف الأطلسي في المنطقة. وإن أبدت روسيا تساهلًا تجاه السياسات التركية في منطقة آسيا الوسطى، التي تضم أساسًا أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، فإنها ظلَّت باستمرار حذرة جدًّا من الحضور التركي في القوقاز، المنطقة التي تتصل فيها حدود قارتي أوروبا وآسيا معًا، أي تحديدًا في المنطقة التي تقع ما بين البحر الأسود وبحر قزوين، وتتكون من دول القوقاز، وهي: أبخازيا، وأديغيا، وأجاريا، وأرمينيا، وأذربيجان، والشيشان، وداغستان، وجورجيا، وإنغوشيتيا، وتشيركيسيا، وقراتشاي، وبلقاريا قبردينو، وكراسنودار كراي، وجمهورية مرتفعات قرة باغ، وناخيتشيفان. بيد أن تركيا نهجت سياسة مطامنة للروس، مسلِّمة بنفوذهم في هذا المنطقة، وتفهمًا لما لهذا الفضاء الجغرافي من أهمية حيوية لموسكو، التي ترفض أية محاولة لتطويقها من خلال دول كانت لعقود تحت النفوذ السوفيتي.
الربيع العربي: زلزال في الشرق الأوسط يهز المصالح التقليدية
تفكَّك الاتحادُ السوفيتي في العقد الأخير من القرن الماضي، غير أن ما تركه من نفوذ واسع في الشرق الأوسط، لاسيما في الدول التي انحازت بشكل أو بآخر لصالح الحلف الاشتراكي، انتقل نفوذًا لروسيا الاتحادية وإن انحسر في بعض الدول واختفى في أخرى. وحرص فلاديمير بوتين على تأمين النفوذ الروسي التقليدي في المنطقة، بل وعمل على تعزيزه، مستفيدًا مرة من ارتباك السياسات الأميركية في المنطقة وما خلَّفته من فراغ، ومرة من خلال صفقات السلاح والتعاون العسكري مع أطراف عديدة.
بيد أن الربيع العربي وما شهدته المنطقة من انتفاضات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الأولى، هزَّ المعادلات التقليدية وما يرتبط بها من نفوذ اللاعبين الدوليين فيها، لاسيما النفوذين الأميركي الروسي. وضعت تقلبات الشرق الأوسط الروس والأتراك وجهًا لوجه. موسكو التي كانت تتوقع أن تجد نفسها وجهًا لوجه مع واشنطن لم تجد ذلك بعد أن اختارت استراتيجية أخرى في المنطقة هي بين “القيادة من الخلف “(leading from behind) والانكفاء. معادلة مختلفة وضعت أنقرة وموسكو وجهًا لوجه في المنطقة. وكان ذلك متوقَّعًا بسبب ما شهدته السنوات الماضية حتى ما قبل الثورة من صعود ملحوظ لتركيا كأهم لاعب إقليمي، اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، في ظل استفادتها من العُزلة الإيرانية وانخفاض أسعار النفط، وتبنِّي دبلوماسية نشطة، وعضوية في حلف الناتو، مع وضع داخلي مستقر إلى حدّ كبير.
وضعت التحولات التي اجتاحت المنطقة النفوذَ الروسي في مهب الريح، منذرةً بتقويض ما تبقى لها من نفوذ. رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما حصل في ليبيا من إنهاء لحكم القذافي باعتباره طعنة لموسكو بعد أن جرى التوسع في تفسير قرار مجلس الأمن الدولي 1973، من حماية المدنيين إلى تحرك عسكري لإسقاط الزعيم الليبي معمر القذافي. ودفع هذا التطور الدولي موسكو إلى التحرك بكل ثقلها لإنقاذ النظام السوري، والحيلولة دون إسقاطه وربح الوقت لانتزاع اعتراف بنفوذها التقليدي. ولم تقبل موسكو أن تعمل قوى إقليمية ودولية على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط دون أن يكون لها إسهام فيها. فقد كانت موسكو للسنوات الطويلة ما قبل الربيع العربي حليفًا استراتيجيًّا لما يُعرف بـ”محور الممانعة”، بل ومتطلعة إلى أدوار متقدمة في مسار السلام العربي الإسرائيلي، إلى جانب علاقاتها المتنامية مع الإسرائيليين.
وجدت روسيا نفسها وجهًا لوجه مع تركيا، الداعمة الرئيسية للثورة، والحاضنة الأساسية للاجئين السوريين. وبقدر ما بدت تركيا متفاعلة ومتبنية لموجة التغيير الديمقراطي وداعمة لها، بقدر ما بدت روسيا في موقع معاكس، مدافعة عن وضع قديم، مرتكزه استمرار الديكتاتوريات العربية على غرار النظامين الليبي والسوري.
لقد زاد من تعقيد وحرج الموقف الروسي في المنطقة أن قوى التغيير الأساسية محسوبة على ما يُعرف بـ”الإسلام السياسي”. هذه القوى لموسكو موقف تقليدي جذري منها من حيث المبدأ، ولا ترتاح لها؛ إذ ترى في صعودها خطرًا على استقرارها وأمنها القومي في ظل تنامي عدد المسلمين في روسيا الاتحادية. كما ترى موسكو أن الاستهداف الذي تتعرض له دول ما يُعرف بمحور “الممانعة” من قِبل قوى التغيير من شأنه أن يقوِّض نفوذها، وينتزع منها فرص المساهمة في صياغة النظام الإقليمي الجديد الذي سيعقب هذه التحولات التي تجتاح المنطقة.
وبين الدعم المباشر للنظام السوري عسكريًّا واقتصاديًّا، ودعْم طهران في مفاوضاتها النووية، إلى تكثيف جهودها الدبلوماسية لايجاد تسوية بين نظام الأسد والمعارضة، حرصت موسكو على أن تؤمِّن حضورها في المنطقة. بل وساهمت مساهمة رئيسية في لجم أنقرة عن التدخل العسكري في سوريا لصالح الثوار، فاعترضت على فرض منطقة عازلة لحماية اللاجئين السوريين سعت أنقرة لإقامتها، واستفادت موسكو في هذا من التحفظ الأميركي على التحرك التركي في سوريا؛ حيث كانت ترى فيه توسعًا للنفوذ التركي سيقلِّص فرص مناورتها في المشهد السوري. فالسياسة التركية نزعت منذ سنوات إلى تحقيق نوع من الاستقلالية عن سياسات الناتو من جهة وعن حلفائها التقليديين لاسيما واشنطن، محاوِلة انتهاج خط ثالث غير تقليدي في السياسات الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، يستعيض عن معادلة “الديكتاتورية مقابل الاستقرار” إلى معادلة “التحول الديمقراطي يحقق الاستقرار”(6)
الرد التركي لم يتأخر، فإلى جانب موقفها القوي الرافض لاستمرار الأسد في الحكم، احتضنت أنقرة مختلف أطياف المعارضة، بل ذهبت في أكتوبر/تشرين الأول 2013 إلى حدِّ إجبار طائرة سورية قادمة من موسكو باتجاه دمشق على الهبوط في تركيا وإخضاعها للتفتيش، وكان على متنها 35 شخصًا بينهم روس. عكَسَ هذا الحادث تصاعد التوتر بين موسكو وأنقرة، وكادت تُلغى بسببه زيارة الرئيس الروسي لتركيا. وحذَّرت أنقرة موسكو العديد من المرات من اختراق طائراتها للأجواء التركية، وبدت متضايقة جدًّا من التدخل الروسي المباشر في سوريا، في تحرك عسكري بدا فيه تجاهل لأي اعتبار لتركيا كقوة إقليمية معنية مباشرة بما يحصل على حدودها.
لا شك أن إسقاط الطائرة الروسية، كان رسالة غضب تركي على ما رأته نوعًا من التهديد لأمنها القومي، سواء عبر تنفيذ عمليات على حدودها أو من خلال اختراق مجالها الجوي. وكما شدد الأتراك على أن لا رغبة لهم في التصعيد تجاه شريك اقتصادي رئيسي، وأن ما قاموا به لا يتعدى كونه حماية لسيادتها ومجالها الجوي. وهي رسالة كان لابد منها تجاه موسكو الشريك الاقتصادي الكبير، حتى يقتنع بأن الشراكة الاقتصادية وحاجة تركيا للغاز الروسي المقدَّر بـ (20 مليار دولار)، لا تعني القبول بالتجاوز تجاهها، أو المس بأمنها القومي.
خلاصات:
أولًا: وصلت العلاقات التركية-الروسية إلى ذروة غير مسبوقة من التعاون مع بداية القرن الحادي والعشرين، وتحول الطرفان إلى مفتاح للأمن والاستقرار في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز رغم ما فيهما من عناصر توتر كبيرة. وتدعمت هذه العلاقات بشراكة اقتصادية متميزة دعمت اقتصاديات البلدين، في وقت شهد فيه العالم أزمة اقتصادية عميقة لا تزال تلقي بظلالها على العالم إلى اليوم.
ثانيًا: تباين وجهات النظر بين موسكو وأنقرة بشأن ملفات كثيرة، لم يمنع البلدين خلال السنوات الأخيرة من اختيار التنسيق والتعاون بشأن قضايا استراتيجية حيوية، وتنسيق مواقف مشتركة كانا في حاجة إليها، مكَّنتهما من إحداث التوازن المطلوب في المشهد الدولي، سواء لجهة الحدِّ من نزعة “الناتو” التوسعية، أو الموقف من الاتحاد الأوروبي، أو الغزو الأميركي للعراق، وهي مواقف حدَّت من هيمنة قوى غربية على المشهد الدولي.
ثالثًا: ما يشهده العالم اليوم من ديناميكية وتحول مصحوبين بتنامي مخاطر كثيرة، لاسيما تنامي الإرهاب وانتشاره، وتحوله كمًّا ونوعًا، يفرض على البلدين الكثير من نهج الواقعية السياسية، لأن واحدة من المناطق المرشحة لعدم الاستقرار والاستهداف بالإرهاب هي مجالهما الحيوي، في ظل نزعات الانفصال، والتعدد العِرقي، والصراع على الطاقة، وتمدد الجماعات “الإرهابية” إلى هذا المجال (نشرت وسائل اعلامية دولية هذه الأيام صورًا لمراكز تدريب أقامها تنظيم “القاعدة” في أفغانستان) وما لذلك من تهديدات حقيقية للروس.
رابعًا: في الملف السوري، وبقدر الحرص الذي تبديه روسيا في المحافظة على نفوذها التقليدي في سوريا، فإن عليها أن تدرك أن تركيا التي تمتد حدودها جنوبًا مع سوريا على امتداد حوالي 900 كلم، وما طالها بسبب الوضع السوري، لا يمكنها أن تقف موقفًا سلبيًّا دون حماية أمنها القومي، لاسيما أنها سياسيًّا وأخلاقيًّا تقف مع الشعب السوري في ثورته من أجل التغيير والتخلص من الاستبداد والديكتاتورية. وتقتضي هذه المعادلة من الروس حُسن إحداث معادلة دقيقة بين حماية نفوذها والمس بالأمن القومي لتركيا من جهة، وأيضًا عدم الوقوف ضد حق الشعب السوري في التغيير. روسيا يمكن أن تسرِّع من الحل السياسي السوري، وتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي، وإعادة بناء ثقة مع القوى السورية المستقبلية لتأمين مصالحها.
خامسًا: المغامرة الروسية في الحرب الأهلية السوري، وإن جاءت نتيجة لعوامل مركبة منها ما تراءى لها من “فراغ” اعتقدت أن واشنطن تركته في المنطقة، فتقدمت هي لملئه، أو لجهة الاندفاع لتأمين نفوذها في سوريا، عبر انتزاع حق المشاركة في صياغة المشهد السياسي لما بعد الأسد، أو للانتقام لخسارتها أوكرانيا حامية شرقها الأوروبي، فإنها غامرت باستقرارها الداخلي، لاسيما إثارة الأقليات المسلمة في الجمهوريات الاتحادية أو داخل موسكو نفسها. وحده التعاون مع تركيا من شأنه نزع فتيل الكثير من هذه المخاطر.
سادسًا: من الطبيعي أن نشهد نوعًا من التنافس وعدم الارتياح المتبادَل بين البلدين، خاصة أن الروس يراقبون الصعود الملحوظ للقوة التركية في مختلف المجالات؛ فالكثير من الخبراء يتوقعون أن تحل تركيا محل روسيا كأكبر عاشر قوة اقتصادية في العالم مع منتصف العقد المقبل. فعلى المدى البعيد تتجه تركيا حسب التقارير العالمية إلى تحقيق نسبة نمو لا تقل عن 4.5% بينما لن تزيد عن 2.5% بالنسبة لروسيا.
إلى جانب ذلك، وحسب توقعات الأمم المتحدة، يقترب عدد سكان البلدين من التساوي خلال عقدين، رغم التفاوت الحالي بينهما لصالح روسيا بـ140 مقابل 80 مليون، بينما سيتراجع عدد سكان روسيا خلال عقدين إلى 115 مقابل وصول عدد سكان تركيا إلى أكثر من 100 مليون نسمة، وما لهذه المؤشرات من تأثير على النمو الاقتصادي.
سابعًا: عضوية تركيا في “الناتو” وكونها القوة العسكرية الثانية داخله من شأنها أن تمكِّنها من إعادة رسم علاقة مختلفة مع روسيا، في ظل المخاوف الروسية المتنامية من تطويق الحلف الأطلسي لها، وبناء هذه الثقة يتطلب تفاهمًا روسيًّا-تركيًّا لا غنى عنه.
ثامنًا: تبدو السعودية مرشحة أكثر من أية دولة أخرى لتعزيز دبلوماسيتها من خلال التدخل بين أنقرة وموسكو من أجل الإقناع بالتهدئة من جهة، وتفعيل تعاون اقتصادي وسياسي مع البلدين من شأنه أن يكون مدخلًا لاحتواء الموقف الروسي ودفعه باتجاه القبول بالانتقال السياسي في سوريا في مقابل طمأنته على مصالحه في المنطقة. وهي خطوة يحتاجها جميع الأطراف لاسيما الرياض في مرحلة تقتضي تنويع وتوسيع وتعزيز الدبلوماسية العربية خارج المظلة الأميركية التي تُظهر ارتباكًا وترددًا وتراجعًا في الشرق الأوسط.
تاسعًا: رغم إكراهات الماضي (حروب إمبراطورية وتموقعات الحرب الباردة) وخلافات الحاضر (الشرق الأوسط خصوصًا) فإن مصالح كبرى متبادلة لا يمكن القفز عليها أو إزاحتها جانبًا من أجل الدخول في معارك ليس فيها رابح؛ فالتاريخ والجغرافيا يفرضان أكثر من التهدئة، وهو التعاون.
عاشرًا: رغم أن خيار التهدئة واحتواء الأزمة لا يبدو فقط راجحًا وإنما هو السيناريو الأفضل للطرفين، فإن ما يمر به العالم اليوم من تحول كبير طال أهم الفاعلين الدوليين يجعل سيناريو الانزلاق إلى التصعيد يبقى واردًا بسبب حالة الغليان التي تعيشها المنطقة.
هوامش
(1) Kate Fleet (Editor): The Cambridge History of Turkey Volume 1: Byzantium to Turkey 1071–1453, 2010
(2) National Human Development Report Russian Federation 2008: Russia Facing Demographic Challenges
(3) ?ener Aktürk, Russian–Turkish Relations in the 21st Century, 2000–2012, Russian Analytical Digest No. 125, 25 March 2013
(4) Zvi Magen and Gallia Lindenstrauss, Russian-Turkish Relations: Contemporary Dilemmas of Past Empires, Strategic Assessment | Volume 16 | No. 2 | July 2013 61
(5) أحمد داود أوغلو: “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”، مركز الجزيرة للدراسات، النسخة العربية 2010.
(6) قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 هو قرار أصدرته الأمم المتحدة بتاريخ يوم الخميس 17 مارس/آذار 2011 كجزء من ردِّ الفعل الدولي على ثورة 17 فبراير/شباط، يَقتضي فرض عدة عقوبات على حكومة القذافي الليبية أهمُّها فرض حظر جوي فوق ليبيا وتنظيم هجمات مُسلحة ضد قوات القذافي الجوية لإعاقة حركتها ومنعها من التحليق في الأجواء الليبية.
* باحث في العلاقات الدولية والإسلام السياسي/ مركز الجزيرة للدراسات