يعد “الحسن بن الهيثم” المولود فى البصرة بالعراق عام 965م، أعظم فيزيائي عربي، فهو صاحب دور قوي ومؤثر تطوير علم البصريات، بالإضافة إلى إسهاماته فى العلوم الطبيعية والفلك والرياضيات والفلسفة.
فقد أنشأ “ابن الهيثم” علم الضوء الحديث، الذي شرحه فى كتاب”المناظر”، الذي يقع فى سبعة مجلدات، وفيه وضع أسلوب التفكير العلمي المنهجي التجريبي، الذي تأثر به معظم العلماء من بعده مثل: ليوناردو دا فينشي، جاليلو جاليلي، ديكارت، روجر بيكون، إسحاق نيوتن.
الضوء منذ القدم
أهتمت الحضارات القديمة بالضوء مثل: حضارة الفراعنة، الحضارة الآشورية، الحضارة البابلية، فجميعهم استخدموا عدسات الكوارتز المصقولة والمرايا، لمعرفة خصائص الضوء، ولقد وضع أفلاطون وإقليديس المبادئ الأساسية لهندسة العدسات، وبعض قوانين انعكاس الضوء المسلط على المرايا.
فكانت هذه الخطوات الأولى لمعرفة الضوء، حتى بدأ العالم العربي “يعقوب بن أسحاق الكندي” في دراسة خصائص الضوء فى القرن التاسع الميلادي، ومن بعده العالم العبقري”بن الهيثم” فى القرن العاشر الميلادي.
تطوير اللغة.. هل يكون إحدى مفاتيح التقدم العلمي العربي؟
كتاب المناظر
تلقى “ابن الهيثم” دعوة من الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي ليأتي إلى مصر، بعد أن وصله قول ابن الهيثم”لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع فى كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان”، فلما تفقد “ابن الهيثم” مكان بناء السد أدرك صعوبة بنائه مع ضعف الإمكانيات، فادعى الجنون ليأمر الخليفة باحتجازه فى بيته فيظل فيه ما بين 1011-1021م، وخلال هذه الفترة بدأت فكرة هذا الكتاب تراود مخيلة”بن الهيثم”، مما يدل على حبه الشديد للعلم وشغفه لمعرفة خصائص الاشياء من حوله ودراستها بكل عزم وقوة.
احتوى الكتاب على سبعة مجلدات هي:
#كيفية الإبصار بالجملة.
#تفصيل المعاني التى يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها.
#اغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها.
#كيفية إدراك البصر بالانعكاس عن الأجسام الثقيلة.
#مواضيع الخيالات.
#أغلاط البصر فيما يدركه الانعكاس وعللها.
#كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة لشفيف الهواء.
فكما نرى من عناوين فصول الكتاب، فهو يناقش نظرية الرؤية، ووظائف العين فى الفصول الثلاثة الأولى، وفي باقي الفصول يناقش الفيزياء التقليدية للبصريات.
فقبل كتاب”المناظر” ومنذ القدم، كانت تسود نظريتان عن الإبصار وضعها اليونانيون، ومنها نظرية “إمبيدوكليس” الموضوعة فى القرن الخامس قبل الميلاد، والذي يقول فيها “إن الإبصار يحدث بسبب شعاع خاص ينبعث من العين يصطدم بالجسم مما يجعله واضحاً”، والتى عرفت باسم”نظرية الانبعاث”.
وقد أضاف إليها “أفلاطون” إن العين تحتاج أيضاً شعاعاً خارجياً للإبصار، أما “أرسطوا” فقد خالفهما فقال إن الأجسام تحرك الهواء بينها وبين العين مما يسبب الرؤية، أو ما عرف باسم “نظرية الولوج” التي تقول إن الضوء يدخل العين من الخارج، وهذه النظرية كان يراها”إبيقور” التفسير الأنسب لعملية للإبصار.
وقد أيد إقليدس وبطليموس”نظرية الانبعاث”، على عكسهما رجح “ابن الكندى” العالم العربي نظرية تجمع ما بين نظرتي الانبعاث والولوج، لم يحسم هذا الخرف سوى”الحسن بن الهيثم” العالم الفذ، عندما نجح فى إثبات أن العين تبصر بواسطة انعكاس الأشعة من الأجسام على العين فترسم تلك الأشعة على الشبكية فتنتقل من خلال عصب الرؤية من الشبكية إلى الدماغ فتتكون الصورة المرئية للأجسام، وليس بواسطة شعاع ينبثق من العين إلى هذه الأجسام، وبذلك أبطل ابن الهيثم النظرية اليونانية لكل من أقليدس وبطليموس.
بالإضافة إلى شرح وتركيب العين ووضح أجزاءها بالرسوم وأعطاها أسماء أخذها عنه الغربيون وترجموها إلى لغاتهم، وما زالت مصطلحاته العلمية مستخدمة حتى الآن، ومنها الشبكية”Retin”، القرنية”Cornea”، السائل الزجاجي”Viteous Humour”، السائل المائي”Aqueous Humour”، بالإضافة إلى أبحاثة فى استخدام العدسات فى إصلاح عيوب إبصار العين.
لماذا فرصة العرب الآن فى التقدم أفضل من أى وقت مضى؟!
القمرة
تظل تجربة”ابن الهيثم” فى الغرفة المظلمة التى استخدمها فى تجاربه البصرية، والتى شاهد فيها صورة الأشياء التى تظهر مقلوبة داخل هذه الغرفة فمهد من خلال هذه الغرفة الطريق إلى ابتكار آلة التصوير، من أهم ما ورد فى الكتاب.
منهج”ابن الهيثم” فى الكتاب
يعد”ابن الهيثم”رائد المنهج العلمي الحديث، المتبع من قبل العلماء كافة،فقد وضع منهج الاستقراء لمعرفة ماهية الأشياء وعنه يقول”رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به ونوقع الجد فى البحث عن حقيقته ونستأنف النظر فى مباديه ومقدماته ونبتدىء باستقراء الموجودات..
وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر فى حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى فى البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط فى النتائج ونجعل غرضنا فى جميع ما نستقرئه ونتصفحه، استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى فى سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهى بهذا الطريق إلى الحق الذى به يثلج الصدر ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التى عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التى يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات”
مجموعة مُذهلة من طرائف و نوادر اللغة العربية !
تهافت العلماء على الكتاب
ولقد استقبل العلماء كتاب”المناظر” باهتمام شديد لدراسة وتنقيح ما فيه من أسس لعلوم الضوء والإبصار، مثل: قطب الدين الشيرازي وكمال الدين الفارسي، وهما عالمان فارسيان، عاشا فى القرن الثالث عشر.
وتُرجم كتاب”المناظر” لأول مرة إلى اللاتينية في أواخر القرن الثاني عشر، أو بداية القرن الثالث عشر، تحت عنوان: وكتب الفيلسوف الإنجليزي والعالم التجريبي”روجر بيكون” ملخصًا له؛ وكذلك فعل معاصره البولندي ويتيلو؛ وسرعان ما ذاع صيت الكتاب في جميع أنحاء أوروبا.