سيكون من الصعب على “آلان جوبي” الفائز بالمرتبة الثانية في انتخابات اختيار مرشح اليمين الفرنسي لخوض الاقتراع الرئاسي المقبل؛ انتزاع النصر من “فرانسوا فيون” الذي حقق المعجزة ليلة الأحد الماضي، ليس بتقدمه بفارق كبير على “جوبي” الذي جزمت استطلاعات الرأي بفوزه، وإنما إقصاؤه النهائي للرئيس السابق “ساركوزي” من حلبة المنافسة وإيقاف حلم عودته إلى قصر الإليزيه.
سيرتاح المشهد السياسي في فرنسا، من النشاط المفرط لـ ساركوزي فقد كثرت هفواته وأثار حفيظة كثيرين في صفوف اليمين والوسط الفرنسي على السواء. كلهم انتقدوا في الرئيس السابق جموحه السلطوي المفرط والنزعة الفردية “البونابرتية” ونزوعه نحو الاستئثار بالادوار الرئيسة سواء في السلطة او في زعامة المعارضة.
يتصدر ويحتكر الواجهات، غير مبال بطموحات أصدقائه وبالأثر النفسي الذي يخلفه ذلك في نفوس المعارضين لنهجه في القيادة، وقد كثروا في المدة الأخيرة، فصاروا ينتظرون الفرصة المواتية لإقصائه نهائيا من الميدان. ابتهجوا في أعماقهم وهم يشاهدون في التلفزيون عملية الإعدام الرمزي للرئيس السابق، بآلية ديمقراطية لا غبار عليها.
صحيح أن “ساركوزي” لمح وهو يعلن انسحابه، إلى بعض أخطائه، لكن بعد فوات الأوان اي في اللحظة التي وضعت فيها رأسه تحت المقصلة الديمقراطية.قال فيما يشبه النقد الذاتي والتوبة المتأخرة: إنه لا يتحمل الذنب كله، لأنه خلق كما هو. طبعه يغلب تطبعه. لم يستطع الموازنة بين الطبع والتطبع، مؤثرا أن يظل وفيا للأسلوب الذي جبل عليه في مباشرة السياسة والحياة العادية والعلاقات مع الناس.
ومع ذلك قليلون يشكون في أن “نيكولا” سيخلد إلى الراحة ليمضي بقية حياته قانعا بتقاعد مريح، مكتفيا بصفة العضوية بالمجلس الدستوري إذا لم يزهد فيها والحق في مكتب وحراسة أمنية توفرها الدولة الفرنسية لكل الرؤساء السابقين.
ربما يعاوده الحنين الجارف إلى السلطة والزعامة والأضواء، فيعود إلى الساحة عبر بوابة أخرى تفتح له أو يقتحمها عنوة.لقد سبق له أن أسر إلى الأقربين منه وإليه ليلة فشله في الانتخابات الرئاسية عام 2012 أمام، فرانسوا هولاند، أنه يريد الابتعاد عن المسرح، غير أن الدائرة الضيقة نصحته بالتريث ريثما تنجلي الأجواء.
ولما استأنف نشاطه السياسي، ضاعف من سرعته وهو مثقل بسلسلة من الفضائح أفلت منها قضائيا بمعجزة. فهل تدفعه الثقة المفرطة بالنفس إلى معاودة التجربة والتمرد على ما أرغم على تركه مكرها؟
يرتبط الجواب بمدى قدرة الرئيس “ساركوزي” على التخلص من فكرة “المخلص” المنقذ لبلده و للشعب من خطر يعتقد أنه يتهدد الاثنين، بسبب عجز السياسيين من اليسار واليمين،عن الفعل والمبادرة، وافتقادهم الجرأة والإقدام.صفتان يعتز بهما.
وبصدد هذه النقطة أو النزعة، يبدو أن المهاجر البولندي الطموح، الشقي في طفولته الناجح في الارتقاء إلى سدة الرئاسة في فرنسا، لم يفهم أن الظروف التي بوأته وساعدته، لا تتكرر وأن حركية المجتمع تفرز في كل مرحلة طرازا وشكلا من الزعامات والشخصيات القيادية.
توقع كثيرون، فشل “ساركوزي” في اقتراع الترشح للرئاسة، خاصة وقد لاحقته الملفات وحملات وسائل الإعلام وخصومه السياسيون.كلهم استغلوا زلاته وتقلبات مزاجه السياسي وانعطافه المباغت نحو أفكار اليمين المتطرف. تجاهلوا أنه كان في وقت من الأوقات معتدلا ومنفتحا على اليسار خلال ولايته الرئاسية وأنه قاد إصلاحات صعبة. لكنهم يرددون: كفى من حضوره الطاغي…؟
إذا كانت مرحلة “ساركوزي” قد انتهت، فإن الأتي بعدها، محفوف بالكثير من علامات القلق والاستفهام، خاصة إذا صمد الفائز الأول، فرانسوا فيون، في الجولة الثانية من اقتراع تعيين مرشح اليمين والوسط للرئاسة، ليضمن المنصب السامي لاحقا، أمام تشرذم اليسار وكثرة المرشحين باسمه، ما يضعف حظوظ الفارس الثاني “ألان جوبي” في تحقيق الأمل الذي تمناه له الرئيس الأسبق، جاك شيراك، الذي قال عنه جملته المشهورة : “إنه الأفضل بيننا”.
لم يعد الحزب “الديغولي” كما تركه وبناه شيراك، يقود سفينته زعيم قوي يتم اختياره للموقع الرئيس بالتوافق، بدل الاحتكام إلى أي مصوت يدفع صاحبه 20 يورو، ليعطيه الحق في انتقاء مرشح من بين آخرين. تغيرت الكتلة الناخبة إلى حد كبير، واتخذ الصراع التقليدي بين اليمين واليسار أشكالا جديدة، وبالتالي لم تعد المراهنة على كل أصوات ناخبي اليمين ممكنة، لذلك توزعت بنسب متفاوتة بين سبعة مرشحين للرئاسة من نفس التنظيم “الجمهوريون”.
سيتواجه، جوبي وفيون، يوم الخميس المقبل، سيحاول كل واحد أن يعرض على الناحبين أفضل ما عنده من أفكار ومقترحات وإجراءات؛ تشكل عماد برنامجه لإخراج البلاد من الأزمات التي تتخبط بها، وهي متجهة نحو ما هو أصعب وأعقد. مع الخشية من أن تصبح تلك الأزمات السماد المخصب لأرض يمكن أن يكتسحها اليمين المتطرف الواقف بالمرصاد، محفزا بالانتصارات التي يحققها الشعبويون في عدد من البلدان الغربية، آخرها الولايات المتحدة.
و يمكن القول إن كلا المرشحين لرئاسة فرنسا، يسعيان إلى إلحاق الهزيمة ببعضهما، وعينا هما مركزتان على اليمين المتطرف خلال معركة ستكون طاحنة خلال العام المقبل.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن المرشحين المتنافسين (فيون وجوبي) صرحا أنهما سيدققان برنامجهما خلال الأيام القليلة المتبقية لاستمالة المقترعين عليهما علما أن الوقت لم يعد كافيا خاصة بالنسبة ل “جوبي”
سيراهن “جوبي” على استعادة الأصوات التي خذلته في الجولة الأولى وذهبت لغريمه “فيون” وإن اتسم برنامجه، بالمحافظة والليبرالية الصارمة التي تعني اتخاذ إجراءات مريرة، يتساءل معها المحللون إن كان الفرنسيون سيقبلون “ثورة المحافظين” وقد اعتادوا على الدولة كبقرة حلوب، بمعنى أن عودة الانقسام إلى المجتمع الفرنسي واردة بين دعاة اللبرالية المتوحشة واليسار المتشدد.
إشكال آخر يستوقف ذات المحللين يتعلق بنسبة المشاركة في اقتراع الخميس المقبل؟. هل سيصل العدد إلى الملايين الأربعة مثل يوم الأحد، أم أن نسبة ستقول لقد حسمت المعركة لصالح “فيون” وأن جوبي، سيصعب عليه تدارك الفرق بينه وبين “غريمه”.
صحيح تبقى المفاجأة مكنة دائما في صناديق الاقتراع، وهذا ما يجري وراءه “جوبي” لذلك سيركز حملته على تبيان مخاطر التدابير الاقتصادية المحافظة التي ستلحق الضرر بالفئات الشعبية. سيخاطب الوسط وأشتات من اليسار، وشرائح من اليمين اللبرالي المعتدل الممثل في بقايا “الديغولية الاجتماعية” وهي المدرسة التي تكون فيها “فيون” على يد الراحل “فيليب سوغان” لكنه مال إلى المحافظة بعد وفاة معلمه بل صا معجبا بالراحلة “مارغريت تاتشر”
قد يتطرق “جوبي” تلميحا وهو يقاوم من أجل البقاء، إلى بعض السلبيات في شخصية منافسه “فيون” سيتساءل لماذا ظل منافسه وزيرا أول في حكومة الرئيس، ساركوزي، خمس سنوات دون أن يرفع رأسه معارضا أومنتقدا، والكل كان يعرف أن الود والانسجام مفتقد بينهما. لماذا سكت وأحنى الرأس ورضي بوضعية معاون الرئيس؟ هل كان حبا في المنصب أم رغبة في إحصاء وجمع وتوثيق أخطاء ساركوزي. سيعتبر “جوبي” ذلك “خيانة وانعدام الوفاء” لكنه مبرر لن يقنع عددا كافيا ومؤثرا من المصوتين.
الوقت ضيق ومساحة المناورة محدودة أمام “جوبي” لكي يقلب الكفة لصالحه. إن حدثت، فستكون أكثر من مفاجأة بل معجزة. وإذا أخفق كما تشير الدلائل، سيذكره التاريخ السياسي لفرنسا، كلاعب وفاعل ممتاز، لم تسعفه الظروف، لأنه ضحى بسمعته ورصيده المعنوي من أجل الدفاع عن شرف رئيسه السابق، جاك شيراك. قبل أن تمسح فيه تهم سوء التدبير المالي لبلدية باريس، حين تولي، شيراك، عمدتها.
دافع “جوبي” عن رئيسه، فحكم عليه بالسجن غير النافذ وبالحرمان من مزاولة النشاط السياسي، لذلك من الطبيعي والوفاء أن يصفه “شيراك ” بأنه الأفضل بين المحيطين به المخلصين له.
الرئيس الأسبق مريض الأن ، عاجز عن تقديم اية خدمة لمريده الوفي. أطلق المعجبون على “جوبي” لقب “أمستراد” لما ظهر في الواجهة السياسية، كناية عن ديناميته وذكائه ودقته. هذا الجيل من الحواسب اختفى من التداول في السوق، ولم تبق إلا ذكراه، فكيف يكون قادرا على الصمود أمام سحر الكاهن “فيون”؟