نحن نعيش في عالمٍ قاس، مهدد كل لحظة بإندلاع حرب عالمية ثالثة، فلم يعد الأمر مقتصراً على الخلافات العسكرية والأيدولوجيات فحسب، بل باتت صراعاً على المكشوف بين الأديان والطوائف، خصوصاً مع ظهور أسماء مثل الإرهاب الإسلامي، ومع وجود كيان مثل داعش، إلى جانب الوجود اللزج المستمر لكيان إسرائيل الصهيوني.
الحقيقة أن الأمر ليس بجديد، الصراعات بين الطوائف والأديان مستمرة منذ نشأتها، لكن التطورات السريعة المتلاحقة تجعل أعيننا تتسع برعب أمام كل هذا الكم من الكراهية المتبادلة بين البشر دون النظر للإنسانية، هذه الكلمة الأشمل والأوسع التي تضمنا جميعاً، والتي باتت مهددة فعلاً بالخطر.
فعلى الرغم من كل هذه الصراعات، إلا أن هناك الكثير من الأوقات التي انتصرت فيها الإنسانية على الكراهية، وعمّ فيها التسامح والسلام على بعض الأماكن، الأمر الذي يعلمنا بأن الأمر ممكناً وليس مستحيلاً على الإطلاق.
اليوم نستعرض افلاما عن التسامح الديني .. تناولت الصراعات الدينية أيضاً بشكل لطيف ومؤثر:
مسيو إبراهيم وزهور القرآن:
يملك الكاتب الفرنسي-البلجيكي إريك إيمانويل شميت حساً إنسانياً حالماً بعالم أفضل ومثالي يبتعد كثيراً عن الواقع، ففي هذه القصة التي جُسّدت كفيلم سينمائي عام 2003 من بطولة النجم المصري الراحل عمر الشريف.
يعقد السيد إبراهيم المسلم صاحب حانوت متواضع في أحد أحياء فرنسا، علاقة صداقة قوية بالفتي موييس (موسى) اليهودي، الذي يدعونه باسم “مومو”، والذي اعتاد سرقة بعض البضائع خلسة من “العربي” وكأن جنسيته تتيح له سرقته دون ندم، في حين يراه السيد إبراهيم لكنه لا يبدِ له معرفته بالأمر.
ان هدف السيد إبراهيم أثمن من مجرد محاسبته على بعض علب الطعام المحفوظة، كان يريد أن يتيح له معرفة الآخر وتقبله كما تعلم هو ذلك، السيد إبراهيم الذي يصف نفسه بأنه “صوفي” يكشف لموسى أن الآخرين ليسوا بهذه البشاعة التي يحاول العالم وصفهم بها، وأن هناك احتمالية لعقد صداقة ومحبة بين رجل عجوز مسلم، وفتى يهودي مراهق ببساطة ودون مشاكل.
كما هو متوقع، هاجم الكثيرون القصة والفيلم رغم إنسانيتها المفرطة، وذلك بسبب تبني السيد إبراهيم لموسى في الفيلم، وبسبب طباعه العادية مثل البشر الذين يخطئون ويصيبون، السيد إبراهيم لم يكن ملتزماً تماماً، ولم يذكر من القرآن سوى الآيات المفضلة له والتي تتحدث عن السلام والحب والتآخي، كما ترك ممتلكاته للفتى مومو بعد وفاته.
هنا يجب أن نذكر أن المؤلف لم يعتمد في فكرته الاعتماد الكلي على تفاصيل الأديان سواء للبطل المسلم أو اليهودي، الإنسانية كانت الهدف الاسمي للكاتب والمخرج وطاقم التمثيل، الدين في نظرهم هو رسالة حب وليس تفاصيل ودقة مفرطة في القوانين والشريعة، لكن هذا الأمر بالطبع لم يرق للكثيرين!
عمر الشريف من جديد، هذه المرة في فيلم مصري مع الفنان عادل إمام، في الواقع كان الشريف يميل دائماً للأفلام أو الأعمال الفنية التي تتحدث عن التسامح الديني، كونه رجل صوفي متسامح مع كافة الأديان والمعتقدات، كان يود كثيراً لو أستطاع نقل تسامحه الشخصي إلى العالم الحافل بالفتنة والعنف، لكنه مات قبل أن يرى ذلك!
تندرج قصة حسن ومرقص تحت تصنيف الكوميديا السوداء، رجل الدين المسيحي الذي يضطر للهرب والتخفي في شخصية رجل دين مسلم، والرجل المسلم الذي تهدده جماعة متطرفة بسبب رفضه استلام منصب أخيه المتوفي كأمير لها، فيضطر للهرب والتخفي كمسيحي مع عائلته، يلتقي الإثنان، وتجمع بين العائلتين علاقة رائعة، فكل طرف يعتقد أن الآخر يؤمن بمثل ديانته، لكن ماذا يحدث عندما يكتشفون الحقيقة؟
يعرض الفيلم أن المصاعب والفتنة لا تطول طرفاً واحداً، بل تلتهم نارها جميع الأطراف دون تمييز، وفي هذا درس مفحم للجميع لكن كالعادة، ينسى الكل هذه الحقيقة ويستمروا في كراهيتهم وبغضهم غير المبرر للآخر.
اسكندرية ليه؟
لم يقصد يوسف شاهين المسيحي حتى تقديم فكرة “التسامح الديني” بشكل خاص، أو وضعها تحت الضوء، هو فقط كان يصف علاقته العادية في ذلك الوقت مع صديقيه المسلم واليهودي دون مشاكل، لم يكن أحد يهتم أصلاً بديانة جاره أو صديقه، كما قدم علاقة الحب التي جمعت بين إبراهيم “أحمد زكي” المسلم، وسارة “نجلاء فتحي” اليهودية، والتي تُجبَر على التخلي عن حبها خوفاً من هتلر والهرب خارج مصر مع والدها، لكنها لا تنسَ حبها لإبراهيم، وانتمائها الأول لمصر.
كم هو مؤسف رؤية الوضع الحالي المشتعل في العالم العربي اليوم، ليس بين أبناء الديانات المختلفة فقط، بل وبين أبناء الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد أيضاً، على الرغم من التحضر والعلم وزيادة فرص التعليم والثقافة، يزداد التطرف والفتنة بشكل مثير للدهشة وللعجب أيضاً بين الأجيال الجديدة، وكأنها أفكار مسمومة يتم توريدها خصيصاً لدولنا العربية بطريقة ناعمة مثل دسّ السم في العسل، والمشكلة أننا نسمح بذلك.
لا مؤاخذة
لن يفهم أحد فيلم لا مؤاخذة، قصة وإخراج عمرو سلامة، سوى الأطفال المصريين الذين يعرفون جيداً ماذا يعني وجود طفل مسيحي ضعيف ومنطوي في مدرسة حكومية الأغلبية الساحقة فيها للتلاميذ المسلمين الذين لا يقبلوا وجود “آخر” مختلف بينهم، بعدما سممت آذانهم تصرفات أهلهم غير المسؤولة تجاه المسيحيين في وطنهم.
للأسف، الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن المسيحيين يتعرضون لعنصرية خفية في البلاد العربية، لاتصل لحدّ العنف بالطبع في مصر، لكنها تظلّ عنصرية مقنعة، تتعامل مع المسيحيين وكأنهم ناقلين لمرض ما، فيحذرون أطفالهم من تناول طعامهم مثلاً، أو شرب الماء في منازلهم، وأحيانا التعامل معهم ولمسهم.
المشكلة هي الإزدواجية الرهيبة وغير المفهومة في المجتمع المصري خاصة في الأحياء والمناطق الشعبية، فالناس يحبون بعضهم البعض فعلاً، بل ويموتون دفاعاً عن جيرانهم أو أصدقائهم حتى لو كانوا أبناء دين مختلف، لكنهم في ذات الوقت يدققون في هذه الأشياء التافهة مثل الطعام والشراب ودخول الكنائس مثلاً، الأمر الذي ينعكس حتماً على علاقة الأطفال معاً في المدارس.
لهذا يلجأ بطلنا الصغير “هاني” للتظاهر بأنه مسلم، بل ويحفظ الأناشيد الإسلامية وأسماء الله الحسنى ليرددها في الإذاعة المدرسية في محاولته للإندماج مع مدرسته الجديدة. الأمر الذي ينكشف بزيارة والدته للمدرسة، فيحدث ما كان يخشاه، ويبدأ الجميع في إطلاق لقب “كوفتس” عليه، هذا الاسم العجيب الذي يطلقه الأطفال في مصر على زملائهم المسيحيين.
مواجهة عمرو سلامة للمجتمع في هذا الفيلم عرضته للهجوم الكبير مع اتهامه بالمبالغة في وصف المجتمع المصري المتسامح بطبعه، لكني كما ذكرت مسبقاً، لا أعتقد أن سلامة يشكك في تسامح المصريين مع بعضهم البعض فهم كذلك فعلاً، لكن المشكلة في الاعتقادات البالية التي يتشرّبها الأطفال من صغرهم حول فكرة الإختلاف، أنا أحبك لكني لا أنسَ أنك مختلف عني، الأمر متبادل بين معتنقي الدينيين وليس مقتصراً على دين واحد.
واحد من الأفلام التي رصدت وضع المسلمين في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، كما أظهر بكل صدق وجهات النظر المختلفة، الأمثلة الجيدة من المسلمين المعتدلين الذين يعانون الأمرين بعد الأحداث من هجوم وإعتداءات وتحقيقات، والأمثلة المتطرفة أيضاً التي تسيء إلى صورة الإسلام في العالم.
بطل الفيلم طارق، يبتعد عن دينه بسبب معاملة معلمه المتطرف له في المدرسة، ليصر على الهرب والابتعاد عن الدين بعد دخوله الجامعة، هذا الابتعاد لا يكفل له الحماية من تحقيقات الشرطة واضطهاد المجتمع مع أحداث سبتمبر، الأمر الذي يسهم بشكل أو بآخر من عودته من جديد إلى الدين، بعدما يتعرف على نماذج معتدلة وصادقة مثل الأم، بروفيسور الجامعة وأصدقاؤه المسلمين فيها.
يجب ذكر أنني عانيت قليلاً في إيجاد أمثلة أكبر للأفلام التي تناولت هذه القضية الحساسة بشكل صادق وواضح، ربما يجدر بصُنّاع الفَنّ والسينما في العالم أن يهتموا قليلاً بالمواضيع الشائكة التي قد تسهم ولو قليلاً في الإصلاح والتحسين، لعلها تمنح البعض نظرة مختلفة “للآخرين” في العالم، وتُقرّب من المسافات التي باتت اقرب لصحاري شاسعة بيننا وبينهم.