تعودنا على أن الآفات الصحية والأمراض المعدية هي وحدها التي تضرب بشكل وبائي ينتشر خلاله الميكروب على مساحة جغرافية واسعة تتجاوز الحدود القطرية، لكن ما نتابعه هذه الأيام هو وباء وعدوى من نوع جديد: فضائح ومآسي البكالوريا، والتي تتناسل أخبارها يوميا من تونس إلى المغرب فالجزائر وموريتانيا، ومعها مصر وربما دول أخرى. فضائح تتعلق بتسريب امتحانات البكالوريا في هذه الدول مجتمعة، ومآس تترتب على هذه التسريبات وردود الفعل الإنفعالية لوزارات التعليم التي تشترك في سمة عامة في مجمل هذه الدول: التخبط.
على الرغم من كون وزارة التربية والتعليم في معظم دولنا “العالم- ثالثية” تحصل عادة هي وشقيقتها وزارة الصحة على أكبر حصة من الموازنة العمومية، إلا أن قطاعي التعليم والصحة هما الأكثر تخلفا وفسادا وهدرا وبيروقراطية في هذه البلدان. هذه الحقيقة، لم تسهم إلى حد الآن في دفع أية حكومة مغاربية إلى إعادة النظر في “الهدر” الذي تعاني منه الموازنة في هذين القطاعين، اللهم باستثناء بعض الحلول الترقيعية التجميلية المستوردة غالبا من فرنسا، والتي لم ولن تسهم سوى في مزيد من تدهور الوضع؛ وبدلا من ذلك تبادر الحكومات إلى محاربة الهدر الذي يذهب لدعم المواد الغذائية والمحروقات !!.
ولا نطمح خلال هذا التعليق القصير إلى أن نراجع الفضائح التي شابت عملية “تحديث المناهج”، ولا عملية “التعريب” الارتجالية، ولا التجريب الذي همّ إعادة تكوين المعلمين، دون أن يعطي أية نتائج ملموسة، وهي الكوارث التي تعيشها أسرة التعليم وأولياء الأمور في مختلف الدول المغاربية والعربية دون استثناء. وسنكتفي فقط بإثارة بعض التساؤلات والملاحظات حول “فلسفة التعليم” ببلادنا، والتي تشكل نقطة البدء الحقيقية في أية عملية إصلاح مستقبلية:
- مصطلح “التعليم” الذي يطلق على الوزارة والعملية نفسها بحاجة لإعادة نظر، من أجل فك ارتباطه عن مصطلح “المعلومة”. فلم تعد الكتب ولا القاعات الدراسية هي المكان الذي يمكن للطالب أن يجد فيه “المعلومات” التي تؤهله لنيل شرف التخلص من الأمية، وذلك بعد أن فتح الإنسان في كل مكان، أكبر قاعة مدرسية، وألف أكبر كتاب يحتوي على المعلومات: الأنترنت. وعليه، ومنذ اللحظة التي أصبح الانترنت متاحا للجميع، ويجب أن يصبح متاحا لجميع مواطنينا وطلابنا تحديدا وبالمجان، لم يعد هناك معنى لوجود “معلم” يلقن طالبي “العلم” آلاف “المعلومات” التي تختزنها عشرات الكتب “العلمية”، بل الأجدى أن يقتصر دوره على تمكين الطلاب من التعامل مع الانترنت، وتنمية مهاراتهم في البحث خلال الشبكة العنكبوتية، وتطوير قدراتهم على تحليل آلاف المعلومات المتاحة بعقل نقدي ومنهج علمي مبني على النقاش بدلا من التلقين.
- بعد الحصول على تلميذ “مفكر” يحسن البحث ويتعلم النقاش والدفاع عن وجهة نظرة بطريقة منهجية، ستنتفي الحاجة إلى التقسيم التقليدي للعملية التعليمية إلى مراحل ثلاث تمتد على إثني عشرة سنة، وهو التقسيم العبثي الذي لم يكلف أحد نفسه عناء التفكير في استدامته كل هذه السنين، والذي لا يفيد سوى في هدر الوقت وتعطيل طاقات شبابنا وتخريج “بطالة بالكاد كتفك الحرف”؛ وسنجد أنفسنا بالمقابل أمام عملية تعليمية “أساسية” من ست سنوات مثلا تحقق للمجتمع هدف إزالة الأمية، وتؤهل طلابنا إلى مرحلة “تكميلية” من أربع سنوات مثلا تتم في مسارين متوازيين، أولهما للتعليم التقني والفني الحقيقي المؤهل لممارسة الوظائف التي تحتاجها مجتمعاتنا بكثرة (التعليم الفلاحي، الصناعي، الحرفي..الخ)، وثانيهما يؤهل القسم الباقي للدخول الجامعي اللازم للوظائف الأكثر تخصصا، باعتماد مناهج وتقنيات البحث العلمي أساسا.
- باعتماد المنهجية السابقة، ستنتفي الحاجة إلى تلقين تلاميذنا المعلومات ومطالبتهم باسترجاع ما لقناهم خلال الامتحانات، وتنتفي معها الحاجة للغش وتسريب الامتحانات والرشاوى وباقي الظواهر المرضية المصاحبة للامتحانات، بل وسيزول عن كاهل العائلات عبئان أساسيان يقضان مضجع كل أسرة: عبء الواجبات المنزلية “الغبية”، وعبء “دروس التقوية”، لاسيما إذا أدخلنا إصلاحا جذريا بل وثوريا، ينهي ظاهرة التسرب المدرسي، وسبق لماليزيا أن اعتمدته وساهم في نقلها خلال أقل من عشرين سنة إلى مصاف الدول المتقدمة: إلغاء الامتحانات !!!! نعم، إلغاء الامتحانات، باستثناء تلك المؤهلة للانتقال من المرحلة الأساسية إلى المرحلة التكميلية، وتلك التي تعطى عند إكمال المرحلة التكميلية، إي امتحانين منقطين فقط خلال العملية التعليمية برمتها. أما ما تبقى فستكون مجرد اختبارات لرصد مستوى الطلاب وتحديد مواطن الضعف عندهم دون أن يكون لها تأثير على نجاح الطالب أو رسوبه.
- يجب إعادة النظر في الطريقة المتجاوزة التي نصوغ فيها امتحاناتنا، حيث أن هناك العديد من الطرق لاختبار معارف الطلاب بشكل يعطي تصورا حقيقيا عن فهم الطالب وليس قوة ذاكرته وقدرته على الحفظ، وكلها تؤدي إلى انتفاء الحاجة أو القدرة على الغش، بل والحاجة إلى وجود مراقبين داخل القاعات، كما يتم في الاختبارات التي تتم عبر شبكة الانترنت (Online)، وهي تشترك في كثرة الأسئلة وتحديد وقت متاح للإجابة “بالثواني” وتميز تاليا بين من يكفيه الوقت لتبيان فهمه للمادة، وبين من هم غير ذلك.
أخيرا، فما نحتاجه باختصار هو إعادة تعريف شاملة لمفاهيمنا عن “التعليم” و “المعلم” و “طالب العلم” بل والعلم المطلوب تعليمه، للتأكد من جدواه ومدى مساهمته في توفير حياة كريمة لمواطنينا وقوة لاقتصاداتنا، بعيدا عن العبارات البراقة حول “التعليم العصري الحديث” الذي لم يسهم حتى الآن إلا في مزيد من تأخر دولنا ومجتمعاتنا..