أصبح معتادا بين الفينة والأخرى أن يخرج علينا من يعيد “يائسا أو مستجديا” تكرار الاسطوانات المشروخة حول “حق تقرير المصير للشعب الصحراوي”، مرة بلباس حقوقي، وأخرى بلباس صحفي، وثالثة بتقمص شخصية المؤرخ والمحلل الاستراتيجي. ويجمع بين هؤلاء جميعا عدة صفات أهمها: الجهل، الاجترار، الصور النمطية، تزوير الواقع، وخلط الأمنيات بالحقائق.
آخر ممثلي هذا التيار اليائس، صحفية مستقلة (تعمل لحسابها الخاص) تدعى “حنا مكنيش”، تغطي شرق ووسط إفريقيا، وسبق أن أثارت زوبعة من الاستنكار في جنوب السودان بعد اتهامها باعتماد رواية أحادية لأحد طرفي النزاع، وإثارة النعرات الطائفية، وهو ما لا يختلف عن مقالها الأخير. فبقدرة قادر “نقزت” للا حنا إلى غرب أفريقيا، ونصّبت نفسها خبيرة في شأن شعوب الساحل والصحراء، وحق تقرير المصير، وكتبت مقالا ينضح جهلا، نفهم مبرراته دون أن نتفهمها، سرعان ما تلقفه موقع قناة الجزيرة بالإنجليزية، مع ما له من سمعة مشهودة في تبني كل ما هو شاذ ومثير، دون تمحيص أو تدقيق، انسجاما مع الفلسفة الإعلامية المشوهة للمؤسسة، التي فقدت منذ زمن بعيد حيادها وموضوعيتها، ومعه فقدت مصداقيتها.
ماذا يقول المقال؟ في الحقيقة لا شيء !! أو لنقل لا شيء جديدا أو ذا معنى. باختصار: “إن شباب الصحراويين الممنوعين من زيارة أقاربهم بسبب الحائط الرملي الذي بناه المغرب في السبعينات، محبطون بسبب عدم قدرتهم على تقرير مصيرهم، وتواطئ الأمم المتحدة والدول الكبرى مع المغرب، لنهب الثروات المعدنية والسمكية لهذه المنطقة، وحرمان أهلها من حقهم في التعليم والصحة والعمل “وأن يطلقوا على أبنائهم أسماء صحراوية”، وسيحملون السلاح قريبا لدفع العالم إلى الضغط على المغرب لإخلائها” !!! هكذا بهذه البساطة والتبسيط. ولكم أن تتخيلوا حجم الجهل والتحامل والأوهام التي تحملها السطور الثلاثة الماضية، وسنعرض سريعا لأهمها، حيث لا يستحق مثل هذا الهذيان وقتا أكبر:
الحائط والألغام التي تسهم في تأمين الحدود، لم تكن يوما وسيلة لمنع التواصل بين الناس وأوطانهم. ويعلم القاصي والداني إلحاح المغرب في كل منبر أممي على ضرورة تمكين الأمم المتحدة من إعادة أبنائه المحتجزين في مخيمات تيندوف والحمادة، لزيارة أهلهم وذويهم، وتلبية رغبة من يريد منهم الاستقرار في المغرب. فكيف يلح كل هذا الإلحاح، ويضع الحواجز أمام عودتهم؟؟ ثم ألا تلاحظون كمّ السذاجة المضحكة التي تتضمنها هذه الحجة التي أوردتها للا “حنا” دون تمحيص –كعهدها دائما-، فمنذ متى يسافر الناس آلاف الكيلومترات مشيا على الأقدام بحيث تعيقهم الألغام المزروعة؟ وكيف نظمت الأمم المتحدة مثل هذه الزيارات العائلية في التسعينات، قبل أن تمنعها وبإصرار جبهة البوليساريو؟ ألم يكن الجدار والألغام موجودة؟
الكذبة التالية تخص تكرار عبارة “حق تقرير المصير للشعب الصحراوي” وهي عبارة تحتاج مقالات لتبيان سخافتها وما تحمله من مغالطة، لاسيما مع ربطها بالوضع الفلسطيني دائما. من يملك الحق والكفاءة العلمية لإطلاق مصطلح “شعب” على أبناء الأقاليم الجنوبية المغربية؟ أين هي مجموعة البشر التي اختصت –دون غيرها- بالإقامة على بقعة معينة من الأرض لزمن طويل ممتد، بحيث نطلق عليها مصطلح “شعب”؟ ثم ما معنى تقرير مصيرهم؟ هل نمنح حق الانفصال والاستقلال لكل مجموعة بشرية صغيرة متميزة في لهجتها أو لبسها أو حتى دينها وإثنيتها؟ أذا كان كذلك فسنقسم كل بلد عربي إلى عشرة بلدان إن لم يكن أكثر، وسندافع عن حق “أمازيغ القبايل” في الجزائر في”تقرير المصير”، وتاليا، سترفع كل مجموعة فرعية داخل هذه المجموعة الكبيرة نفس الشعار. وإذا كانت للا “حنا” أوروبية لا تفهم معنى البيعة التي أقرت وثبتت مختلف الوثائق والأعراف الدولية وجودها بين شيوخ القبائل الصحراوية في جنوب المغرب والجزائر مع مختلف سلاطين المغرب المتعاقبين، وأثبتت كذلك أن هؤلاء السلاطين هم من كان يعين الشيوخ على رأس قبائلهم، فعن أي شعب وتقرير مصير نتحدث؟؟ لقد مارست هذه القبائل الجنوبية وشيوخها ما مارسته باقي القبائل وممثلوها شمال ووسط المغرب، تجاه السلاطين المتعاقبين على حكم أقدم ملكية في العالم. ثم لنضع كل هذا جانبا ونحكّم المنطق يا للا “حنا وهادوك اللي خلصوها في جوج سطورا اللي كتبت”: كيف تتمايز قبائل من البدو الرحل لا تعترف بالجغرافيا ولم تفهم معنى الاختصاص بأرض دون غيرها إلا قبل عقود قليلة عن امبراطورية وحكم مركزي راسخ حكم من حدود السودان إلى حدود فرنسا؟ كيف نفصل بين الزنود المغربية الشريفة التي حملت السلاح وقاومت المستعمر الإسباني في جنوب المغرب، عربا وأمازيغ، صحراويين وابناء جبل وساحل؟ هل سالت دماء كل هؤلاء الشهداء الزكية من مختلف فئات ومكونات المغرب دفاعا عن “الجمهورية الصحراوية”؟ أم أنهم عرفوا النضال مع تأسيس جبهة البوليساريو منتصف السبعينات؟!
خرافة أخرى تتكرر من أجل تأليب الرأي العام على المغرب وشيطنة مسؤوليه: استغلال ثروات الجنوب المغربي. طبعا ناهيك عن كونه حقا مغربيا أصيلا أن يستغل ثروات أي جزء من أرضه خدمة للتنمية في تلك المنطقة، فإن الأرقام التي تشهد على مصداقيتها الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة تقر بأن المغرب أنفق على تنمية تلك الأقاليم مبلغا يتراوح ما بين 5-7 دولارات مقابل كل دولار حصل عليه من استغلال الموارد المتاحة هناك، وذلك منذ تحرير هذا الجزء من المغرب عام خمسة وسبعين. وتكفي نظرة واحدة إلى واقع مدن وقرى تلك الأقاليم لملاحظة حجم الجهد التنموي المبذول. ولو كان الصحراويون المغاربة محرومين كما تقول للا “حنا” من الحق في العمل والصحة والتعليم، لكانت صور احتجاجاتهم تملأ وسائل الإعلام على مدى العقود الأربعة الماضية.
أما باقي الأكاذيب فنمر عليها سريعا، من قبيل أن البوليساريو أوقفوا الحرب بعد أن وعدتهم الأمم المتحدة بتقرير المصير، وهو ما يعلمون قبل غيرهم عدم صحته. كذلك القول بأن بعثة المينورسو هي البعثة الأممية الوحيدة لحفظ السلام التي لا تملك ذراعا حقوقية في العالم، والعكس هو الصحيح تماما، حيث أن مهمة بعثات وقف إطلاق النار وحفظ السلام، بالتفويض المعطى لها، ونوعية الأعضاء المشكلين لها، من الطبيعي أن تقتصر على ما جاءت من أجله، وإلا فما الحاجة ساعتها لجهود باقي الوكالات الأممية المتخصصة باللاجئين والطفولة وحقوق الإنسان…الخ؟
وحتى نخفف من ثقل هذه الأكاذيب على قارئنا، نتحول للضحك قليلا على بعض المهازل الواردة في المقال، ونكتفي بتعليق سريع على اثنتين من هذه الأكاذيب: أن الصحراويين ممنوعون من إطلاق أسماء صحراوية على أبنائهم !! طبعا هذا ما لاحظته للا “حنا” بعد أن اكتشفت طغيان أسماء “تامر” و “وائل” و “ميدو” على سجل المواليد في هذه المنطقة. “الله يا حنا.. تكايسي شوية” !!. أما الثانية فأغرب، وهي أن المغرب هو عاشر دولة في العالم في إنفاق الأموال على صناعة وتكوين اللوبيات وجماعات الضغط الدولية، بدليل إنفاقه “3 ملايين دولار” عام 2013 في العاصمة الأمريكية واشنطن !! ..”الرخا هادا يا حنا”، الأكيد أن هذا المبلغ لا يشكل أية عقبة أمام الدبلوماسية الجزائرية وأموال النفط التي تحت تصرفها, “أو لا؟؟” ولو كان هذا الكلام صحيحا، أي أن شراء الأمريكان ممكن بهذا المبلغ التافه، الذي يستطيع الأفراد العاديون وليس الدول دفعه، “غتنوض الكيرا في الميريكان” ويرتفع المبلغ بسبب المضاربة.
أخيرا، فالتهديد اليائس المبطن بحمل شباب البوليساريو للسلاح في وجه المغرب هو من البؤس بحيث ترد عليه الكاتبة بنفسها في المقال: فهل يستطيع من التقتهم للا “حنا” من الشباب المحبطين كما تقول، أن يشكلوا تهديدا للمغرب، الذي تقول هي نفسها أنه بنى جدارا طوله 2700 كيلومتر، يحرسه 120 ألف جندي، ومن ورائهم ملايين الألغام؟؟ ناهيك عن أسئلة أخرى كفيلة بتسخيف هذا الطرح اليائس: إن إطلاق رصاصة واحدة على المغرب هو بمثابة إعلان حرب من الجزائر، فهل تحتمل الجزائر ذلك؟ وهل تتيح لها التوازنات الدولية والقوى الكبرى مثل هذا العبث في هذه المنطقة الحساسة؟ وهل ذاكرة جنرالات الجزائر ومرتزقة البوليساريو ضعيفة إلى هذا الحد، لتحاول اختبار صلابة دفاع المغاربة عن أرضهم، وقدرتهم على قطع أي رجل تفكر في اجتياز حائطها الذي عنونت للا “حنا” مقالها به، تدليلا على غيظ البوليساريو وسادتهم منه.