لا تزال الحكومة المغربية تعمل على إطفاء حرائق الاحتجاجات الاجتماعية في مهدها، لتجنب تحولها إلى ما هو أصعب، وتحويلها إلى كرة تتقاذفها أرجل الشباب في الشارع. فبعد أن أطفأت أو كادت الحريق بين شباب الأطباء، ها هي تسعى جاهدة لإطفاء حريق مماثل بين شباب الأساتذة، في انتظار معرفة المدى الذي يمكن أن تصله احتجاجات النقابات العمالية على إصلاح نظام التقاعد، وما إذا كان العاملون في القضاء سيعودون للتصعيد ضد وزير العدل وإصلاحات قطاعه.
للمزيد: بعد الأطباء..الأساتذة يضغطون على بلمختار لهذا السبب
نقول هذا، من أجل التمهيد لما نحن بصدد التشديد عليه، ألا وهو العنصر المشترك بين احتجاجات الشباب سواء في قطاعي التعليم والصحة أو في صفوف حاملي الدكتوراه، والتي يمكن إدراجها تحت عنوان كبير: التشغيل، وتحديدا أكثر “مسؤولية الحكومة، أية حكومة، عن توفير وظائف لخريجي نظامها التعليمي على اختلاف تخصصاتهم”. لكن قبل ذلك، من المفيد الإشارة، إلى أن الحكومة قد نجحت، بدرجة توفيق عالية، في ما تخاف جميع الحكومات العربية من الاقتراب منه، ونقصد ملف “الدعم الحكومي للمواد الأولية” والذي يدرك الجميع أنه يرهق ميزانية الدولة، دون أن ينال فوائده المستحقين له حقيقة. أما الملف الثاني الذي كانت البشائر تقول أن الحكومة مقبلة مع تشكيلها على تحقيق اختراق فيه، قبل أن تنكفئ وتتوقف عن المتابعة، فهو ملف “اقتصاد الريع”، حيث لا يعلم أحد يقينا ما إذا كانت قد صرفت النظر عنه، أم أن توقفها عن متابعته هو مجرد “تعليق”، لاسيما وأنه كسابقه، لا يقل خطرا –إن لم يزد- على الاقتصاد المغربي، إضافة للفساد طبعا، والأهم، أن محاربة اقتصاد الريع تحظى بدعم ومباركة أعلى سلطة في البلاد، الملك محمد السادس.
وهكذا، يبدو “التشغيل” ثالث أثافي “الدعم” و “الريع”، والذي تبدو مهمة تصحيح مفاهيمه المتوارثة منذ الاستقلال عصية على الإدراك. فهناك فئات عريضة من الشباب، تعتبر أن الحكومة مسؤولة عن تشغيلهم في القطاع العام، لمجرد أنها قامت بتكوينهم، بينما تدرك الحكومات المتعاقبة أنها لا ولن تستطيع ذلك لنقص الموارد، وضعف النظام التعليمي نفسه الذي يخرج أفواجا من المتعلمين الذين لا يمكن التعويل عليهم في ترقية أي عمل، وتلك لعمري مسؤولية النظام التعليمي لا مسؤوليتهم.
إقرأ أيضا: الحكومة تفصل التكوين عن التوظيف في قطاع التعليم..والنقابات غاضبة
إن المرسوم الذي أسال المداد والدماء مؤخرا، والذي يعتبر أن الحكومة مسؤولة عن تكوين الأساتذة لا تشغيلهم، وتمسك الطلاب بالعكس، يعكس عقم المقاربات المتعاقبة لملف التعليم، وعجز اللجان التي توالت على هذا الملف عن استيعاب حيثياته، رغم ما فيها من أسماء وازنة، حيث تطغى على هذه المقاربات الرؤية التقنية، باعتبار المشكلة خاصة بالمناهج والوسائل التعليمية، والحداثة والانخراط في العصر، وضعف التعليم التقني ولغات التدريس الأجنبية،… الخ، ويكفي لحلها الاسترشاد ببركات “الأم فرنسا” حتى نصبح “سنغافورة” شمال إفريقيا خلال عقد من الزمن.
إن اعترافنا باستحالة استمرار الحكومة في ضمان الشغل لجميع خريجي الجامعات المغربية “الهزيلة”، لا يعني وبأي حال، الإقرار بصلاحية أي من الحلول “العبقرية” لوزيرنا الفرانكوفوني “رشيد بلمختار” وزمرته، حيث أن “خوصصة التعليم” إذا صح ما يدور بشأنها، والسماح بشمولها للتعليم الابتدائي، هو مخالفة دستورية أولا، وجريمة وطنية ثانيا. فتوفير التعليم الجيد والمجاني لكل مغربي ومغربية حتى ينهي المرحلة الابتدائية على الأقل هو أمر يجب أن يكون “خارج النقاش”، ولا يسمح لأحد بالعبث أو الاقتراب منه. بل إن الضرورة تقتضي أن يضاف إليه التعليم التقني بعد المرحلة الابتدائية، وحتى سن السادسة عشر، تعليما تقنيا راقيا يضاهي أقرانه في الدول الصناعية، وذلك لتمكين أجيال شابة من الحرفيين من مختلف المهن الصناعية والفلاحية والتجارية والتقنية وغيرها، من الحصول على تعليم راق، وبالتالي تقديم خدمات راقية يستفيد منها مجتمعهم. أما من أراد واستطاع الاستزادة من العلوم التي تقود إلى الجامعات، فيمكن فقط ساعتها أن تدخل المدارس الخاصة إلى هذا الميدان، لتوفير تعليم جيد يؤهلهم للانخراط في جامعات قوية، تقود مخرجاتها إلى القطاع الخاص حصريا، وليس العام !!. أما القطاع العام، وفي حال رغب في الحصول على خدمات بعض هؤلاء الخريجين، فعليه أن يقدم عروضا تشغيلية تنافسية، تمكنه من استقطاب الأجود من بين هذه العناصر.
إن المطلب المحق بفصل التكوين عن التشغيل، لا يستقيم بدون اضطلاع الحكومة بمسؤولياتها عن تقديم تعليم راق يؤهل للانخراط في جامعات قوية، وكذا مسؤوليتها عن تأسيس وإدارة تعليم تقني راق بدوره، يخرج أجيالا من الشباب قادرة على كسب أجور مجزية. أما أن تنفض يدها من المسؤولية عن التعليم وتتركه للقطاع الخاص، على افتراض أنه يقدم تعليما جيدا، وتنفض يدها كذلك من التشغيل، فهي تقدم بذلك استقالة جماعية من مسؤوليتها الاجتماعية، وهو الأمر المرفوض جملة وتفصيلا.
أخيرا، وفي حال رفضت الحكومة أو عجزت عن القيام بهذا التغيير الشامل، وآثرت بقاء معاهد التكوين المرتبطة بها، كالأساتذة والأطباء وغيرهم، وفرض الطلبة مطلبهم بالتوظيف، فيجب على الحكومة بدءا من العام المقبل، أن لا تقبل سوى العدد المحدود الذي يمكنها تشغيله، حتى لو أدى الأمر لتكوين بضع عشرات من الطلاب عوض الآلاف الذين تقبلهم حاليا. أما أن تعجز عن تطوير التعليم، وتعجز عن تغيير ثقافة الريع والدعم والتشغيل، وتعجز عن توفير الوظائف، فالأفضل لها أن تقدم استقالتها، وتنهي اسطوانتها المحفوظة غيبا عن نقص الموارد، وكذا حلولها الكارثية من قبيل خوصصة التعليم.