الثورة والتعذيب خطان لا يلتقيان

سواء اعترف “شقيف” بأنه عذب معارضين في عهد بن علي أم لا، فإن ما صرح به في أحد برامج تلفزيون “الحوار التونسي” كان كافيا ليرج الأوساط الحقوقية والقضائية في تونس. ويكفي أنه وصف جلادي وزارة الداخلية بكونهم “مناضلي الدولة”، أي أنهم في خدمتها، يحمونها من المعارضين بكل أصنافهم وانتماءاتهم.
هناك جدل متواصل منذ زمن بعيد حول دور الجلادين في حماية ما يسمى بأمن الدولة واستقرارها. هؤلاء كان يقال لهم باستمرار إنهم يؤدون “مهمة وطنية”. فعندما ينطلقون في التفنن في حرمان الموقوف من إنسانيته، ويجبرونه على التألم والاستعطاف والبكاء وتمني الموت، والاضطرار لخيانة أصدقائه ومبادئه وهو يرى نفسه قد تحول إلى شيء لا قيمة له، يلمسه الجلاد في أكثر أعضائه حساسية وحميمية، وربما جاءه بأحد أفراد عائلته لمزيد ابتزازه وإهانته. في تلك اللحظات المميتة والمدمرة للذات، يكون الجلاد في قمة النشوة والثقة في أنه قد أدى مهمته “المقدسة” في خدمة “الدولة”.
والدولة في هذه الأجواء السرية والرهيبة لها مفهوم مختلف عن الدولة في العلوم السياسية، لأنها تتجسد عند الأمنيين والجلادين منهم بالخصوص في الحاكم المحتكر للسلطة، والمسير لها بدون رقيب. وبالتالي كل ما من شأنه أن يطيل في زمن بقاء الدكتاتور فإنه يبقى “عملا مشروعا “.
المشكلة اليوم في تونس تنقسم الى ثلاثة مستويات.
يتعلق المستوى الأول باستنطاق الجلادين أنفسهم الذين تم الاعتماد عليهم منذ قيام الدولة الوطنية. وهي مهمة ستكون صعبة ومعقدة. لأن هؤلاء سيجيبون على أسئلة عديدة وخطيرة، ومن بينها من أين تلقوا الأوامر الخاصة باللجوء إلى التعذيب؟ هل المسألة تقف عند المسؤولين الأمنيين أم تتجاوز ذلك لتشمل سياسيين كانوا في موقع المسؤولية.
المستوى الثاني يتحقق عندما يلتقي هؤلاء الجلادين بضحاياهم. كيف سيتصرفون تجاه حق الضحايا في المحاسبة؟ هل سيتقدمون بالاعتذار وطلب السماح أم سيرددون ما قاله صاحب كنية “شقيف” بأن كان يؤدي واجبا نضاليا في خدمة الدولة. كذلك كيف سيتصرف الضحايا مع معذبيهم؟ هل سيتمسكون بمحاكمتهم أم يعلنون مثلما فعل البعض حتى من قبل الشروع في تنفيذ العدالة الانتقالية عن تنازلهم عن حقوقهم وتخليهم عن ملاحقة جلائهم؟ إنها لحظات ستكون حاسمة في مسيرة الشعب التونسي، باعتبارها المدخل لطي صفحات رهيبة من الألم والانتقام.
أما المستوى الثالث، فهو مثير للجدل والاستغراب، حيث أثبتت الوقائع والجمعيات الحقوقية أن التعذيب لا يزال ممارسة مستمرة حتى بعد الثورة.
كل الوزراء الذين تعاقبوا خلال السنوات الأربع الماضية أكدوا أن التعذيب في تونس لم يعد سياسة ممنهجة، وأن الانتهاكات التي تحصل من حين لآخر هي ممارسات فردية ومعزولة، لا تستند على تعليمات من جهات أمنية أو سياسية.
من المؤكد أن المشهد قد تغير في تونس، لكن استمرار التعذيب من بعض الأعوان يعني أن الخلل لا يزال موجودا في صلب العقيدة الأمنية. وأن عديد الأمنيين لم يدركوا حتى الآن، بعد كل المتغيرات التي حصلت في تونس أن إعادة الاعتبار للإنسان هو المقصد الأساسي للتغيير الذي حصل في البلاد ، وأنه بدون ذلك تفقد نضالات الشعوب قيمتها ومعناها. ولهذا وصف التونسيون ثورتهم بأنها ثورة الكرامة إلى جانب كونها ثورة الحرية. وعندما يشعر المواطن بأنه حتى وهو مذنب بأن ذاته مصانة وحرمته الجسدية محمية داخل أماكن الإيقاف والسجون، عندها يدرك بأن البلاد قد تغيرت وهو الذي لم يتغير.
إن الثورة والتعذيب خطان لا يلتقيان، حتى لو كان الخصم إرهابيا أو مجرما محترفا. نعم المعادلة صعبة وقاسية أحياناً، لكنها ضرورية، حتى لا يصبح كل ما بني على باطل فهو باطل.

* كاتب من تونس /”العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *