ما يبدو واضحا لكل متابع للشأن الليبي أن هناك إجماعا دوليا وإقليميا، مدعوما برغبة عارمة صادرة عن قوى شعبية ليبية، بضرورة أن تصل هذه الأطراف المتنازعة في ليبيا إلى توافق حول إنشاء حكومة وحدة وطنية، تنهي الصراع وتملأ الفراغ، وتعيد البلاد إلى المسار الذي يمكن أن يفضي إلى بناء الدولة واسترجاع الأمن وتنشيط المؤسسات الأمنية والعسكرية العاطلة والعاجزة عن أداء مهمتها.
المزيد: السلام الصعب في ليبيا
نعم، لقد ضاق الرأي العام الليبي وقواه الشعبية، بهؤلاء المتصارعين فوق أرض ليبيا، والذين لا يملك أغلبهم أي تفويض شعبي، ولا يمثل إلا مجموعات جهوية استولت على المشهد مغالبة وبقوة السلاح، في مواجهة برلمان عاجز وحكومة تابعة له، لا تسيطر إلا على جزء من شرق البلاد، فكان ضروريا أن تتدخل قوى خارجية ودولية، لها نفوذ وقدرة على فرض إرادتها على هذه الأطراف لكي تستجيب لصوت العقل، وتلبي حاجة المواطن الليبي البسيط الذي وجد نفسه مطحونا ومسحوقا وممزقا بين هذه القوى المحلية، وهي محلية اسما ولكنها في الواقع لها امتدادات في الخارج ولها أجندات مكلفة بتنفيذها، خاصة في الطرف الذي لا يمثل الشرعية ولا يملك تفويضا من الناس، ولكنه يملك سلاحا ورجالا اشتراهم بالمال السياسي، واستطاع أن يسيطر بهذا السلاح وهذا المال السياسي وهؤلاء الرجال الذين استمالهم بالمال أو بإثارة النزعة القبلية والمناطقية، في أن يكون رقما في المعادلة الليبية، وأن يدع الأطراف الدولية تحسب له حسابا في المفاوضات والمشاورات والتسويات، ويضطر الجانب الذي يملك الشرعية، رغبة في إنهاء حالة الاحتراب وحقنا لدماء الليبيين، أن يجلس معهم ويقبل الدخول في المفاوضات التي تديرها الأمم المتحدة لاقتسام القرار السياسي الذي يرسم مصير البلاد بحضورهم والإنصات لرغباتهم.
ولعلهم جميعا لم يدخلوا هذه المفاوضات طواعية ولا امتثالا للإرادة الدولية، ولا رضوخا لإرادة المواطن البسيط الذي ضاقت به سبل الحياة نتيجة هذه الأوضاع المتردية، ولكن عجزا منهم على حسم الصراع عسكريا، فالميليشيات التي استطاعت تحقيق نصر على جماعات مسلحة أخرى، وأخرجتها من مواقعها في طرابلس لكي تصبح العاصمة تحت سيطرتها ونفوذها وتشكل حكومة ومجلسا تابعين لها، لم يكن ممكنا أن تستطيع مجابهة كامل الجيش الليبي متحالفا مع تلك الجماعات المسلحة التي أطردتها، وأقصى ما كانت تستطيع تحقيقه هو المحافظة على موقعها في العاصمة وبعض المدن في الجهة الغربية من البلاد.
المزيد: المبعوث الأممي: الاتفاق الليبي بات في مرحلته الأخيرة
كذلك فإن الجيش الوطني الذي يخضع لسلطة البرلمان والحكومة المؤقتة والذي يواجه حربا ضروسا في مواقغ نفوذه في الشرق، لم يستطع حسم معارك بنغازي مع المتطرفين الإسلاميين، ولا حسم المعركة في درنة مع الدواعش، ولم يكن ممكنا أن يحسم المعركة مع الجماعات المسلحة التي تهيمن على طرابلس بعد أن كانت متحالفة مع الإسلام السياسي المعتدل كما يسمونه متمثلا في جماعة الإخوان المسلمين. ولم يحصل زحف هذه الميليشيات على طرابلس وإخراج الحكومة وعدم التمكين للبرلمان، إلا بعد أن منيت هذه الجماعة بالخسارة في الانتخابات، وصار القرار أن ما ضاع عن طريق الصندوق، يجب تعويضه عن طريق القوة والسلاح، ونجحت هذه السياسة في إبقاء هذه الجماعة فاعلة في المشهد السياسي، وفي السعي لاقتسام السلطة بعيدا عن صندوق الانتخابات.
وكانت المسألة ستراوح مكانها لوقت أطول، لولا دخول عامل جديد أفزع الليبيين، مثلما أفزع دول الجوار، وأفزع أيضا قوى المجتمع الدولي، هو هذا التمدد الداعشي واستشراؤه في ليبيا، إلى حد سيطرته على مدينة سرت التي كان نظام القذافي يعدّها لتكون عاصمة البلاد، لما يتوفر لها من عوامل متمثلة في ميناء ومطار ومخازن للأسلحة ومجموعة من المؤسسات الاقتصادية.
وبسبب رفض المجتمع الليبي لمثل هذا الإسلام المتطرف، لجأت جماعة داعش إلى الإجرام ومداهمة الأحياء المدنية، وذبح المواطنين الآمنين، مما أطلق صرخة فزع واستنكار ترددت أصداؤها في أركان الأرض، لبشاعة ما حدث، وشكل هذا الزحف الداعشي عامل ضغط على كل الأطراف للتعجيل بالوصول إلى حكومة الوحدة الوطنية، التي ستكون بالضرورة، اللبنة الأولى في صيرورة البناء والتأسيس للدولة الجديدة.
سمعنا كلمات التفاؤل من مندوب الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، وحديثه عن قرب التوصل إلى المصالحة وتشكيل هذه الحكومة، عدة مرات دون أن نرى شيئا يتحقق على أرض الواقع، ولكن هذه المرة كان التصريح بقرب الوصول إلى الحل، لم يقتصر عليه بل جاء من كل القوى الفاعلة في المشهديْن الدولي والإقليمي، سمعناه من متحدثين رسمين على المستوى الإقليمي مثل الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووزير الخارجية المصري، كما جاء على لسان الناطق باسم الاتحاد الأوروبي ووزراء خارجية في دول الاتحاد الأوروبي، ولابد أن هذه التصريحات التي تبشر بانتهاء المفاوضات إلى النتيجة المأمولة، لم تصدر من فراغ وإنما من معطيات حقيقية تحتم هذا الحل الذي لا بديل له إلا الطوفان.
* كاتب ليبي/”العرب”