وفاة عبد الله بها… أوحين يـترجل فارس الحكمة والصمت البليغ عن جواده

ها هو الموت يصر أن يذكرنا أن لكل البدايات نهاية، ولكل إشراق غروب، وأننا مهما بالغنا في حبنا لبعضنا لن نحجزه أن يحل ضيفا علينا بلا ميعاد ولا ترتيب، وأنه القدر المحتوم الذي لا مفر منه، وأنه الحقيقة المفجعة التي نريد مداراتها بوقع الأيام وصخب الحياة علنا ننساها بين ثنايا الزمن أو لعلها تنسانا الى حين، ولكنه يصر دوما أن يأتينا صارما في الميعاد المكتوب، ناجزا بلا تأخير، فاجعا بلا تردد أو رحمة، فلذلك وصفه الله حينا بالمصيبة إحالة على فجيعة وقعه، وحينا بالحق واليقين إحالة على صارم موعده.
غادرنا بوقع الفجيعة الأستاذ عبد الله بها فارس الحكمة، ورائد الصمت البليغ، رجل عجنت ملامح حضوره الرزين بيئة سوس التي حملتها تجاعيد محياه الموشية بالرشد الباذخ و الحكمة الطافحة، ونبتت على جنبات صمته كما في عمق كلامه إشراقة حكمة وارفة، تذكرنا بنخيل واحاته في عمق الاطلس الصغير، حيث يكون النخيل صنوا للحياة ومرادفا للظل في حر الصحراء، رجل من زمن احتضنت فيه الكلمات رونق الصدق بلا دلال عابر ولا غنج سافر زائل، زمن موغل في القدم تتشابه فيه اللحظات كأنه التاريخ الذي لا يمل من تكرار نفسه بعناد الحقائق الجليات، زمن تتكاثف فيه الشخوص حتى كأنها ملامح عديدة لوجه واحد، وجه اعتلت ناصيته تكبيرة الإحرام، ومقامات إياك نعبد وإياك نستعين، في جولات الحياة التي توحدها حتمية النهايات، لقد كان رحمه الله امتدادا لموكب وضاء من حاملي الكلمات المتوضئة من رياض الصدق وبهاء الوفاء، تخاله زمنا بلا انقضاء منبجسا من رجع كلماتهم ووجع قبضهم على جمر رسالاتهم، في كل لحظات مروره من دنيا الناس الفانية وهو شاب يتوشح حماس لحظته قابضا على حلمه بين جوانحه، مبصرا خلف الحجاب الكثيف لنقع الاحداث المتسارعة ومتاهات التفاصيل المكرورة الخادعة، أن مصير التغيير لا تصنعه الارادات المنبثة ولو سكن نياتها صدق الأولين والآخرين، وأن شرف الوصول لحسن الخواتم إنما تدركه الخطى المسددة برجاحة العقل والمستنيرة بآيات الوحي والمستحضرة لتجارب المباركين من الرجال والأنبياء والعلماء، ومن ذلك كان يستمد هدوءه الذي لا تزحزحه نوائب السياسة ولا أفراحها، ولا تكدر صفو رؤيته أحزانها ولا أعراسها، فعاش متصوفا على أعتاب السياسة زاهدا في ضجيجها وأضوائها، معتكفا في محراب التبتل برؤية المآلات وجس نبض وقع الأفعال على الناس معاشا ومعادا، وسداد ذلك وفق منهج الرشاد الرباني الذي لا يتنكر لسنن التاريخ ولا يتنكب عن منهج العقل وآيات النقل.
كنت دائما أطرح سؤالا على نفسي، ما الذي يجمع فقيدنا مع الاستاذ عبد الاله بنكيران وما سر هذه الرفقة التي طالت عمرا مديدا، وصنعت تحولات مفصلية في صياغة العقل الاسلامي الحركي في هذا البلد الامين، والتي انتجت خصوصيته و ابرزت فرادته، وهي التي أوصلت قطار رفقتهما إلى مقام قيادة التحول الديموقراطي في المغرب، وصياغة فرادته في توقيعه على نسخته من الربيع، إلا أنني لم ادرك كنه هذه العلاقة إلا متأخرا، وأنا الذي كانت تحجبني أسوار من الوعي الزائف الذي لا يرى من السياسة إلا الأقنعة الزائلة، ولا يرى لها معنى إلا ضمن صراع محموم موهوم، حقائقه مضمرة، وحساباته معقدة متشابكة، لأفهم ولو متأخرا من بساطة الرجل وزهده، أن المسار طويل وممتد بقدر عمقه في دفئ الهوية، وأحضان الخصوصية، وأن زاد الطريق رفقة ناصحة أمينة، تستلزم تكاملا في النظر، ورفقا في الإشارة، وبعدا في الرؤية، واستشرافا يتنزه عن مخالطة الأهواء، أو التلبس بزيف الأرآء، وحصافة لا تعتقلها التفاصيل في وعدها ووعيدها في جنانها وجحيمها.
وتيقنت أكثر في أن اختيار لحظة الفراق في علم الله في مكان رحيل فارس آخر من فرسان الاخلاق والنبل سي أحمد الزايدي، تنبيها لنا أن زمن الفروسية لا لون له إلا النبل في الملامح والصدق في الكلمات، وأن رحيل الفرسان موجع الى حد الصدمة، وان حيواتهم لا تحتمل تخمة من تفاصيلنا المقرفة، وأنها تستعجل الرحيل بلا تحية للوداع، ما دام الموعد المحتوم في جنان الرحمن بإذن كريم منان.

*كاتب مغربي/ عن موقع “حزب العدالة والتنمية”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *